318. الموقف الثامن عشر بعد الثلاثمائة

روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((من تواضع لغني من أجل غناه ذهب ثلثاً دينه)).

قال جلال الدين الأسيوطي: خرّجه البيهقي في الشعب، عن ابن مسعود وأنس، بلفظ: ((من أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على ربّه، ومن أصبح يشكو مصيبته فإنم يشكو ربه، ومن دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه)).

وقال في إسناد كلّ منهما: ضعيف. ثمَّ روى بسنده عن وهب بن منّبه قال: ((قرأت في التوراة))، فذكر نحوه، وأخرج الديلمي من حديث أبي ذرّ.

((لعن الله فقيراً تواضع لغني من أجل ما له، من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلثا دينه)).

وأورده ابن الجوزي الحديث في الموضوعات فلم يصب ا هـ.

اعلم أن هذا الحديث ورد بلفظ الخبر. ومعناه النهي عن التواضع للغنيّ لغناه، والمراد بالنهي الفقير، وقد صرَّح في الرواية الأخيرة بذكر الفقير والنهي والوعيد... وإن ورد في حق الفقير فالغنى صفة إلهية، مهما تجلّت تواضع الناس له كالعزّة وبالخصوص الفقير. فإذا زهد الفقير في الغنيّ وفيما يده من الغنى عظّم الغني الفقير. فإذا سأل الفقير الغنيّ شيئاً سقط من عينه. والدين هنا بمعنى الجزاء، كما هو في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 1/4].

أي الجزاء، وذلك أن الله تعالى أعدّ للفقير في الدار الآخرة جزاء مخصوصاً في مقابلة فقره في الدنيا. فإذا عظم غنيّاً لغناه نقصه ذلك أكثر جزاءه. ولو لم يعظم الغني لغناه لكان جزاؤه موفوراً، وعليه: فليس المراد بالدين هنا ما يشمل أصول الشرائع وفروعها، الذي هو عبارة عن وضع إلهي سابق، لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، فإن هذا لا يتصّور فيه ذهاب البعض وبقاء البعض. وعليه فتعبيره (صلى الله عليه وسلم) بالثلثين هو كناية عن ذهاب أكثر جزائه، الذي كان أعدّه الله تعالى له.

لو لم يعظّم الغني، إلاَّ إن تداركه الله بالتوبة والندم على ما فرط منه. لا يقال ما الحكمة في تعبيره (صلى الله عليه وسلم) بالثلثين، وعدوله عن التعبير بالأكثر، لأنا نقول هو (صلى الله عليه وسلم) مخبر بما أخبره الله تعالى ـ. وما كلّ أفعال الله تعلم حكمته فيها. وتفسير الثلثين بالأكثر أقرب إلى السلامة من الخطأ، وأبعد من التعسف في كلام النبّوة بالوهم، ممّا له يعلمنا الله تعالى بمراده.