الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


320. الموقف : العشرون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّ لَا وَزَرَ﴾[القيامة: 75/7-11].

ماقاله المفسرون في الآية معروف، وهو بحاله، وفيها إشارة واعتبار: فإذ برق البصر دهش وتحيّر، وذلك عند أوائل التجليات، فإنه شاهد مالم تتقدم به معرفة، ول له به إيناس، والقمر كناية عن العبد المحدث، وخسوفه هو اضمحلاله، وظهور كون وجوده معار ليس من ذاته، فهو وجود مجازي؛ وذلك كناية عن الحصول في مقام الجمع وهو رؤيته حق بلا خلق، وهو مقام خطر، مزلّة الأقدام ومحل ورطات الأنام إلاَّ من كان له المقام ذوقاً، فإن لله به عناية، فينقله إلى محلّ الأمن، وينجديه من الأحن. وأمَّ من كان حصول هذا المقام له من الكتب، أو تلقفه من أفواه المشايخ القاصرين فإن هلاكه أقرب، ونجاته أغرب، إذ للشيطان فيه مدخل واسع وشبهة قوية. فلا يزال أبو مرة (يعني إبليس) معه يستدرجه شيئاً فشيئاً يقول له: الحق تعالى حقيقتك، وما أنت غيره، فلا تتعب نفسك بهذه العبادات، فإنَّها ما وضعت إلاَّ للعوام الذين لم يصلو إلى هذا المقام، فما عرفوا ما عرفت، ولا وصلوا إلى ما إليه وصلت. ثم يبيح له المحرمات، ويقول له: أنت ممّن قال له: اعملوا ما شئتم فقد ودبت لكم الجنة، فيصبح زنديقاً إباحياً حلولياً، يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، قد سبق الفرث والدم.

« وجمع الشمس والقمر» الشمس إشارة إلى الرب تعالى كما أن القمر إشارة إلى العبد. وجمعهما إشارة إلى مرتبة جمع الجمع، التي هي المرتبة العلي والمنجاة الكبرى والسعادة العظمى،  وهي رؤية خلق قائم بحق، وحق ظاهر بخلق، إذ ما ثمَّ ظهور للحق إلاَّ بالخلق، ولا ظهور للخلق إلاَّ بالحق؛ فلا وجود إلاَّ لصورة الجمعية بينهما، من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج. فإن الله عين كل موجود، فلا يوجد في الوجود خلق خالياً عن وجود الحق، ول حق خالياً عن وجود الخلق. يقول الإنسان العارف: أين المفرّ؟ لشدّة حيرته، فإنه يحار لكثرة التجلّيات واختلافها، وعدم انضباطها، وسرعة تفلتها وكثرة التنزلات لإلهية المدهشة للعقول،  المحيرة لها، مع وحدة العين المتجلّية.

«كلا لا وزر»: لا ملجأ ولا منجاً، ردع للعارف، حيث يريد الخروج من الحيرة ليستريح وراحته ومعارفه فيها، فإنَّ الحيرة تزيد بزيادة التنزلات، وهي عين العارف. ولذا قال سيدنا سيد العارفين (صلى الله عليه وسلم) : ((اللهم زدني فيك تحيراً)).


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!