الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


261. الموقف : الواحد والستون بعد المائتين

روى مسلم في صحيحه عنه (صلى الله عليه وسلم) ممّا يرويه عن ربّه: ((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما قصمته)).

اعلم أن الكبرياء والعظمة حضرتان، أو قل مرتبتان للحق تعالى ، ثابتتان له تعالى شرعاً وكشفاً، فمن نازعه لينزع عنه واحدة منهما وينفيها عنه ويسلبه منها قصمه تعالى وأهلكه بالجهل، فإنه لا هلاك أهلك من الجهل به تعالى. فالكبرياء حضرة التشبيه الواردة في الكتب الإلهية، والأخبار النبويّة،  المسماة عند المتكلمين بالصفات السمعيّة، ولذ شبهها بالرداء، فإن الرداء ظاهر محسوس، وهو حجاب على المرتدي، وقد ورد في الصحيح: ((وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)). وهو كناية عن حضرة التشبيه.

والعظمة، حضرة التنزيه، فإن العظمة إنما تقوم بنفس المعظم (اسم فاعل) للمعظم (اسم مفعول) وكذلك التنزيه، إنما يقوم بنفس المنزه له تعالى. وشبهه بالإزار لكون الإزار مستوراً بالرداء، وكذا حضرة التنزيه، فإنها مستورة بالعدم، فإنه حضرة العدم، فهاتان الحضرتان ثابتتان له تعالى كتاباً وسنّة وكشفاً، أعني مرتبتي التنزيه والتشبيه الشرعيين. فمن نازع الحق تعالى لينزع عنه رداءه، وهو حضرة التشبيه، بأن يكون منّزهاً فقط، وهو المقتصر على مدارك العقول، كالحكيم و المتكلم الصرف النافيين حضرة التشبيه. وذلك لأن الإله الذي أرسل الرسل (عليه السلام) بم أخبرت عنه به وسمته ونعتته ماهو الإله الذي أرسل أدركته العقول، فإن إله الرسل مطلق مشبه منزه. وإله العقول محجر عليه، لا يكون كذا ولا كذا، منزه فقط، فمن كان منزهاً فقط، كالحكيم والمتكلم، أو مشبهاً فقط كالحلولية والاتحادية و الآخذين بظواهر الإخبارات الإلهيّة النبويّة، فذلك هو الذي نازع الحق في كبريائه وعظمته، وهو الذي توعده الحق وأخبر أنه يقصمه، و المراد من هذا الخبر الإلهي الجمع بين التنزيه والتشبيه، فإن رفع النقيضين في مثل هذا ، يؤذن باجتماعهما. ولهذا جمعهما تعالى في قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 42/11].فنزّه ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى: 42/11]. فشبه. قال قدوة العلماء بالله من الأولياء محي الدين الحاتمي (رضي الله عنه):

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً

 

وإن قلت بالتشبيه كنت محدّد

وإن قلت بالأمرين كنت مسدّد

وكنت إماماً في المعارف سيّد

وقال:

ونزهه وشبهه

 

وقم في مقعد الصدق

وإنَّ التنزيه الشرعي لا يقابله الشرعي، ولا ينافيه. فإنَّ عبارة عن انفراد الحق تعالى بكمالاته، التي لا يشاركه أحد فيها، بخلاف التنزيه العقلي، فإنه نفي ما يتوهّم أنه نقص في الجناب الإلهي، ونفي الشيء فرع ثبوته، أو توهّم ثبوته، و الحق تعالى نزيه لذاته، لا بتنزيه منّزه، ولهذا غلط المتكلمون فجعلوا لكمالات الحق تعالى أضداداً، فكلما وصفوه بوصف كمال نزّهوه عن ضده، وليس لكمالات الحق ـ تعالى أضداد، فإن الضدّ إنما يتصور في المحل القابل للشيء أو ضده، و الحق تعالى غير قابل لضد الكمال، فلا يصحّ أن يكون لكماله ضد. وهاتان الحضرتان يظهر بهما الحق تعالى في المسمّى «غير أو سوى». فالتنزيه إنما يظهر أثره في المنزه (اسم فاعل) وكذلك العظمة، فإنما يظهر أثرها في المعظّم (اسم فاعل). مثلاً إذا ظهر الملك لمن لا يعرفه أنه الملك، فالملك عنده كآحاد الناس، لا عظمة له، فإذا عرف أنه الملك قامت له في نفسه عظمة فعظمة لذلك وبجّله. فلو كانت العظمة قائمة بالملك لعّظمه كلّ من رآه، بمجرد الرؤية، وليس الأمر كذلك، فالعظمة إنما تظهر في العارف بمقام معروفه وبما يستحقه من الإعظام والإجلال. وهذه المنازعة التي ذكرناها هي المنازعة الحقيقية، فإنه منازعة سلب لا منازعة تشبيه، فإنَّ من تظاهر بالكبرياء والعظمة بين الناس، فإنما ذلك على أبناء جنسه، ويعلم خُلُوَّه عن ذلك باطناً.

قال تعالى: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الجاثية: 45/ 37].

فأخبر تعالى أنَّ محل كبريائه السموات والأرض، وما جعل نفسه محل الكبرياء، فالمحلّ هو الموصوف بالكبرياء، فهو تعالى منزّه عن قيام الكبرياء به والعظمة، وهو تعالى العزيز (أي المنيع) لذاته أن يكون محلاً لما هي السموات والأرض له محل. فاعرفه، فإنه نفيس، ما عرفه حكيم ولا متكلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!