الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


182. الموقف الثاني والثمانون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: 14/ 34].

الإحصاء، بمعنى العدّ والحساب، وبمعنى العلم.

فعلى الأول: لا تطيقوا عدّها، فإنها لا غاية لها، لأنَّ نعمة الإمداد لإبقاء الإيجاد أبديّة الكل موجود، وكلّ موجود منعم عليه بإبقاء وجوده، وأول نعمة على المخلوق إعطاء الوجود، وهذا في العموم، وأمّا في الخصوص فهي نعمة الإيمان، فهذه النعمة لها لوازم، ولوازم لوازم، وتوابع ومقتضيات، لا نهاية لها، بل هي نعم متوالية أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

وعلى الثاني: لا تعلمونها، فإنَّ الحق تعالى لطيف. ومن لطفه يظهر النعمة في صورة النقمة، وبالعكس، فتلتبس النعمة بالنقمة، ولا يفرق بينهما إلاَّ صاحب بصيرة نافذة، وكشف صحيح، فكم لله من نعمة ورحمة، في طيّ المكروهات النفسية الطبيعية على السعيد، فإنه يشقى الشقاء الصوري، في الدنيا بالبلايا والأتعاب بالتكاليف، والأمر والنهي، والضيق والحصر كما يكون للشقيّ في السعادة الصورية في الدنيا، من الفرح والبسط، والسعة و الراحة، لأنَّ الدنيا دار مزج لا دار تخليص، حتى إنه يلتبس فيها السعيد في الآخرة بالشقيّ فيها، فإذا حصلوا في الدار الآخرة حصل التمييز وزال المزج، ففي الصحيح:

«إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار»

الحديث بطوله، وهو مشهور. وذلك لكون الدنيا خيالاًن وإن كنا نقول: إن الكائن فيها محسوس لغلظ حجابنا، من حيث أنَّ الحقائق تظهر فيها بغير ماهي عليه في نفس الأمر غالباً، وبما هي عليه نادراً. فلذا يحتاج ما يظهر فيها إلى تعبير، كالذي يظهر في الرؤيا، أي عبور من الظاهر إلى الباطن، فلا يكتفَى بما ظهر في الصورة عن باطن الحقيقة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!