الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


341. الموقف الواحد والأربعون بعد الثلاثمائة

قال تعالى حكاية قول الملائكة: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّ لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾[الصافات: 38/165-166].

وقال: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ﴾[البقرة: 2/30].

وقال: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَ عَلَّمْتَنَا﴾[البقرة: 2/32].

ونحو هذا فما تبجحت وافتخرت إلاَّ بالتسبيح، وهو التنزيه، بمعنى التبعيد عن صفات النقص وسمات الحدوث. فليس للملائكة شهود الحق تعالى إلاَّ في الهوية، وهي مرتبة التنزيه المطلق. فإن للحق تعالى مرتبتين مرتبة الذات الهوية ومرتبة الألوهية. فما ورد في الكتب الإلهية والسنة المحمدية من التنزيه، فهو مصروف إلى مرتبة الذات الهوية. وما ورد في الكتب الإلهية و السنة من التشبيه فهو مصروف إلى مرتبة الألوهية. و الملائكة الكرام أرواح مجردة عن المادة، فإنها عالم الأمر الموجود عن الحق تعالى بلا واسطة مادة ولا سبب، غير قوله تعالى «كن» فإنه أرواح منفوخة في أنوار فليست لها القوة المتخيلة حتى تتخيل الحق تعالى وتشهده في الصور الخيالية والحسية والمعنوية كما يشهده الإنسان في الصور كلها، ويشهده في الهوية مجرداً عن الصور كلها لما خصه الله به من الكمال. واعلم أن الملك هو عين الخيال، وحقيقة الخيال التحول وعدم الثبات، والاستحالة إما سريعة وإما بطيئة فلهذ الملك دائم التحول في الصور لا يثبت على صورة واحدة هذا، من صفاته الذاتية. ولم كانت الروح الإنسانية من جنس الملك كان لها التحول في الخواطر دائماً، ولا تثبت على صورة واحدة وهذا ضروري لمن راقب حاله. وقد قال بعض المراقبين: إن الإنسان يخطر له في كل يوم سبعون ألف خاطر، هي الصور التي يتحول فيها ، ولما كان الملك هو الخيال عينه كان كلما أراد الظهور بصورة خلقها وظهر بها في عين الرائي، ،إلاَّ فالملك على صورته التي خلقه الله عليها، والتطور في الصور إنما هو في مدرك الرائي، وهكذا كل روح تشكل من ملك وجن وإنسان متروحن، وحيث كان الملك لا متخيلة له ول عاقلة كانت علوم الملك و إدراكاته كلها كلية، ولا فرق عندها بين حسن وقبيح، كما هو عندنا، فلا تدرك من جميع المدركات إلاَّ جمال الكمال لا الجمال المقيد، فلا تدرك من كل شيء إلا الجمال المعنوي فلا تلتذ برؤيته الصور الجميلة عندنا ولا تتأذى برؤية الصور القبيحة. وما ورد في الصحيح أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان فإنما ذلك عند تشكيلها بالصور. ولما كانت علوم الملك با لله تعالى فطرية لا عن نظر وتخيل ولم يكن له استعداد رؤية الحق تعالى في الصور لحكم المتجلى فيه على المتجلى كان لذلك لا يأخذ العلوم بالله على التنزيه. وكذلك الإنسان إذا تروحن وتجرد عقله عن الطبيعة لا يأخذ العلم بالله إلاَّ على التنزيه، كالملك، ولا يحصل من حيث هو متجرد على معارف التجلي في الصور إلا إذا رجع إلى الدار الآخرة، وإنم كان الحكم هكذا لأن المرآة تظهر فيها الصورة بحسب المرآة من كبر وصغر واستقامة و اعوجاج وغير ذلك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!