الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


41. الموقف الواحد والأربعون

قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[النحل: 16/ 98].

الحكمة في الأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، عند إرادة قراءة القرآن، وعدم الأمر بذلك عند إرادة الصلاة أو الصوم أو الذكر، أو غير ذلك من سائر العبادات، هو أنَّ القصد الأول بالقرآن، بيان الأحكام من حلال وحرام ووجوب وحضر، وذكر قصص الأنبياء وأخبار الأمم البائدة، والقرون الماضية، مع ذكر الجنّة والنار وم أعدَّ لأهلهما، من الكرامة والإهانة، والوعد والوعيد، فكأن قارئه لا يقصد منه غالباً، إلاَّ معروفة ما ذكر. فأمر لذلك بالتحصين من الشيطان، لئلا يضلّه عن طريق الرشاد، ويزيغه عن القصد، فيما يقصد معرفته، على مراد الله تعالى فإنَّ القرآن العزيز كما قال فيه تعالى يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً، ولهذا ترى جميع الفرق الإسلامية الثلاث والسبعين، تأخذ أدلتها والحجج لمذاهبها مع تباينها من القرآن العظيم. وما ذلك إلاَّ لإعجازه وخروجه عن طوق البشر، بخلاف سائر العبادات. فليس المقصود منها عند التلبس بها إذا كانت جارية على مراد الله منه في أدائه إلاَّ مجالسة الحق تعالى والخلوة به، مع صرف النظر عن كل مخلوق، ولنسيان كلّ سوى، والاشتغال بمشاهدة من ليس كمثله شيء، والغيبة عن الجنة والنار، والملك والملكوت. ومن كانت عبادته على هذا الوجه فما للشيطان عليه من سبيل، فهي حصنه من الشيطان. فتبين من هذا أن المقصود الأغلب من قراءة القرآن أحكام الله تعالى ومخلوقاته. والمقصود من سائر العبادات: عينه، ولهذا ترى العارفين بالله بطريق السلوك إليه يسلكون مريديهم بالأذكار وسائر نوافل الخيرات. ولا يأمرونهم بالتلاوة إلاَّ قدر الحاجة. لأنَّ تلاوة القرآن للمبتدئ الجاهل بالله تعالى لا تجديه غالباً في رفع حجبه، والترقي إلى المراتب العلّية، والعارف الكامل يتلوه على طريق، لا يهتدي إليها غيره، فيستخرج منه الأسرار والعلوم والمعارف والفوائد التي تحار العقول فيها.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!