الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


43. الموقف الثالث والأربعون

قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾[المطففين: 83/15].

كل من يسمع ذكر الحجاب من غير العارفين، يتوهم أنَّ هناك حجاباً ومحجوباً عنه، كما هو المتبادر من جوهر اللفظ. وهذا وهم باطل، لأنه ليس ثمة إلاَّ الحق تعالى والخلق، أعني مرتبة الوجوب والإمكان، ولا واسطة بينهما. فالخلق حجاب عن نفسه باعتبار، ومحجوب باعتبار. فهو محجوب من حيث أنه حين حصول المعرفة بالله والعلم به، يكون الخلق هو العارف العالم لا غيره من حيث أنه لا واسطة بين الحق والخلق. وقد كانت المعرفة والعلم منتفيه معدومة ثم حصلت المعرفة والعلم، فهو الحجاب. وهذا من أعجب ما يسمع وأغرب ما يعلم. بل عند التحقّق مسمى الحجاب لا عين له موجودة، لا حقيقة ولا مجازاً إذ لا حجاب إلاَّ الجهل، والجهل عدم العلم، لأن تقابله مع العلم تقابل العدم والملكة. وإذا رحم الله عبداً بمعرفته لا يجد حجاباً، ولا يعرف كيف كان هذا المانع من المعرفة بالله، ولا كيف زال، ولا كيف حصلت المعرفة. إنه يجد نفسه ما ارتحل عن مكانه، ولا دخل عليه شيء من خارج، بل هو هو!! فمن أين جاءت هذه المعرفة، وحصل هذا العلم، وكل هذا الاتساع الباطني؟! فسبحان القاهر الحكيم الذي يحجب بلا حجاب، ويعلّم بلا معلم، ويستتر بلا ستر، ويظهر بل ظهور.

وأمّا ما ورد في الخبر: «إنَّ لله سبعين حجاباً من نور». رواه أبو الشيخ، وزاد الطبراني:

«وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه».

فالمراد بالحجب هنا المظاهر العظيمة، والتعينات الفخيمة التي هي حجب على نفسها وعلى غيرها، وليس المراد خصوص هذا العدد، وإنَّما المراد التكثير، فالحجب النورانية هي الحقائق الغيبية، والحجب الظلمانية هي الحقائق الكونية، كلها متفقة في الحجابية، بمعنى أنها سترت المحجوب، لأنها سترت الحق تعالى عن ذلك. وقوله:

«لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه».

كل من رأيناه تكلم على هذا الحديث من العارفين رأيناه جعل ضمير «بصره» عائداً على الحق تعالى والذي ألقاه الحق عليَّ: أنه عايد على ما وقعت عليه، وهي واقعة على المخلوق، إذ الحق تعالى ليس بمحجوب، وبصره يدركنا بلا ريب، وإنم نحن المحجوبون، وأبصارنا لا تدركه. فإذا أراد تعالى رفع الحجاب وكشفه عن أحد من مخلوقاته، وليس إلاَّ الجهل، وواجهته السبحات الوجهية، أحرقت خلقيته، فزالت حجابيته، وثبتت حقيته. وفي الحجاب رحمة لبعض الخلق، وفي كشفه رحمة لبعضهم. كما قال بعض التراجمة:

فلو أني ظهرت بلا حجاب

لتيّمت الخلائق أجمعين

ولكن في الحجاب لطيف معنى

 

به تحيا قلوب العاشقين

فالممتنع هو كشفه عن الجميع فلا تحرقه السبحات الوجهية، لا عن البعض، وعندم تحترق الخلقية، وتبقى الحقية، يبصر الحق نفسه بنفسه، إذ الخلق محترق منتف. وجعل (صلى الله عليه وسلم) نسبة الأبصار إلينا، وهو المبصر والمبصر حقيقة، فأحرقت سبحات وجهه المخلوق الذي يريه تعالى نسبة الإبصار إليه، ففني فاحترقت خلقيته وانمحقت، فرآه، وما رأى الحق إلاَّ الحق تعالى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!