الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


35. الموقف الخامس والثلاثون

قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد: 47/ 19].

فالحق تعالى إنما أمر عباده بمعرفة مرتبة ذاته، وهي الألوهية، وم أمرهم بمعرفة ذاته التي هي الغيب المطلق والوجود البحت. بل نهاهم عن طلب ذلك. قال تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[آل عمران: 3/30]. وقال (صلى الله عليه وسلم):

((تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذاته)).

فما أمر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) إلاَّ بمعرفة الألوهية التي هي مرتبة الذات وظهور الصفات. لأنَّ الأثر ليس إلاَّ للصفات، وإن كانت لا عين لها، وإنما هي مراتب للذات. ومعرفة الأثر توصل إلى معرفة المؤثّر، كما قيل: البعرة تدل على البعير. فالذات من حيث هو هو لا يدرك حسّاً ولا عقلاً ولا كشفاً. بخلافها من حيث مرتبة الألوهيّة، فإنها تدرك حسّاً وعقلاً وكشفاً. والمتكلمون في التوحيد العقلي خلطوا الأمر، وحيروا الفكر، وخبطوا خبط عشواء في ليلة ظلماء. فكلامهم إن كان في الذات البحت، فالذات لا كلام فيها بنفي ولا إثبات. وإن كان في مرتبة الذات، وهي الألوهية، فهي لا حجر عليها ولا حصر، ولا تقييد لها. فالذات البحت لا خبر عنها ولا وصف ولا اسم ولا حكم ولا رسم؛ المخبر عنها صامت، والناظر إليها باهت، فإن المطلق بالإطلاق الحقيقي لا يصح الحكم عليها بشيء؛ وإلاَّ انقلبت حقيقته وصار مقيداً، وقلب الحقائق محال. ومرتبة الألوهية مطلقة مقيدة، فهي جامعة للضدين، مطلقة من حيث أنها لا حصر ولا حدَّ لظهوراتها فلا ينفي عنها التعين والظهور بشيء من الصور الحسّية أو العقلّية أو الخياليّة، ولا التحول في التصور، ول النزول والمجيء والهرولة والجوع والعطش والمرض، ولا الجمع بين الضدين كالأوليّة والآخرية، والظاهرية والباطنية، وكونه في الأرض السابعة، ومستو على العرش، وموجود في كلّ مكان ومع كل مخلوق وقائم على كل نفس... ونحو هذا ممّا ورد في الكتاب والسنة، وأما كونها مقيّدة، فمن كونها هي الظاهرة بكلّ مظهر، المتعيّنة بكل تعين. وما ظهر شيء من الأشياء ولا تعيّن إلاَّ منها، وهي في حال تعيّنها وتقيده بالمظاهر مطلقة، فتقيدها عين إطلاقها. ولولا إطلاقها ما ظهرت بالمظاهر التي ل نهاية لها، مع وحدتها وعدم تجزئتها. فمرتبة الإطلاق لا يحكم عليها بشيء. ومرتبة التقييد والظهور لا ينفى عنها شيء جاء في الكتب أو على السنة الرسل (عليه السلام) أو أذنوا فيه أو في مثله. وكل من حصر الحق في معتقد ونفاه عمَّا عداه، فهو جاهل بالله، كائناً من كان، وبالخصوص إذا ظنَّ التقييد إطلاقاً كالمتكلّمين، فلا ضد للحقّ تعالى فينافيه ويناويه، ولا مثل له فيشبهه ويدانيه، من حيث الذات. فمن نظر في قول المتكلمين: الحق تعالى لا يكون كذا، وليس هو كذا، فلا يدري كلامهم أهو في مرتبة الذات البحت الغيب المطلق، الذي لا يعلم منه إلاَّ نسبه واعتباراته، أو كلامهم في مرتبة الذات المطلق، وهي الألوهية، التي جاءت الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، في أوصافها بالمتضادات، وبحيطتها بأنواع المنافاة وبتعينها بكل التعينات، وتشبيهها بأنواع التشبيهات. فإذا رددنا ما وصف الحق به نفسه على ما يليق بكبريائه، وما قبلناه وأجريناه على ما يوافق عقولنا، وأوّلناه وخضنا بأفكارنا فيما وصفته به رسله الذين هم أعرف الخلق به تعالى كنّا جاهلين، بل كنّا غير مؤمنين بكلام الله وكلام رسله، بل مؤمنين بما خسّنته عقولنا وأدت إليه إفكارنا. نعوذ بالله أن نكون من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!