الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


300. الموقف الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[الرعد: 13/ 16. والزمر: 39/62].

اعلم أن الخلق خلقان، خلق تقدير منفك عن الإيجاد، وهو المشار إليه بقوله:

﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾[مريم: 19/9].

أي قدّرتك في العدم، ولم تك شيئاً مقدراً ثابتاً في مرتبة الثبوت، العارية عن الوجود. قال هذا لزكريا (عليه السلام) حيث قال متعجباً ومستبعداً: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾[آل عمران: 3/40].

وما قال هذا لامرأة الخليل (عليه السلام) حيث قالت مستبعدة ومتعجبة: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾[هود: 11/ 72].

لأن زكريا له الإطلاع على أغوار هذه العلوم، بخلاف امرأة الخليل عليهما السلام .

والخلق الثاني مقرون بإيجاد خارجي، وهو المشار إليه بقوله: ﴿مَ غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾[الانفطار: 82/ 6- 7].

وكذلك الشيئية شيئيتان: شيئية ثبوت من غير إيجاد، وهي المشار إليه بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس: 36/82].

فما قال «كن» إلاَّ لشيء ثابت في مرتبة الثبوت، غير موجود، فأمره بالوجود فكان موجوداً لنفسه، والشيئية الثانية شيئية وجود، وهي المشار إليه بقوله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾[الأنعام: 6/19].

فقوله: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الرعد:16].

يصحّ أن يحمل على الخلق التقديري والإيجادي، والشيء يصحّ أن يحمل على الثابت وعلى الموجود، فالخلق بقسميه، والشيء بقسميه مختص بالممكن،  وهو المراد بقوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الطلاق: 65/12].

وأمَّا المحال فلا خلق ولا شيئّية له ثبوتية، فلا تتعلّق به إرادة، بل المحال لذاته غير معلوم علم إحاطة، فإنه تعالى يعلم المحال محالاً فقط، ولا يحيط به اسم المحيط، حيث أنه لا صورة له، كما هو للممكن، فلا يحيط الاسم المحيط إلاَّ بمسمى الشيء، وهو الممكن الثابت المعدوم، الذي له صورة في العلم، سواء وجد في الخارج أم لم يوجد، فهو قابل للإيجاد فلذا هي علة الإيجاد، مركّبة من الفاعل والقابل، وهو الممكن. فالوجود بين الاقتدار الإلهي وبين القبول من الممكن، مهما ارتفع واحد منهما ارتفع الوجود الحادث. وليس ذلك عجزاً في الاقتدار الإلهي، وإنما ذلك لعدم تعلّق الإرادة به، لأنه لا استعداد له للوجود. والحقّ تعالى إنما يعطي الوجود للمستعدّ، الطالب للوجود باستعداده، فهو الجواد الحكيم، لا يمنع مستعداً طالباً،  ولا يعطي غير مستعد طالباً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!