الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


222. الموقف الثاني والعشرون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾[ محمد: 47/ 17].

الذين اهتدوا بالإيمان وعمل الصالحات زادهم هدى بكشف ما آمنوا به، وإظهار أسرار ما عملوا من الطاعات، كما قال: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ﴾[البقرة: 2/ 282].

وفي الخبر: ((من عمل بما علم ورثه الله علم مالا يعلم)).

فالذين يعلّمهم الله إياه، إذا عملوا بما علموا هو كشف سرّ ما عملو به، فليس على المكلّف إلاَّ الإيمان، والعمل بالوارد من التكاليف فعلاً أو تركاً، والوقوف عند الحدود، مع اعتقاد حقيّة ذلك كله جزماً، وعدم التعرض للكيفيات والتأويلات، والحق ـ تعالى يكشف للمؤمن العامل عن بواطن الأمور وحقائق الأشياء، فيرفعه من مرتبة الإيمان الذي هو تصديق المخبر فيما أخبر به، وهو علم اليقين، إلى عين اليقين، وحق اليقين، فيصير ما كان إيماناً مشاهدة وعياناً، وهذه هي زيادة الهدى، وهي المعبّر عنها بزيادة الإيمان، في غير ما آية وحديث، من باب تسمية المسبب باسم السبب، حيث كان الإيمان الذي هو قول وعمل واعتقاد سبباً في زيادة اليقين و الحصول على عينه وحقّه، كما أن الكفر وعدم الأعمال الصالحة سبب في زيادة الضلال والحصول على الطبع والرين، كما قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾[التوبة: 9/ 125].

وقال: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ﴾[البقرة: 2/10].

وقال: ﴿ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ﴾[المطففين: 83/14].

ونحو ذلك.

واليقين مرتبة لا يقبل صاحبها الزيادة في مشهوده، وإن قبل زيادة الظهور والكشف، والفرق بين هذه الثلاثة، هو أنَّ علم اليقين يحتاج في إثباته إلى دليل، ويقبل التشكيك، وعين اليقين يحتاج إلى دليل ولا يقبل التشكيك، وحق اليقين لا يحتاج إلى دليل ولا يقبل التشكيك، وجميع علوم الأذواق وهي العلوم الحاصلة بالتجليات لمن شاء الله تعالى من عباده من القسم الثالث . فزيادة الهدى إذاً، ليست زيادة أشياء يؤمن بها، وإنما هي زيادة فيما يؤمن به، أي زيادة كشف. فعلوم الأولياء ليست بزيادة على ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) إذ لا يأتون بأمر ولا نهي جديد ولا حظر ولا وجوب، وإنما يكشف الحق لهم عن أسرار ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وحقائقه وبواطنه وحكمه، فإن لكلّ ظاهر باطناً ، فظاهره ملكه، وباطنه ملكوته، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[الأنعام: 6/ 75].

فلا يحصل الإيقان الزائد على الإيمان في الأشياء إلاَّ بكشف بواطن الأشياء والاطلاع على ملكوتها.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!