الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


42. الموقف الثاني والأربعون

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾[ص: 38: /34 ـ 35].

كان سليمان (عليه السلام) قال: لأطوفن الليلة على مئة امرأة، تحمل كل واحدة منهن بفارس، يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهنَّ إلاَّ واحدة، جاءت بشق إنسان!!. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه. والمراد بصاحبه الملك. وتركه (عليه السلام) قول «إن شاء الله» كان نسياناً. وبعدما صدر منه هذا، وكان ما كان، كشف الله عن عينه الثابتة فرأى أنه سيحصل له ملك، زيادة على ما كان له من الملك. وأنه لا يحصل لأحد من بعده مثله، بشرط سؤاله لذلك. فأناب ورجع عن مراده واستغفر من تمني مالا علم له بحصوله، وإن كان تمني خير. ودعا ربّه أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، لا حسداً لغيره، ول رغبة في الملك، ولا تحجيراً على الله تعالى ولكن المقام أو الكشف اقتضى هذ السؤال، فإن الحق تعالى يعلم الأشياء على ماهي عليه، حيث كان العلم تابعاً للمعلوم، فما كان من الممكنات يحصل بشرط أو سبب أو شروط أو أسباب، يعلمه تعالى بشرطه أو سببه. وماكان يحصل لا عن شرط ولا سبب، يعلمه كذلك، فاستغفاره (عليه السلام) ماكان عن ذنب، وإنما كان من تمنّيه ورغبته فيما لا علم له بحصوله، وتركه «إن شاء الله» لا غير. وهذا لا يوجب استغفاراً في حق غير الأنبياء، ولكن مقام النبوّة اقتضى الاستغفار من مثل هذا. فحسنات الأبرار سيّئات المقربين. وسمى الحق تعالى ولادة شقّ الإنسان لسليمان (عليه السلام) فتنة له، حيث كان الأمر ضد رغبته وخلاف أمنيته، فإنه تمنّى مئة فارس تجاهد في سبيل الله. فكان الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شق الإنسان الذي ولد له. وعبّر تعالى عن ولادة الشق بإلقائه على الكرسي،  حيث كان ذلك بسبب سليمان (عليه السلام). وقرن الحق تعالى قصة فتنة سليمان مع قصة سؤاله ملكاً ل ينبغي لأحد من بعده، حيث كانت القصّة الثانية كالتسلية له (عليه السلام) ولا يخفى عن أرباب البلاغة، العارفين برشاقة الكلام ورقة المعاني، وما في هذه الألفاظ من المناسبة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!