الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


299. الموقف التاسع والتسعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾[الإسراء: 17/ 13- 14].

صدر الآية عام في السعداء والأشقياء، وعجزها خاص ببيان أحو ال الأشقياء. فإنَّ السعيد لا يقال له : ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.

أخبر تعالى: أنه ألزم كلّ إنسان طائره، أي حَظَّه ونصيبه، بمعنى جعله لزيماً له ملازمة العنق، لما يجعل فيه، فما يجري على الإنسان، ممّا يظهر منه في أطوار وجوداته وتقلبات أحواله إلاَّ طائره وحظّه وقسمته من التجلي الذاتي الأقدس، الذي حصلت به الأعيان الثابتة، واستعداداتها الكلّية في العلم؛ يقال طار له كذا، بمعنى صار نصيبه في القسمة.

وفي صحيح البخاري، عن أم العلاء: «طار لنا عثمان ابن مظعون في القسمة». حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ففي الآية مجاز في ذكر الطا ئر، ومجاز في ذكر الكتاب المنشورز وهذا الكتاب الذي يخرج ماهو الكتاب الذي تكتبه الحفظة من أعمال العبد في الدنيا دائماً ويلقاه الإنسان منشوراً. وإنما هو الكتاب الذي ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قوله: ((إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يبقى بينه وبين الجنّة إلاَّ شبر أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب.....)).

الحديث بطوله، أخرجه البخاري في الصحيح، فلا يقضي الله قضاء إلاَّ بم سبق الكتاب أن يقضي به. وما كتب إلاَّ ما علم. ولا علم إلاَّ ما شهد من صور المعلومات، على ما هي عليه في أنفسها ما تغير منها وما لا يتغير، فشهدها في عدمها. ولا يوجدها إلاَّ كما هي عليه في عدمها. فإخراج الكتاب يوم القيامة للإنسان هو الكشف له عن عينه الثابتة في العدم، وماهي عليه من الاستعداد، لما حكم عليه الحق به، وأعطاه إياه، في سائر تقلباته في أطواره، وهو طا ئره الذي ألزمه إياه في الوجود الخارجي. ويقال له: اقرأ كتاب نفسك واستعدادك لما حكمنا به عليك وظهر منك في دار التكليف، فيجد نفسه كتاباً منشوراً لا يغادر صغ يرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها، فحينئذٍ يقول الحق للإنسان: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.

أي محاسباً لك، وأنك ما ظلمك الحقّ بشيء حكم به عليك. فهذا الكتاب يخلي المحكوم عليه، يطلب من الحاكم أن يحكم به، وهو الحق الذي أمر الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: ربّ احكم بالحق، وبه قامت الحجة لله على من يقول: ياربّ علمك سبق في أن أكون على ما أنا عليه فلم تؤاخذني؟! فيقول له الحق: هل علمتك إلاَّ بما أنت عليه؟! فإنّي ما حكمت عليك إلاَّ بك، فأنت الذي جعلتني أحكم عليك بما حكمت. ولو كنت على غير ذلك لعلمتك على ما تكون عليه. فكتاب كلّ إنسان نفسه، وهو عينه الثابتة، وهو الذي يظهر به وعليه في الوجود، وهو سبق الكتاب في الحقيقة، فل يخف الإنسان إلاَّ نفسه فإنه ما سبق العلم إلاَّ بما هو عليه من الصورة التي ظهر عليها. ولهذه الإشارة بقوله (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن ربّه: ((من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).

﴿وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء: 17/20].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!