الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


224. الموقف الرابع والعشرون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾[الرحمن: 55/46].

وقال في السورة نفسها: ﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾[الرحمن: 55/ 62].

اعلم أن العباد على قسمين: أشقياء وسعداء، و السعداء على قسمين: أبرار أصحاب اليمين، ومقرّبون سابقون، فالأشقياء لا خوف عندهم، والسعداء لهم خوف، وخوفهم نوعان: خوف الإجلال والتعظيم والمهابة، وهو للمقرّبين السابقين، فإنَّ الخوف منه تعالى على قدر المعرفة به، فمن كانت معرفته أتم كان خوفه أكمل،  ولذا قال السيد الكامل (صلى الله عليه وسلم): ((إني لأعرفكم بالله وأشدّكم له خشية))

وخوف النار والأغلال والعذاب والنكال، هو للأبرار أصحاب اليمين، وليس الخوف من لازمة الإجلال والإعظام، فإن الإنسان يخاف الحيّة والعقرب، من غير تعظيم ولا إجلال، ولما كان خوف الأبرار والمقربين مختلفاً في النوعية، كان جزاؤهم مختلفاً في العين والماهية، فجزاء المقرّبين دخول جنتي الذات والصفات، وهو جزاء معنوي، ودخول معنوي، حيث كان خوفهم معنوياً جزاءً وفاقاً، إذ الجزاء من جنس العمل، وهما الجنّتان المتقدّمتان في الذكر في السورة، فهما مقدّمتان رتبة وذكراً. وجميع ما ذكر في هاتين الجنتين هو من الأمور المعنوية فقوله: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾[الرحمن: 44/48]

إشارة إلى كثرة التجليات الذاتية والصفاتية وتشاجرهما وتباينها، بحيث لا يشبه تجلّ تجلّياً أبد الآبدين، وقوله: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾[الرحمن: 44/50]

إشارة إلى جريان العلوم اللدنية و الإلهامية، وتتابعها على الدوام، لمن دخل هاتين الجنتين. فالعلم اللدني هو الوارد من الوجه الخاص الذي لكل إنسان. والعلم الإلهامي هو الوارد بواسطة الملك غير المحسوس، فبين العلمين فرق الواسطة أو عدمها. وقوله: ﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾[الرحمن: 44/ 52].

إشارة إلى أن في هاتين الجنتّين، من كل ما تستلذه الأرواح، وتتنعم به القلوب نوعين، كالمشاهدة والمكالمة،  والحضور والغيبة، والسكر والصحو، والبقاء والفناء، والجمع والفرق.... ونحوها، وقس على هذا مالم أذكر، وهاتان الجنتان ل نهاية لهما ولا حدّ. ونعيمهما لمن دخلهما دنيا وبرزخا، والآخرة و اللذة فيهم أتمُّ. والتنعمُ أكمل، بل لا نسبة بينهما، وبين الجنتين المذكورتين بعد.

وجزاء الأبرار دخول جنتين محسوستين، لأن ما خافوه محسوس، وهم المذكورتان في قوله: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾[الرحمن: 44/ 62 ].

فهما دون الأولين في القدر والسعة واللذة، بل هاتان كلا شيء ، بالنسبة للأولين، فإنهما لا يدخلان تحت الكم والكيف، وما ذكره في الجنتين الأخيرتين كلّه محسوس، ولهما نهاية وحد في أنفسهما، لا في نعيمهما، وهما الجنتان اللتان ورد الخبر بهما، كما في صحيح البخاري: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما».

﴿ وَلِمَنْ ﴾ في قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾[الرحمن: 44/ 46].

واقعة على الصنفين الخائفين من الأبرار والمقريبن مع اختلاف خوفهما، فهو مقول بالتشكيك. كما أن المقام هو ب النسبة إلى المقربين بمعنى الحضرة الربانية، وبالنسبة إلى الأبرار مقام ا لعباد بين يدي الحق تعالى ، وقوله: ﴿ جَنَّتَانِ﴾. ﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾.

هو على طريقة التوزيع، فإنّ الإخبار واقع على الصنفين من المقربين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!