الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


38. الموقف الثامن والثلاثون

قال تعالى، في الحديث الرباني: ((أنا عند ظنّ عبدي بي)) إلى آخر الحديث.

هذا الحديث تلقيته تلقياً روحانياً غيبياً بزيادة لفظة "المؤمن" بعد لفظة "عبدي" والرواية المعروفة في الصحيح إسقاط لفظة "المؤمن" وما أدري هل وردت رواية به أم لا؟.. والمراد بالظن هنا، الاعتقاد الجازم، كما في قوله:

﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ﴾[البقرة: 2/ 46].

لأنَّ الظنَّ القوي كالعلم. المعنى: أنه تعالى عند اعتقاد كل معتقد، بل هو عين الاعتقاد. فجميع عقائد الخلق، على اختلافها، الحق عندها أي عينها. فهو على ما اعتقدوا فيه، سواء أكانت حقاً في ظاهر الشرائع، أو باطلة. غير أنَّ من وافقت عقيدته ظاهر الشرع فعقده صحيح ظاهراً وباطناً، ومن خالف عقده ظاهر الشرع فالحق عند عقده باطناً لا ظاهراً، وهو مبطل آثم، وإنما كان الحق تعالى عند ظن كلّ معتقد لأنه ليس هناك غير له، فهو المعتقد والمعتقد فيه والعقد.

وجه آخر في المعنى: من ظنَّ واعتقد جازماً أنَّ كلَّ محسوس ومعقول ومتخيل هو الحق الظاهر في هذه المحسوسات والمعقولات والمتخيلات، فالحق عند ظنّه، أي هو كذلك تعالى فهو عين الأشياء بحقيقته المتعينة، والأشياء كلّها أعدام باطلة، وخيالات عاطلة. وإن جزم وظن أنَّ الحق تعالى مغاير لكل محسوس ومعقول ومتوهم ومتخيل، فالحق عند ظنه، أي هو كذلك بحقيقته المطلقة. وإن ظن جازماً أن الحق تعالى محسوس، غير محسوس، معقول غير معقول، متخيل غير متخيل، فهو كذلك جامع للتنافي والتضاد، بل هو عين التنافي والتضاد، قابل لصفات الوجوب والإمكان. ولمَّ يتجلَّى الحق تعالى لأهل المحشر، بعد ما ينكرونه، ويتعوذون منه، كما في الخبر، يتجلّى بصورة كل معتقد اعتقده الخلائق فيه، من أول معتقد إلى آخر معتقد من هذه الأمة المحمدية، حتى يقرر الخلائق كلّهم بأنه ربهم ويعرفونه، لأنَّ العلامة التي يقولون أنَّ بينهم وبين ربهم علامة ليست إلاَّ الاعتقادات التي يعتقد كل معتقد أن ربّه كذا وليس كذا، فيتجلّى الحق في ذلك الزمان الفرد بما يعتقده فيه كل واحد من الجن والإنس. ولو بقي واحد ما تجلّى له بمعتقده ما عرفه. ولا أقرَّ لّه بأنه ربّه، وذلك لا يكون، والله واسع عليم. وقوله : فليظن بي ما شاء؛ ليس الأمر على ظاهره أمراً، ولا هو للتخبير والإباحة، وإنما المراد أنَّ الحق تعالى قابل لكلّ معتقد. ولولا تجليه تعالى لذلك المعتقد في صورة ما اعتقده ما كان ذلك الاعتقاد، لأن من العقائد والظنون ما نهى الشارع عنها، وإن كان الأمر باطناً كم قلنا، لحكمة هو يعلمها. والله لا يأمر بالفحشاء، وليست الفحشاء إلاَّ ما نهى الشارع عنها. إذ لا حاكم إلاَّ هو عندنا. ولذا قال آخر الحديث: ((إن خيراً فخير، وإن شراً فشر)) فالخير ظن الإطلاق، والتنزيه في التشبيه، والتشبيه في التنزيه، كم نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل (عليه السلام) والشرّ ظن التنزيه فقط أو التشبيه فقط. فكلا الفريقين أعور، الكامل يبصر بعينين، مشاهد للحقيقتين، عارف بالحضرتين، حضرة الإطلاق والتنزيه، وحضرة التقييد والتشبيه، فهو ينظر الإطلاق في التقييد، والتقييد في الإطلاق، والتنزيه في التشبيه، والتشبيه في التنزيه، في آن واحد، لا يحجبه هذ عن هذا، ولا هذا عن هذا...


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!