الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


36. الموقف السادس والثلاثون

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾[النساء: 4/64].

هذا إخبار منه تعالى أنه ما أرسل رسولاً من رسله إلاَّ ليطاع أي إلاَّ ليطيعه كلّ من أرسل إليهم المصدق والمكذب، والمهتدي به والضال، وذلك إمَّ طاعة الأمر الظاهر، وإمَّا طاعة المشيئة الباطنة. وإذا أرسل الحق تعالى رسله ليطاعوا فلا يكن غير الطاعة أبداً. بل لا يتصور خلاف الطاعة. وكل رسول لابدَّ أن يهتدي به بعض من أرسل إليهم، ويضل به بعض، فإنه أرسل لبيان الطاعتين معاً قال تعالى في حق القرآن العظيم:

﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾[البقرة: 2/26].

وما أطيع رسول الطاعة الظاهرة بحيث اهتدى به كل من أرسل إليهم، ول عُصِيَ بحيث ما اهتدى به أحد، ولابدَّ لكل رسول من هذين الأمرين، ولمن أرسل إليهم من الطاعة بهذين الحكمين، وظهور الضلالة والهداية فيهم. فالمهتدي أطاع الأمر الظاهر، والضال أطاع الأمر الباطن. وكلا الأمرين أرسل الرسول بهما، لأن رسالته لتبين الرشد من الغيّ، فحيث كان ضلال الضالّ مستوراً وتبين بسبب الرسول، كَانَ ظهور ضلاله طاعة للرسول من هذا الوجه، لأنه لابدَّ من ظهور الهدى والضلالة بالرسول، فكأن الرسول أرسل بذلك. فظهور الضلالة طاعة له، وقوله ﴿ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ أي بعلمه، يعني أن الواقع من طاعة كلّ رسول بهذين الأمرين، وظهور أثر هذين الاسمين، الهادي والمضل، واقع بعلمه وإرادته تعالى وجلّ ربنا أن يقع في ملكه ما لا يعلمه ول يريده. أو معنى ﴿ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ بإعلامه، أي لابدَّ من طاعة كلّ رسول بإظهار الهدى والضلالة. وهذا بإعلام الله وإخباره. وخبره على وفق علمه. والخبر على وفق العلم لا يكون إلاَّ صدقاً. وأما كون اللازم في «لِيُطَاعَ» لام العلة أو لام العاقبة والصيرورة، وكون الطاعة طاعة الأمر الظاهر فقط، فممّا يأباه التحقيق.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!