الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


179. الموقف التاسع والسبعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 1/ 5].

خبر بمعنى الأمر، فهو تعليم لنا وأمر لنا، أن ندعوه بهذا الدعاء. فليس المراد الإخبار بذلك فحسب، فلا نمر بالآية مرور الحاكي لكلام الله تعالى من غير قصد الدعاء بالحصول على ذلك، بل نقصد الإنشاء والطلب. كما أنَّ جملة الحمد أوّل السورة خبرية لفظاً، إنشائية معنى. وإلاَّ فلا يسمى القائل "الحمد لله" حامداً. والعبادة لغة الخضوع والانقياد والوقوف عند الأمر والنهي، قال فرعون وملؤه: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَ عَابِدُونَ﴾[المؤمنون: 23/ 47].

فأمر العبد المؤمن بسؤال ربّه أن يجعله مشاهداً له في كل مظهر يحصل منه له تذّلل وخضوع وانقياد، بحيث تكون عبادته بمعنى تذلّله وخضوعه، وانقياده للظاهر. تعالى بذلك المظهر الخلقي، أي مظهر كان. ولهذه النكتة جيء بالمعمول مقدماً لإفادة الحصر، فإننا أمرنا أن نشهد الحقّ تعالى في كل مظهر ، ونعامله بحسب ذلك الظهور، كم أمر تعالى ـ. وليس ذلك برياء فإِنَّ الرياء لا يكون إلاَّ مع رؤية الغير، وأمَّ رؤية الحق تعالى وشهوده في ظهوراته وتعيناته فلا رياء ولا سمعة.

والحاصل: إننا أمرنا بطلب الخلاص من الشرك، وإفراد الخضوع والانقياد لله تعالى ، ولا يكون ذلك إلاَّ برؤية وجه الحق في كل شيء، ووجه ذاته المتعيّنة ببعض الأسماء، فالتذلّل و الخضوع والانقياد لشيء ليس هو الحق في شهود الخاضع المتذلل شرك. فالعارف ، خضوعه وتَذَلُّلُهُ وانقياده لا يكون إلاَّ لذلك الوجه الظاهر المتعين، كما قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة: 98/5].

بمعنى توحيد الطاعة وتخليص الانقياد، ولا يكون إلاَّ بهذا الشهود. فإنه لابدَّ لكلّ مخلوق من الخضوع والانقياد لمخلوق آخر، فعلمنا تعالى الخلاص من الشرك. وبمثل ما تقدم أمرنا في الاستعانة ، فنشهد الحق تعالى في كل شيء نستعين به في الأسباب والوسائط، وسواء في ذلك ما أمرنا بالاستعانة به، أو أبيح لنا كقوله: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[البقرة: 2/ 45].

أو غيرها من إنس وجن، وملك وحيوان وجماد، إذ لابد لكل إنسان من الخضوع ، لمن تكون حاجته عنده من المخلوقات، ومن الاستعانة بالمخلوقات، فإذا رحمة الله تعالى بمعرفته، وشهود وجهه في كل شيء تخلّص من الشرك، فكان لا يعبد إلاَّ الله، ول يستعين إلا َّ به.

﴿ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ﴾[المائدة: 5 /54].﴿وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[البقرة: 2/ 105]. [آل عمران: 3/ 74].، [الأنفال: 8/ 29]. [الحديد : 57/ 21 و 29].

والسلام.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!