الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


338. الموقف الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[الأعلى: 78/14-15].

وقال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾[الشمس: 91/9].

اعلم أن الإنسان مجموع لطيف وكثيف وعال وسافل ونور وظلمة، فإنه بين أب وأم، فأبوه الروح وأمه العناصر و الطبيعة. فصفات الأب الروح كلّها خير محمودة ممدوحه، وصفات الأم الطبيعية مذمومة، ولما نزل الروح الجزئي إلى تدبير الجسم العنصري الطبيعي واشتغل بتدبيره شغل بحبه وتعشق به، ولم ير نفسه إلاَّ هو، أعني الجسم فقال:

أنا من أهوى ومن أهوى أن

لأنه أدرك بالتعلق به أشياء ما أدركها في عالمه الروحاني، فإنه أدرك الجزئيات ولم يدرك في عالمه إلاَّ الكليات، فانغمست لذلك في مقتضيات الطبيعة، وسعت في مطالبها الشهوانية و الأمور الجسمانية. ثم إذا أدركتها العناية الإلهية والسابقة الربانية تنبهت وتفطنت وتفكرت فيما هي فيه، فوجدت نفسها في مهواة التلف وا لغلط إذ هي غريبة في الوطن العنصري، ونزولها إليه ابتلاء وتمحيص. فحينئذٍ أخذت في الالتفات عن الجسم ومقتضيات الطبيعة الشهوانية بحسب الطاقة، وصارت تنسلخ من الصفات الحيوانية شيئاً فشيئاً بالرياضات النفسانية والمجاهدات الجسمانية. وهذا هو التزكية والطهارة، حيث الإنسان مجموع من خير وشر، صفات بهيمية حيوانية، وصفات ملكية قدسية. فإذا غلبت صفات الجسم الطبيعي لحق بالبهائم بل وبالشياطين، وإذا غلبت صفات الروح لحق بالملأ الأعلى عالم القدس والطهارة، بل الإنسان الكامل له اللحاق بخالقه تعالى فإنه مخلوق على الصورة الإلهية، وهي باطنة فيه، فله التخلق والتحقق بالأسماء الإلهية كلها. وقد ورد في الأخبار الإلهية ((أن لله ثلاثمائة خلق))، من لقيه بواحد منها أدخله الجنة. وفي خبر آخر: ((تخلفوا بأخلاق الله))، وفي الصحيح:

((إن لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة))

قبل إحصاءها التخلق بها، فمن تزكى هذه التزكية فقد أفلح، والفلاح هو الفوز والنجاة والباقي على الخير والظفر، وإدراك البغية وهي السعادة الأبدية والقرب من الله تعالى في حضرة القدس. وليس المراد من التزكية إعدام الصفات الطبيعية ومحوها رأساً كما يتوهم، فإنه محال إذ طينة الإنسان معجونة بها مركبة معها، وإنّما المراد عزل الطبيعة عن الاستبداد ومنعها عن الاسترسال في الأمور السفلية الشهوانية، فإن الله تعالى ما أنعم على الإنسان بالعقل إلا ليقابل به القوة الشهوانية وردها إلى حكم الشرع والعقل، ولهذا لما كانت الملائكة الكرام ل شهوة لهم لم يجعل الله تعالى لهم عقولاً، فكل من لا شهوة له لا عقل له، فإذ تزكى الإنسان كانت صفاته كلها وأفعاله محمودة، لأنه يصرفها فيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي بالقدر الذي ينبغي، فإن من هذه الصفات التي يقال فيها طبيعية ما نَعَتَ الحق تعالى نفسه بها،  كالغضب والانتقام وشدة البطش وشدة الإنتقام وشدة العقاب ونحوها، فحاصل تزكية النفس هو جعلها تحت الميزان الإلهي، وهو ما جاء به الشارع ونزل به القرآن الكريم. فإنه تعالى قائم بالقسط وبيده الميزان، وهو إعطاء كل ذي حق حقه من غير زيادة ولا نقصان، وهو مقام محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه،  كما ورد في الصحيح عن عائشة (رضي الله عنه) وقد سألت عنه (صلى الله عليه وسلم) فقالت: «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه»، تريد (رضي الله عنه) عنها أنه (صلى الله عليه وسلم) كان متخلقاً بأخلاق الله تعالى وأسمائه، فتأدّبت (رضي الله عنه) بقولها كان خلقه القرآن.

﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[الأعلى: 87/15].

هذا كالتفسير للتزكية، أي أ ثنى على ربه بأي اسم كان من أسماء الرب تعالى ـ. فالذكر هنا بمعنى الثناء هو كما في قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾[البقرة:2/200]. أي اثنوا عليه كثنائكم على آبائكم.

فصلى: فتخلق بالاسم الإلهي، فتحقق فصار مصلياً للسابق، وهو الحق تعالى ـ، إذ المصلى اسم لثاني خيل الحلبة،  العشرة في السباق. والحق تعالى قد يكون هو السابق كما هنا وكما في قوله:﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾[التوبة: 9/118].

وقد يكون العبد السابق والحق تعالى المصلي كما في قوله: ﴿َأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[البقرة:2/40]. وكما في قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: 2/152].

فإن قيل قال تعالى في معرض الذم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ﴾[النساء: 4/49].

وقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[النجم: 53/32].

قلنا على طريق الاعتبار والإشارة: المذموم هو أن يزكي الإنسان نفسه بنفسه لا بربّه، وعلى أنها له لا لربّه. والمطلوب أن يزكي الإنسان نفسه ويطهرها من نقائص الطبيعة ورذائل الشهوات بربه لا بنفسه، وعلى أنها بربه لا له. فإن المؤمن ل نفس له، إذ الله تعالى اشتراها منه سواء في ذلك النفس الحيوانية و الناطقة، وكلتاهم بائع ومبتاع، ثم تفضل عليه بع د ذلك بالثمن والمثمن كما في قصة جابر مع رسول الله ـ (صلى الله عليه وسلم) ـ.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!