الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


319. الموقف التاسع عشر بعد الثلاثمائة

قال تعالى: حاكياً عن موسى (عليه السلام) ـ: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾[الأعراف: 7/143].

سأل بعض الإخوان توضيح قول سلطان العاشقين، عمر بن الفارض (رضي الله عنه) :

وإذا سألتك أن أراك حقيقة

فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى

فإنَّ بعض الناس فهم منه أن الشيخ (رضي الله عنه) طلب مقاماً أعلى من مقام موسى (عليه السلام) وهو محال بإجماع الفقهاء وأهل الله. وحيث كان هذا البيت مترتباً معطوفاً على مطلع القصيدة، وهو قوله:

زدني بفرط الحبّ فيك تحيّر

 

وارحم حشا بلظى هواك تسعّر

فلنتكلم عن البيتين تتميماً للفائدة، فنقول: طلب الشيخ (رضي الله عنه) من ربّه زيادة الحيرة فيه. وجعل وسيلته إلى ربّه إفراط حبه فيه. فإن المحبّة من أعظم الوسائل إلى المحبوب، كما قال: ما جزاء من يحبّ إلاَّ يحب. وطلبه من ربّه زيادة الحيرة فيه، هو كناية عن طلب تنزله له، من حضرة التنزيه، حضرة الذات، إلى حضرة التشبيه، حضرة الألوهة والصفات. فإنها التي تظهر في مراتب التشبيه. وقد ورد أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقول في دعائه: ((اللهم زدني فيك تحيراً)).

أي زدني من تنزلاتك ما يحيّر العقول، من حيث مداركها، فإن تنزله تعالى من أوج عزته إلى سماء صفاته هو الذي حيّر العقول وأضلّها، حيث يقول: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾[الواقعة: 56/85].

ويقول: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[ق: 50/16].

((من أتاني يسعى أتيته هرولة، وإذا أحبته كنت سمعه وبصره)) .

ونحو هذا. فإن العقل السليم يحار في هذه التنّزلات الصادقة المجهولة الكيفية. فالطالب لزيادة الحيرة طالب لدوام التجلّيات والمشاهدات، ولما كانت المشاهدة في التنزلات التشبيهية والرؤية في المظاهر الكونية الحسية والخيالية ليست برؤية حقيقته، لأن رؤيته تعالى فناءٌ صرفٌ، يقول سيدنا وشيخنا محي الدين (رضي الله عنه) ((رؤية الله لا تطاق لأنها كلّها محاق))، والشيخ عمر بن الفارض يعلم هذا، ولكن الهواى أملك، والشوق أغلب، والحال أحكم، ولذا اعتذر بقوله:

وإذا سألتك أن أراك حقيقة

فاسمح ولا تجعل جوابي : لن ترى

«إذا» تفيد تحقيق السؤال، وربم أفادت هنا التكرار، أي كلّما سألتك أن أ راك حقيقة عرفية، بأن أكون أنا الرائي وأنت المرئي. والشيخ (رضي الله عنه) يعرف أن رؤية الحق تعالى محض فضل، ل تنال بالسؤال، ولكن إذا غلب الوجد والشوق ذهل الإنسان عن المعلوم والمعقول والتحت والفوق....فبدرت منه بوادر، فقيل: أساء الأدب، بحسب مقامه في الظاهر، وهذه حالة موسى (عليه السلام) وبها أخذ. ولله درّ قائلهم، حيث يقول:

إليك آل التقصّي وانتهى الطلب

 

يا مطلباً ليس لي في غيره أدب

وما أراني أهلاً أن تواصلني

حسبي بأني فيك اليوم مكتئب

لكن ينازع شوقي تارة أدبي

 

فأطلب الوصل لما يضعف الأدب

ورؤيته تعالى، وإن كانت جائزة عقلاً وشرعاً ، فالحقيقة تأبى أن يرى الله غير الله، فلا يراه من كل مخلوق، فالمحقق لا يقول: إنه رأى الله، وإنما يرى استعداده، وقوله: فاسمح، السماحة لغة السهولة، والشيخ (رضي الله عنه) استعمله هنا بمعنى العفو وعدم المؤاخذة عمّا يفرط منه وقت غلبة الحال، ممّا يقال فيه سوء أدب، وكذا استعملها في هذا المعنى شيخ الشيوخ أبو مدين (رضي الله عنه) فيقوله:

وصن سرنا في سكرنا عن حسودن

وإن أنكرت عيناك شيئاً فسامحن

وكذا الشيخ محي الدين الحاتمي (رضي الله عنه) في قوله:

من عامل الحق بالإخلاص قد ربح

 

وإن يكن فيه شرك فهو قد سمح

وقوله: «ولا تجعل جوابي لن ترى». اعتراف منه (رضي الله عنه) برفعه مقام موسى (عليه السلام) على مقام الولي وإن عظمت رتبته. فإنَّ موسى (عليه السلام) لما سمع كلام ربّه بـ (لن تراني) طرب والتذّ، لفناء إرادته في إرادة ربّه، وتحقّقه بمالا يدركه إلاَّ الله تعالى وفهمه من كلام الله ما لا يفهمه الولي. فبين فهميهما مابين مرتبتيهما. فطلب الشيخ (رضي الله عنه) من ربّه أن يكون جواب منعه من سؤاله لفظ آخر، غير لفظ (لن تراني) فإن هذا الجواب لا يبقى معه جلد يذيب القلب ويفتت الكبد، كأن يقول له: لن تطيق رؤيتي، أو نحو هذا. فيكون المانع من جهة السائل، لعدم إطاقته وضعف قوته. فهذا أهون في المنع من أن يكون المانع جهة المسؤول، فالمنع حقيقة واحدة، ولكن أسبابه تختلف، وإن المعني الواحد يختلف ذوقه باختلاف العبارات عنه. كما قيل:

تقول هذا لعاب النحل تمدحه

وإن ذممت فقل قيء الزنابير

مدح وذم وما جاوزت وصفهم

 

حسن البيان يرى الظلماء كالنور

وفي هذا المعنى ما حكي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد، رأى في منامه أنَّ أسنانه وأضراسه كلها سقطت، فقصّها على معبر فقال له المعبر: يموت أقاربك وأولياؤك وحاشيتك، فأمر بقلع أسنان المعبّر. ثم قصَّ الرؤيا على معبّر آخر فقال له: يطول عمر أمير المؤمنين، حتى يموت جميع أقاربه وحاشيته، فأمر بملء فيه جواهر.

وقول الشيخ في التائية:

ومنَّ على سمعي بلن، إن منعت أن

أراك فمن قبلي لغيري لذت

يدل على أنه (رضي الله عنه) صار له شرب من المقا م الموسوي، وإن كان شرب النبي لا يشبه شرب الولي بوجه، ولا حال، وأنه انتقل من مقا مه الأول، فإن الولي يعرف مقا مه من كلامه، وإن لم ير ولا أدرك زمانه. والشيخ عمر (رضي الله عنه) ماكان من كمّل الورثة، بشهادته على نفسه، وشهادة غيره من الكمّل، وهو من أولياء الله تعالى بلا ريب.

فإنه روي أن ولده محمد أله التربية في طريق القوم والسلوك فقال له: ي ولدي، أنا ما كملت في نفسي فاذهب إلى السهروردي. ونقل الشيخ الشعراني عن شمس الدين الحنفي المصري (رضي الله عنه) أنّه سمع منشداً ينشد كلام الشيخ عمر بن الفارض (رضي الله عنه)، فقال: إن هذا وأمثاله ملؤوا الدنيا بالعياط، وما شمّوا رائحة من معرفة الله تعالى ـ. قال بعض من سمع هذا الكلام من الشمس: وقع في قلبي شيء في هذا الكلام، فرأيت في المنام بركة كبيرة مملوءة ماء، والشيخ عمر يشرب منها بقصبة، فعرفت صدق كلام الحنفي. وإذا كانت الرسل (عليه السلام) بفضل بعضهم بعضاً كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[البقرة: 2/253].

فكيف بالأولياء؟ قال بعض الأكابر يخاطب كبيراً مثله:

ألم تعلم بأني صيرفي

 

أحكّ الأولياء على محكيّ

فمنهم بهرج لا خير فيه

ومنهم من أجوزه بسبكي

وأنت الخالص الذهب المصفى

 

بتزكيتي، ومثلي من يزكي

ورضي الله تعالى عن جميع أوليائه، وقد تكلم الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه: «كشف السر الغامض، شرح ديوان الفارض». بغير ما ألهمنا تعالى ـ، يعلم من الوقوف عليه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!