الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


178. الموقف الثامن والسبعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾[الأحزاب: 33/ 72].

الأمانة هي الخلافة، كما قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[البقرة: 2/ 30].

و هو آدم (عليه السلام) أو معناها التحقق بجميع الأسماء الإلهية، فهو الإله في صورة آدمية، من غير حلول ولا اتحاد، وامتزاج، فأنا بريء من ذلك كلّه، وعرضه على السموات والأرض والجبال، ليس لحملها بالفعل لأنها لا استعداد لها لحمل الخلافة، و الحمل بغير استعداد محال، ويتعالى الحكيم العليم عن ذلك، ولكن ليظهر فضل الإنسان وشرفه، حيث أبت السموات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها، مع عظم السموات والأرض والجبال، ومع كونها أكبر من خلق الناس، كما قال: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾[غافر: 40/ 57].

﴿فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾[الأحزاب: 33/ 72].وأشفقن منها؛ لعلمها أن حاملها لابدَّ أن يظهر بالأضداد، ويوصف بالأنداد، بمعنى الخلافة ربّاً صغيراً، فخافت من قبول هذا الأمر، والأمر أن تكون على خطر، فاختارت السلامة، وأعرضت عن الربح حذر الملامة، وأنشد لسان حالها:

وقائلة مالي أراك مجانب

أموراً وفيها للتجارة مربح

فقلت لها مالي بربحك حاجة

 

ونحن أناس بالسلامة نفرح

﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾ الكامل بالفعل، لا مطلق المسمّى إنساناً، إذ مسمّى الإنسان: منه ما هو إنسان بالفعل والحقيقة، ومنه ماهو إنسان حيوان، إنسان بالقوة والصورة فقط.

﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[الأحزاب: 33/ 72].

كثير الظلم لنفسه وهذا مدح له، لأنه من المصطفين المختارين، كما قال ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ﴾[فاطر: 32]. كتاب الوجود، الكتاب المسطور، الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، لا ظا لم نفسه. فبين الظالم لنفسه، والظالم نفسه فرق، الأول ممدوح، والثاني مذموم، وهو المعني بقوله: ﴿كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[البقرة: 2/ 57]. [الأعراف: 7/ 160]، [التوبة:9/ 70]، [النحل: 16/ 33]، [العنكبوت: 29/ 40]، [ الروم: 30/ 9]. [آل عمران: 117].﴿ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾[هود: 11/ 101]، ونحوه.

«جَهُولاً» كثير الجهل بنفسه وبربّه لمعرفته بالأسماء الإلهية، التي تتوارد عليه وتتعاقب على الدوام، فكلما كانت الدولة لاسم كانت الغلبة والحكم له، واستتر باقي الأسماء تحته استتار النجوم عند طلوع الشمس مع وجودها في السماء، فتختلف عليه صُورها لاختلاف الأسماء الإلهية، فإنها التي تتشكل فيعرف في حال جهله ويجهل في حال معرفته، وإن يعرف أنه هو هو، كما يقول الإنسان: إني أنكرت نفسي، وكذا جهله بربه، لكثرة التجلّيات الإلهية إذ لا يتكرر تجلّ أبد الآبدين ولا يشبه تجل تجلياً أبداً. فجهل العارفين هو حيرتهم، بحيث لا يصح لهم ولا يمكنهم الحكم على المتجلّي بحكم، وهذ الجهل بمعنى الحيرة وعدم الضبط هو الذي سأل السيد الكامل (صلى الله عليه وسلم) الزيادة منه، فقال: «اللهم زدني فيك تحيرا».

لا حيرة الحجاب، فكلّما زاد العلم بالله تعالى زادت الحيرة والجهل، بالمعنى الذي ذكرناه، وقد قال إمام العارفين محي الدين الخاتمي (رضي الله عنه): إنَّ من أولياء الله من أزل الله عنه الحيرة فيه، وأنا عبد الله، ما فهمت هذا ول عرفته كيف يكون؟! والذي عليه أهل الله، بحسب ما وصل إلينا، أن من ادّعى المعرفة بالله ولم يحتر فذلك دليل جهل، قال سيدنا محي الدين في الفتوحات:

الله يعلم أني لست أعلمه

وكيف يعلم من بالعلم نجهله؟!

أني علمت وجوداً لا يقيده

 

نعت بحقّ ولا خلق يفصّله

علمي به حيرتي فيه فليس لن

دليل حق على علم نحصله


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!