الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


4.الموقف الرابع

قال تعالى: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 24: 41].

كنت ليلة بالمسجد الحرام قرب المطاف، متوجهاً للذكر وقد نامت العيون،  وهدأت الأصوات، فجلس بالقرب مني يميناً وشمالاً، أناس، وجعلوا يذكرون الله تعالى فخطر في قلبي أيّنا أهدى سبيلاً إلى الحق تعالى؟! فبعد الخاطر بقريب، آخذني الحق تعالى عن العالم وعن نفسي، ثم ألقى إليَّ قوله: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾.

فعلمت أنَّ عبادتهم كانت مشوبة بأغراض نفسية، وحظوظ شهوانية. وأقول تبعاً للمحققين من أهل الله تعالى : أنَّ كل من عبد الله تعالى خوفاً من النار، أو طلباً للجنة، أو ذكر الله تعالى لتوسعه رزق مثلاً، أو لصرف الوجوه إليه، وهو الجاه، أو لدفع شرّ ظالم، أو سمع في الحديث أنَّ من فعل العبادة الفلانية أو ذكر الذكر الفلاني أعطاه الله تعالى كذا كذا من الأجر... فهذه كله عبادة معلولة، ليست عند الله بمقبولة، إلاَّ بالفضل والمنَّة، إلاَّ أن تكون هذه الأشياء المذكورة، غير مقصودة، بأن كان خطورها تابعاً لا حاملاً، فلا بأس.

قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾[الكهف: 18 / 110].

وهذه الأشياء المذكورة كلها آحاد فهي شركاء، والحق تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. فالحق تعالى أمر عباده أن يعبدوه، مخلصين له الدين، أي العبادة والجزاء بأن لا يطلبوا جزاء إلاَّ وجهه، وهو يهبهم الأجور والدرجات، ويقيهم جميع السيّئات والمكروهات، وأن كل ما سوى الحق إذا قصد مع الحق في العبادة فهو شريك، والشريك معدوم مستور، اسم بلا مسمى، وإليه يشير قوله: ﴿بَلْ كَانُو يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾.

فإنَّ الجنّ من الاجتنان وهو الاستتار، وكل ما سوى الله تعالى فهو مستور بستر العدم، وإن ظهر للمحجوبين موجودا، والعاقل لا يراعي العدم، ولا يقصده بالعمل، كما أني أقول، والله تعالى القائل على لساني: إنَّ كل من لم يسلك طريق القوم، ويتحقق بعلومهم حتى يعرف نفسه، لا يصح له إخلاص ولو كان أعبد الناس وأورعهم وأزهدهم وأشدهم هروباً من الخلق واختفاء، وأكثرهم تدقيقاً وبحثاً عن دسائس النفوس، وخفايا العيوب؛ فإذا رحمه الله تعالى بمعرفة نفسه صحّ له الإخلاص، وتصير الجنة والنار والأجور والدرجات وجميع المخلوقات... كأنَّ الله ما خلقها. فلا يعظمها ول يعتبرها إلاَّ من حيث اعتبرها الحق تعالى شرعاً وحكمة. لأنه حينئذٍ يعرف الفاعل من هو. فليس العبد فاعلاً، خالقاً لأفعاله الاختيارية كما ينسب إلى المعتزلي، ولا أن العبد فاعل مجبور كما يقوله الجبري، ولا أن له جزءاً اختيارياً به يسمى العبد فاعلاً كما يقوله الماتريدي، ولا أنَّ العبد له كسب، بمعنى وقوع الفعل بإرادته واختياره، لا خلق ولا جبر، ولكن أمر بين أمرين، كما يقوله الأشعري، ول أن تأثير الحق تعالى في عين الفعل، وتأثير العبد في صفته من كونه طاعة أو معصية كما يقوله إمام الحرمين، ولا كما يقول جميع الطوائف من الحكماء والمتكلمين. وأما نسبة الفعل إلى العبد شرعاً، وترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية، فمن وجه آخر، ذكرناه في بعض هذه المواقف.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!