الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


339. الموقف التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة

قال تعالى : ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحل:16/89].

وقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً﴾[النبأ: 78/29].

اعلم أن «كل شيء» من أسماء اللوح المحفوظ، وهو النفس الكلية التي خلقه الله تعالى للقلم الأعلى ليكتب فيها، فإنه ورد في الحديث الصحيح إنه تعالى «لما خلق القلم قال له: اكتب. قال : وما أكتب؟! قال: اكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة». فخلق الله له اللوح الذي هو «كل شيء» ليكتب فيه. وكان خلق النفس الكلية، وهو كل شيء، خلق انبعاث، انبعث من القلم كما انبعثت حواء من آدم. و«كل شيء»، هو الكتاب الجامع لجميع الكتب، وهو الذي كتب الله تعالى الألواح منه لموسى (عليه الصلاة و السلام كما أخبر بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 7/145].

أخبر تعالى في هذه الآية المترجم لها بطريق الإشارة أنه أحصى وضمَّ وجمع كل ما في كل شيء، وهو اللوح المحفوظ في الكتاب، وهو القرآن الكريم المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) فإن من أسمائه الكتاب قال: ﴿حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾[الزخرف: 43/1-2].وله خمسة وخمسون اسماً منها «المبين» ول يبعد أن يكون من أسمائه الإمام ويكون قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس: 36/12].

إشارة للمعنى الذي أشرنا إليه إذا لم تكن أسماء القرآن توقيفية، وقد اختلف في أسماء الله قيل توقيفية وقيل غير توقيفية، فكل شيء في كل شيء، فهو في الكتاب المبين القرآن المجيد، إذ الكتاب كلامه، وكلامه صفته العامة التعلق بالأقسام الثلاثة المعلومات، وصفته عين ذاته فافهم، فمن فتح له في فهم الكتاب القرأن لم يفته شيء مما يصح أن يعلم مما هو في اللوح المحفوظ المسمى بكل شيء، وفي الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)) .

وعن مجاهد أنه قال يوماً: مامن شيء في العالم إلاَّ هو في كتاب الله. فقيل له: فأين ذكر الخانات فيه! فقال: في قوله: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾[النور: 24/29].فهي الخانات. وقال عبد السلام بن برجان المراكشي. كل شيء فهو في كتاب الله القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهمه وعمه عنه من عمه، وقد استنبط بعضهم عمر النبي (صلى الله عليه وسلم) ثلاثاً وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: ﴿َلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا﴾[المنافقون: 63/11].فإنها رأس ثلاث وستين، وأعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده (صلى الله عليه وسلم) وروى عن ابن عباس ترجمان القرآن أنه قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله. وعنه أيضاً أنه قال ما حرك طائر جناحيه إلاَّ وجدنا ذلك في كتاب الله. وذكر العارف بالله ابن أبي جمرة فيما كتبه على صحيح البخاري، أنه روى عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: أسر لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بألف سريرة ، تحت كل سريرة ألف جنس،  تحت كل جنس ألف نوع من العلم المكنون المصون، ولو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة ثمانين بعيراً لفعلت. قال ابن أبي جمرة (رضي الله عنه) : وذلك أن الحمد له أركان من حامد ومحمود ومحمود به ومحمود عليه، والعالمين جمع عالم السموات والأرضون وما فيهما وما بينهما جزء من ثمانية عشر ألف عالم، فمن اتسع علمه كعلي بن أبي طالب يفعل أكثر مما قال: وكان شيخ الشيوخ أبو مدين (رضي الله عنه) يقول: لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد. وذكر عبد السلام بن برجان المراكشي في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿الم، غُلِبَتِ الرُّومُ﴾[الروم: 30/1-2]. فتح بيت المقدس وإجلاء الإفرنج عنها في رجب سنة ثلاثة وثمانين وخ مسمائة، فكان كما قال، فتحها يوسف صلاح الدين رحمه الله وكان أخذ حلباً قبل ذلك فهنأه بعض الشعراء، وذكر في شعره أن فتحه حلباً في صفر مؤذن بفتح القدس في رجب، فسأله صلاح الدين من أين له بهذا، فأخبره أنه رأى ذلك في تفسير ابن برجان. وذكر الشيخ الأكبر محي الدين في الفتوحات أنه عندما كان الموحدون يتجهزون لغزو الأندلس لقي رجلاً من أولياء الله فسأله: هل ينصر هذا الجيش؟.. فأجابه أنه ينصر ويفتح ويفتح له، وهو فتح بشر الله به رسوله (صلى الله عليه وسلم) في قوله: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾[النصر: 110/1]فكان كما قال، فتح ذلك الجيش فتوحات وا نتصر انتصارات . و الحاصل أن كل شيء في اللوح المحفوظ المسمى بكل شيء مفصل أ و مجمل فهو في الكتاب مفصل لمن فتح الله عين فهمه فيه كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾[الإسراء: 17/12].

أي في الكتاب، وفيه أصول العلوم التي بها صلاح الدين ونظامها، وصلاح الآخرة ونظامها، حتى علم الطب وا لهيئة والهندسة النجامة والجبر والمقابلة وأصول الصنائع، كا لخياطة و الحدادة و البناء والنجارة والنسج والغزل والصيد وا لغوص والفلاحة والصباغة وغير ذلك، والله عليكم حكيم، وعلى كل شيء قدير.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!