الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


181. الموقف الواحد والثمانون بعد المائة

وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: 10/ 83].

أخبر تعالى مؤكداً إخباره "بأنَّ واللام" حيث كان الإخبار متوجهاً إلى الشاكين في دعواه، والقاطعين بصحتها، فليس الإخبار متوجهاً إلى المؤمنين إلاَّ في ضمن غيرهم. فإن المؤمن متحقق يكذب هذه الدعوة، بل علّوه، ودعواه الربوبية والألوهية إنما كان في أرض النفوس، عالم الطبيعة، وكل نفس لها هذه الدعوى، غير أن فرعون تجرّأ على إظهارها، وغيره ما تجرّأ على إظهارها، وغيره م تجرّأ. وليس في المراتب الحاكمة أعلى من الألوهية، إذ الإله هو الغني عن كلّ م سواه، المفتقر إليه كلّ ما عداه. فله الضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، فليست دعوى فرعون وعلوّه في سماء الأرواح حيث يكون الناطق القائل حقاً، فإنَّ الأرواح لا تنطق إلاَّ بالحق، فالحق هو القائل إذاً، كأبي يزيد وأمثاله (رضي الله عنه) فإن القائل منهم: «أنا الله» هو الحق تعالى الظاهر بصورهم، الناطق بألسنتهم، كما ورد في الصحيح، أن الله قال على لسان عبده: «سمع الله لمن حمده».

فتكون صورة المحقق القائل: أنا الله، كصورة شجرة موسى (عليه السلام) حيث يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[القصص: 28 / 30].

وقد ذمَّ تعالى من يتكبّر في الأرض بغير الحق؛ إلاَّ من يتكبر بالحق. فإنَّ المتكبر حينئذٍ الحق تعالى ، و الكبرياء له تعالى وهؤلاء لا عقوبة عليهم في الدنيا، فإنهم يمنعون أنفسهم بحالهم الصادق من تصرف الخلق فيهم، ولا في الآخرة. وأمَّا من قال: أنا الله، بنفسه وحضور عقله، كفرعون والدجّال وأمثالهما؛ فليس الناطق منهم الحق، ولذا نفذت فيهم العقوبة، فعوقب فرعون بالغرق، وسيعاقب الدجال بالقتل، وكذا كل من قالها من غير أن يكون الناطق الحق، وإن برقت لهم بارقة فهي برق خلّب، إذ الأحوال تحول، والعوارض تزول، فتطلب الصفة موصوفها، ويبقى المدّعى عارياً منها، فينفد فيه حكم الله تعالى وتتناوله سيوف الشريعة، كما نالت الحسين بن منصور الحلاج (رضي الله عنه) فإنه قتل بفتوى أهل الشريعة وأهل الحقيقة، حتى مشايخه، لأنه التبس عليهم حاله وما تحققت عندهم غلبة سكره، وهو من أولياء الله تعالى بلا شك.

﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾[يونس: 10/ 83]. المتجاوزين الحدود التي جاءت بها الشرائع، فما كلّ حق يقال، إلاَّ ما أذن فيه الشارع في دعوى الربوبية، حيث يقول: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[القصص: 28/38].

ثم نقض علمه بالظن وقال: وإني لأظنه، يعني موسى، من الكاذبين، وكل عبد له نسبة إلى العبودية ونسبة إلى الربوبية، وهي أحقّ نسبتيه، ولكنه مأمور بسترها في هذه الدار، التي هي دار الحصر و الحجر، فلا يدّعيها عاقل يتصرف بعقله وينطق بنفسه، كيف وهو يرى نفسه ذوقاً تحت القهر الإلهي، والتصرف الربّانين ول يقدر أن يمتنع عن قرصة برغوث، وإبرة بعوض: ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾[الحج: 22/ 73].

وهذا الغوث الجامع الخليفة الذي جعل الله له التصرف في العوالم كلّه أرضية وسماوية، يرى نفسه مثل الشيء الملقى في الحقارة و الذلّة والعجز.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!