الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


39. الموقف التاسع والثلاثون

قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[ق: 50/ 15].

وورد في الصحيح: أنه (صلى الله عليه وسلم) رأى جبريل مرتين على صورته

فرآه قد سدَّ الأفق لعظم صورته. وورد في أخبار كثيرة: أنَّ جبريل كان يدخل عليه (صلى الله عليه وسلم) في حجرة عائشة (رضي الله عنه) ويجلس معه فيها، وفي بعض الأخبار: أنَّ جبرائيل وإسرافيل جلسا معه (صلى الله عليه وسلم) في الحجرة.

ومن المعلوم أن الحجرة كانت صغيرة جداً. وقد تكلّم علماء الرسم في كون جبريل تارة يسدّ الأفق، وتارة تسعه الحجرة مع إسرافيل، وهو مثله في العظم. وجاؤو في ذلك بما لا يجدي. ولا يزيد الواقف عليه إلاَّ حيرة. بل كلام ماله مستند، ول عليه معتمد، وتكلّفوا وتعسفوا، وما علموا أنَّ العالم كلّه العرش وما حواه من الصور، سواء أكانت الصور حسيّة أو عقلية أو خيالية، فهي أعراض والمقوّم له والقائمة به هو الوجود الإضافي المسمّى بنفس الرحمن، وبالأسامي الكثيرة. فهي كالجوهر لها. وكما أنَّ العرض المعروف عند المتكلّمين لا يبقى زمانين عند الأشاعرة، يتجدّد في كل آن، يذهب ويخلفه مثله أو ضدّه، فكذلك هذه الصور المحسوسة، التي هي أعراض عند أهل الله تعالى العارفين به، وبحقائق الأشياء، وهي جواهر عند الجاهلين بالله تعالى وبحقائق الأشياء، لا تبقى زمانين، ففي كل آن يخلع النفس الرحماني الذي هو مقوّم للصور صورة ويلبس أخرى، إمَّا مثل الأولى أو مخالفة له هكذا على الدوام. وهذه الصور المحسوسة هي عند التحقق نسب وإضافات واعتبارات، وهي أحكام الأعيان الثابتة في العلم والعدم المعدومة أبداً وأزلاً، يظهر بها نفس الرحمن المسمى أيضاً بأمر الله الذي هو كلمح بالبصر، ولا بقاء لها ولا ثبات، لاسيّم الملائكة الكرام فإنها أرواح مجردة، مالها صورة مخصوصة لازمة.

ولما كان استعداد جبريل يقتضي الظهور بهذه الصور العظيمة مرة والصغيرة أخرى، وذلك في نظر المدرك فقط، بإرادة جبريل، ظهر نفس الرحمن بهذا الاستعداد تارة هكذا وتارة هكذا، وهو جبريل حقيقة في كل صورة وظل ظهور. والصور التي يخلعها النفس الرحماني تنعدم في الحسّ كما هي معدومة في نفس الأمر إن لبس خلافها أو ضدها. وأم إنْ لبِس مثلها، فإنه لا يدرك انعدامها، إلاَّ بكشف صائب، أو عقل ثاقب. فالصور ل بقاء لها زمانين على كل حال، لأنها أعراض. فالصور التي هي جبريل، مع كثرتها وصغره وكبرها واختلافها، هي أحكام عين جبريل الثابتة في العلم، والظاهر بها هو نفس الرحمن، وأمر الله الظاهر بأحكام كل عين، سواء العين المسماة بجبريل وغيرها من سائر المخلوقات المقدرات. ومن استعداد جبريل وأحكام عينه تعدد صوره واختلافها. وهكذا جميع الملائكة والروحانيين، من جنّ وولي متروحن. وإني قد بيّنت الحق في هذه المسألة، وإن كانت لا تقبلها العقول، لأنها فوق طورها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!