الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


3.الموقف الثالث

قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر: 15 / 98 99].

الخطابللنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من أمته: «إياك أعني، واسمعي يا جارة»، ومثله في القرآن كثير، وهو أمر لمن كان من المؤمنين من وراء الحجاب، وفي الحالة العامية: أن يسبح الحق تعالى أي بنزهة بتنزيه العقول، ويعتقد عقيدة العموم. وأن يسجد له تعالى ويعبد ربّه، وهو الوجه الذي تعرف الحق تعالى به للعبد فإن لكل مخلوق اسماً من أسماء الحق تعالى هو الواسطة بين الحق تعالى والعبد، ولا يعرف العبد الحق تعالى إلاَّ من طريقه، ولا يعبد العبد من الحق تعالى إلاَّ ذلك الاسم، ولو تجلى الحق تعالى للعبد بغير مقتضى ذلك الاسم ما عرفه، بل ينكره، ويقول له: لست ربي، ويتعوّذ منه، لأنَّ العامي لا يقدر أن يعبد الحق مطلقاً، ولا يعرفه في جميع تجلياته، فأمر الحق تعالى أن يعبد دربه بأنواع العبادات الشرعية، والوظائف السنية، ويتقرب إليه بنوافل الخيرات. والحكمة في الأمر، بملازمة التسبيح والتنزيه والسجود والعبادة، هو أنَّه ربما سمع العامي المحجوب أحوال العارفين بالله وكلامهم، وما منَّ الله تعالى عليهم به من العلوم الوهبية، والأسرار الربانية، فيتعلق بذلك على غير وجهه وطريقه الموصل إليه، ويترك ما بيده من الأعمال والوظائف الشرعية، فيهلك ويبقى لا هو بالفائت ول بالحاصل، ويتشبه بهم في أحوالهم الباطنة الخاصة بالكاملين، ويتكلم بكلماتهم في وحدة الوجود، ومثلها من المسائل المشكلة من غير سلوك طريقتهم، على وجهه المعروف عندهم، فنصح الحق عباده وأمرهم بالتمسك بما عندهم، والعمل به، والخير يجر بعضه إلى بعضه، كالغيث يكون قطرة ثم ينهمر، فإذا عمل العبد على أمر الحق له، وواظب على أنواع النوافل أحبّه الله، فإذا أحبه كان سمعه وبصره ولسانه ويده وجميع قواه، وهو المراد بإتيان اليقين بمعنى الكشف، وزوال الغطا عن حقيقة الأمر، وباطنه، وأنَّ الحق هو قوى العبد جميعها، وحينئذٍ، يعرف العبد من هو المسّبح والساجد، والعابد، وم فائدة السجود والعبادة، وما علتها الغائية، وأنه ليس المقصود من التكاليف الشرعية إلاَّ أنها أسباب وأدوية لرفع الحجاب عن وجه الأمر. وبعد فتح الباب، ورفع الحجاب يزيد العبد تعظيماً للأوامر الشرعية والتزاماً لها، لأنه ما راء كمن سمع. ويكون إتيانه بالعبادات بعد رفع الحجاب على طريق أعلى وأفضل، وعلى وجه أعدل وأكمل، ل مناسبة بينه وبين إتيان العبادات الأول، وكل من أدعى أنه شم رائحة من طريق أهل الله تعالى ولم يزدد للشرع تعظيماً، وللسنة إتباعاً، فهو مفترٍ كذاب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!