
المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف
للأمير عبد القادر الحسني الجزائري
![]() |
![]() |
40. الموقف الأربعون
قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ [يوسف: 12/ 26].
سأل بعض الأصحاب عن الأفضلية بين الملك وخواص البشر، وذكر اختلاف أهل الظاهر والباطن، وما رد على كل دليل؛ بحيث ما سلم دليل من معارضة ونقض واحتمال. واستغرب اختلاف أهل الباطن من حيث أنهم أهل شهود وكشف. فالشيخ الأكبر قال بفضل الملك. والشيخ الجيلي فضّل خواص البشر. فأجبته: بأنه لا غرابة في اختلاف العارفين في معلوم لا تعلق له بمعرفة الله وتوحيده. وانظر إلى قصة موسى وخضر (عليه السلام) وهما ما هما، يقول: ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾[الكهف: 18/ 74]. ﴿شَيْئاً إِمْراً﴾[الكهف 18/ 71]. ويقول الخضر: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[الكهف: 18/ 82]. ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾[الكهف: 18/ 82].وقول الخضر لموسى في هذه القضية نفسها: أنت على علم علّمك الله لا ينبغي لي أن أعلمه، وأن على علم علمنيه الله لا ينبغي لك أن تعلمه. وقوله: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاَّ كما نقّص هذا العصفور بنقرته من البحر.
وفي صبيحة تلك الليلة توجّهت إلى الحق تعالى في كشف هذه المسألة، فأخذني الحق عن العالم وعن نفسي، وأَلْقَى إليَّ قوله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: 46/ 10].
فلما رجعت إلى الحس فهمت من إشارة الآية الكريمة أنَّ الشاهد الذي شهد في هذه المسألة هو الشيخ الأكبر، على مثله في البشرية و الجنسية، يعني الكل من البشر. وشهادته عليهم للملائكة، بثبوت الأفضلية من جهة، واعتبار «فآمَنَ». يعني الشيخ الأكبر، بما أشهده الحق من ثبوت الأفضلية للملك باعتباره.
ومن وجه ﴿ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ يعني استكبر من قال بأفضلية خواص البشر على الملك مطلقاً. وما أظن الشيخ الجيلي يقول بأفضلية خواص البشر على الملك مطلقاً. فإنَّ للملك فضلاً بالتوسط بين الحق وخواص البشر بالوحي والإلهام. وإن كان للكمل من خواص البشر تلق من الوجه الخاص بلا واسطة ملك. والأكثر بواسطة الملك. وأن لخواص البشر الكاملين فضلاً بالجمعية الكمالية والمظهرية لجميع الأسماء الخلافية، وليس للملك هذه الجمعية.
ثم بعد، رأيت الشيخ الأكبر ذكر في الباب الثامن والخمسين وثلاثمائة مثل هذا، وقال في كتابه: «ما لا يعول عليه» ما نصه: الكشف الذي يؤدي إلى فضل الإنسان على الملائكة، أو فضل الملائكة على الإنسان مطلقاً من الجهتين لا يعوّل عليه، فكلامه هذا، وما ذكره في الباب المتقدم ذكره، نصّ في أن قوله: «يفضل الملك على خواص البشر»، إنما هو بوجه واعتبار، لا مطلقاً، والحمد لله على الموافقة.
![]() |
![]() |