الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


340. الموقف الأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا﴾ [البقرة: 2/259].

﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ [الروم : 30/50].

﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾[الغاشية: 88/17].

وقال: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ﴾[ق:50/6].

ونحو هذا مما عدّي به النظر به (إلى) فاعلم أن الله تعالى إذا أراد من العبد النظر بالبصر الظاهر إلى ظاهر الشيء المأمور بالنظر إليه، كما في الآيات المذكورة ونحوها، قال انظر إلى كذا، فعدّى النظر بـ (إلى) لأن البصر الظاهر ل يدرك إلا ظواهر الأشياء، أجسامها وسطوحها وألوانها لا غير، فلا نفوذ له إلى بواطن الأشياء كما أنه تعالى إذا أراد النظر إلى بواطن الأشياء وملكوتها قال انظر في كذا، فعدّى النظر بالفاء كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ﴾[الأعراف: 7/185].

أراد النظر إلى بواطن السموات والأرض وباطن كل مخلوق من الأشياء. وملكوت كلّ شيء باطنه، إذ العوالم ثلاثة: عالم الملك، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، فعالم الملك: هو عالم الشهادة المدرك بالأبصار الظاهرة، ظاهر لظاهر. وعالم الملكوت: هو باطن عالم الملك وهو المدرك بالبصائر الباطنة، باطن لباطن، وعالم الجبروت: عالم الأسماء المتحكم في الملك والملكوت وهو المدرك بالعقول، فمن أدرك ببصره جسماً متحركاً مثلاً طلب مشاهدة محركه ببصيرته، وأدرك المؤثر في المحرك والمتحرك بعقله مثلاً، وقال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[يونس: 7/101].

ماقال انظروا إلى السموات والأرض، فإنه ما أراد النظر إلى أجرامه وألوانها، وإنما أراد النظر في بواطنها وفيما اشتملت عليه من العبر والآيات الباطنة التي لا تدرك بالأبصار الظاهرة، وإنما تدرك بالأبصار الباطنة. وإن المدرك بالبصر والبصيرة وا حد، فإن أدرك بالبصر الظاهر أدرك ظواهر الأشياء، وإذا أدرك بالبصيرة التي هي باطن البصر أدرك بواطن الأشياء. وقال تعالى:﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات:51/21].

أراد الأبصار بالبصيرة لا بالبصر، إذ النفس من عالم الملكوت فلا تدرك بالبصر. أحال تعالى معرفته على معرفة النفس، وقد ورد: «من عرف نفسه عرف ربه».

فمعرفة النفس مقدمة وسُلَّم لمعرفة الرب، فإنه تعالى خلقها ليُرتقى به إلى معرفة الرب. فمعرفتها أصل ومعرفة الرب فرع عنها، فهو تعالى أصل في الوجود، فرع في المعرفة، والنفس بالعكس فالنفس مثال، بل ومثل مثلية لغوية لا عقلية، إذ إنه تعالى جعل لكل ماهو عليه من الصفات والنعوت أنموذجاً في صورة النفس، فما فعل الفاعل تعالى شيئاً إلاَّ وله مثله و: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 51/11].

قال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[الإسراء: 17/84].

أي كل عامل إنما يعمل ما يشاكله ويشابهه فافهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!