الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


180. الموقف الثمانون بعد المائة

قال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي{30}﴾[الفجر: 89/ 27- 30].

اعلم أنَّ النفس لا يناديها ربها بهذا النداء، ويصفها بكونها مطمئنة راضية مرضيّة، ويأمرها أمر إباحة وإذن وتشريف بالدخول في جملة عباده المضافين له، المخصوصين به، وهم الذين عرفوا نسبتهم من العبودية والربوبية، فعلموا أن مسمّى العبد إنما هو عبارة عن ظهور الربّ، متعيناً بأحوال العبد، فالحقيقة ربّ والصورة عبد، فكان العبد رباً في صورة عبد، بعبد نفسه في صورة العبيد، وبالدخول في جنتّه بمعنى ستره من الاجتنان، وهي ذاته التي يستجن بها. من وصل إليها بقطع حجب الأكوان والأسماء الإلهية، وذلك عبارة عن الحصول وا لوصول إلى فناء التعينات الخلقية الخيالية التي لا عين لها إلاَّ في المدارك الحسّية، ولولا هذه المدارك ما كان إلاَّ الوجود المجرد المحض، وحينئذٍ تنتفي هويّة الخلق حكماً لا عيناً، حيث لبست الحقّ ، بخلاف هوية الحق إذا لبست الخلق، فإنها ثابتة على نزاهتها، لا يلحقها تغيير على كل حال إلاَّ بعد مجاوزة العلم اليقين إلى حق اليقين، بالذوق الصحيح، والكشف الصريح ، بشيئين:

أحدهما: أنَّ الحق تعالى فاعل مختار، يفعل بعلم وحكمة ما ينبغي كم ينبغي بالقدر الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بحيث أن لا يكون في الإمكان أبدع وأحكم من ذلك الفعل من جميع الوجوه والاعتبارات، وبحيث لو اطلع العبد على تلك الحكم والمصالح لما اختار سوى ذلك الفعل. وحينئذٍ يحصل على مقام الرضى عن الله، فيكون مطمئناً ثابتاً ساكناً تحت مجاري الأقدار.

ثانيهما: أن يذوق كشفاً ، أنَّ الحق تعالى هو الفاعل المنفرد بفعل كل ما يصدر من كل مخلوق إلى آخر مخلوق كان، ذلك المخلوق المنسوب إليه ذلك الفعل سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وإنما الحق تعالى يتنزل من مرتبة إطلاقه مع إطلاقه حينئذٍ، إلى صورة الشرط أو السبب أو المانع، فيفعل ما يفعل بتلك الصورة، مع غناه عن تلك الصورة، لو أراد الفعل بدونها، ولكن الاختيار والحكمة هكذا، فينسب الفعل في بادئ الرأي إلى الصورة، وليس الفعل إلاَّ له تعالى وحده لا شريك له، وحينئذٍ يكون عند ربّه مرضياً، لأنه لا فعل له حتى يخرج عن كونه عند ربّه مرضياً، إذ الرضى والمحبة من الحق تعالى لمخلوقاته هي الأصل وبها أوجدهم، فهي السبب الأوّل في الإيجاد، فمن علم أن لا وجودَ له ولا فعل فهو على الأصل من الرضى و المحبة، جعلن الله وإخواننا ممن شمله خطاب هذه الآية، بمنّة وكرمه أمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!