الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


260. الموقف الستون بعد المائتين

روى مسلم والبخاري في صحيحيهما، في حديث جبريل المشهور أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما الإحسان؟ فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك....)). الحديث بطوله.

«كأن» هنا يتعين أن تكون للتحقيق ، وهو أحد معانيها، كما هي في قول القائل يرثي هاشماً جدّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واسمه عمرو:

فأصبح بطن مكّة مقشعراً

كأن الأرض ليس بها هشام

وليس هشام بها تحقيقاً، ولا يصحّ أن تكون «كأن» في الحديث، للتشبيه، عند أهل الله، فإنَّ التشبيه من المجاز، والمجاز يصحّ رفعه، فتقول في قولك: كأن زيداً أسد، ليس زيد بأسد، وتصدق. ولا يصح في الحديث أن تقول: اعبد الله، فإنك لست تراه، بإجماع العلماء بالله، فإنه كذب، إخبار بخلاف ماهو الأمر عليه، فإنك تراه تحقيقاً، عرفت أو جهلت. بل قال الشيخ الأكبر: ((من نظر غير الله في صلاته فما صلَّى)).

قوله: ((فإن لم تكن تراه)) بأن كنت من المحجوبين بحجاب التنزيه المطلق، المعقولين بعقال الموثق، المانعين تجلي الحق تعالى في الدنيا، فليس هذا بعشّك فادرجي، واعبده على أنه يراك، فإن العقل من حيث هو عقل ليست له إلاَّّ هذه المرتبة، وهون أنه يراك. وأما أنك تراه، فالتنزيه العقلي لا الشرعي يمنعه من ذلك ويحجبه عما هنالك. فإنَّ العقلاء يظنون أنَّ متعلق علمهم ورؤيتهم إنما هي مظاهر الأسماء التي دلت عليها الآثار، وأنَّ الحق تعالى ليس بمرئي ولا معلوم إلاَّ علماً إجمالياً من حيث كونه الخالق الموجد سبحانه، وإنما عبّر (صلى الله عليه وسلم) بكأن، لأنه علم أن المقيد بقيد العقل والتنزيه المطلق لا يدرك التجليات في المظاهر الخيالية وغيرها، التي ورد الشرع بها كتاباً وسنة، إلاَّ بالحلول أو الاتحاد ونحو ذلك ممّا أجمع العقل والشرع، و الكشف على استحالته،  فهو لا يتعدَّى مرتبته ومناجاته بصريح الحق،  ممّا يشوش فكره ويوجب له دغدغة في إيمانه، إلاَّ إذا أوّله وردّه إلى مرتبة عقله فرفق به (صلى الله عليه وسلم) في العبارة. وأمَّ من اختصه الله برحمته، وكشف له عن أسرار معرفته، فجمع بين التنزيه والتشبيه لشرعيين، وترقى عن التنزيه العقلي القادح فيما ورد في الكتاب والسنة، فهو يعلم مراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو (صلى الله عليه وسلم) أوتي جوامع الكلم، فهو يتكلّم بالكلمة الواحدة لفظاً، المتعددة معنىً، وكلّ طائفة، بل كل شخص يفهمها بحسب استعداده، والكل من مقصده (صلى الله عليه وسلم) ومراده. فهو (صلى الله عليه وسلم) إمام المعلمين والمؤدبين، أمرك بعبادة الله، وأخبرك أنك تراه وإن كنت لا تعرفه، فإنه ليس كلّ من رأى علم، فلا معوّل إلاَّ على العلم، ولا حجاب إلاَّ الجهل، والجهل عدم، لا عين له. مثلاً إذا كنت تطلب شخصاً لست تعرفه بعينه، وأنت طالب له من اسمه، فلقيته وسلمت عليه وسلم عليك، وما تعرّف عليك، فقد رأيته وما رأيته، فلا تزال تطلبه وهو معك، حتى يأتيك من يعرّفك به، أو يتعرّف هو بنفسه لك. ولهذا قال ساداتن في العلم الإلهي أنه عين الذات، إذ لو لم يكن عين الذات لكان المعوّل عليه غير الذات الآلهة:

انظر إلى وجهه في كلّ حادثة

 

من الكيان ولا تخبر به أحداً

فما ترى عين ذي عين سوى عدم

فصحّ أنَّ الوجود المدرك الله


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!