الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


223. الموقف الثالث والعشرون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَ تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{6}﴾[الكافرون: 109/ 1-6].

"أل" في "الْكَافِرُون" للجنس المخصوص. وهم الذين حقّت عليهم كلمة ربّك، أنهم لا يؤمنون أي لا يرجعون عن كفرهم بحسب مرتبة كفرهم وهم المعنيون بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[المائدة: 5/ 67]. و[النحل: 16/117].

وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 2/ 6].

الخ، الآية،

ونحو هذا.

والكفر: الستر لغة، فكل من ستر شيئاً وجحده فهو كافر ساتر بالنسبة لم ستره وجحده، وهو أنواع كالشرك، وقد يطلق كل منهما على الآخر، وفي صحيح البخاري:

((كفر دون كفر، وظلم دون ظلم)).

وكما أن الكفر أنواع، فالداعون إلى الخارج من هذه الأنواع أنواع، منهم من يدعو إلى الخروج من الكفر الأعظم، ومنهم من يدعو إلى الخروج من الكفر الأصغر إلى ما بينهما.

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾

الجاحدون وحدانية الإله تعالى ، الداعون معه إلهاً آخر، إمَّ استقلالاً كالقائلين بالاثنين، وإمَّا تقريباً كالقائلين: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر: 39/ 3].

﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ من الشركاء.

﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾

وهو الإله الواحد الأحد لما حقّت عليكم كلمة العذاب، وما يبدل القول لديه تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾

الجاحدون تنزيه الحق تعالى القائلون بتشبيهه بخلقه مطلقاً، كالمجسّمة والحلولية والاتحادية المنكرون والمؤولون بقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى : 42/ 11].

﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ وهو الآلهة المشبّهة بمخلوقاته مطلقاً، فإنّه إله مخلوق اخترعه عابده في تخيّله.

﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وهو الإله المنّزه في تشبيهه.

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾

الجاحدون تشبيه الحق تعالى، القائلون بتنزيهه مطلقاً في جميع المراتب، المنكرون والمؤوّلون لما ورد في الكتب وسنن الرسول، من تجلّيه بصور مخلوقاته، من غير حلول ولا اتحاد، ونعته بنعوت المحدثات، كالنزول والهرولة، والقدم والضحك، والوجه والعين، والجنب والجوع والعطش، ونحو ذلك.

﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾

وهو الإله المنّزه مطلقاً في جميع المراتب، المحكوم عليه بأنَّه على كذا، ولا بدَّ ولا يكون على كذا، المحجور عليه بالعقول والأفكار.

﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾

الجاحدون انفراد الحق تعالى بإيجاد كلّ موجود، القائلون بتأثير الطبائع والأفلاك، أو الأسباب العادية بطبعها، أو بقوّة أودعها الله تعالى فيها، أو أنَّ العبد يخلق أفعاله الاختيارية كما يقوله المعتزلي.

﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾

وهو الإله الذي لا شريك في فعل من أفعاله، أو حكم من أحكامه، فقوله:

﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَ أَعْبُدُ ﴾

لمقصود به ما عدا أهل الكفر الأكبر، من سائر الطوائف والملل والنحل، فم في كلام الحق تعالى تكرار.

﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ﴾.

الدين الجزاء، أي لكل طائفة منكم جزاء بحسبه مرتبة كفرها، فكما أنَّ الكفر أنواع فالجزاء أنواع، فلكلّ كفر جزاء.

﴿وَلِيَ دِينِ﴾

أي لي جزاء عام وهو التلذّ والتنعّم بنعيم كلّ معتقد حيث كان إلهي ومعبودي مطلقاً، لا حكم عليه ولا تحجير، والعابد للإله المطلق له النعيم المطلق.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!