الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


177. الموقف السابع والسبعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾[الليل: 92/ 5- 6].

أعطى نفسه وسلّمها لمشتريها بعقد: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ﴾[التوبة: 9/ 111].

فاستعملها فيما أمره به مشتريها، وحاد به مشتريها، وحاد بها عمّا نهاه عنه مالكها، واتقى بنفسه كلَّ مكروه، وليس ذلك إلاَّ بتصريفها فيما أراد مالكه ويرضاه، لا فيما يريده البائع ويهواه.

﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾[الليل: 92/6].

هي الطريقة المثلى، طريقة الأنبياء وورثتهم عليهم الصلاة والسلام والمراد تصديقهم فيما وهبهم الحق تعالى بفضله ومنّته من النبّوة والولاية، وم يتبع ذلك ويلزم من المعارف و العلوم التي جاءوا بها، وأخبروا عنها خارجة عن أطوار العقول و الأفكار، لا تصل إليها الأقيسة والأنظار.

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾[الليل: 92/7].

ونستعمله في الأسباب الموصلة إلى النجاة، والمعرفة بالله تعالى على طريق الأنبياء و الأولياء، التي توصل إلى المشاهدة وا لمكالمة، لا على طريق العقلاء، التي تقتضي البعد منه تعالى ، وتنزيهه عمّا أثبته تعالى لنفسه على ألسنة رسله عليهم الصلاة و السلام وإنما سماها يسرى، لأنها تؤول بسالكها إلى الأصل يكون بأدنى سبب. وقيل: الرجوع إلى الأصل أصل، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها. وهذه النفس التي يعطيها المؤمن ويتقرّب بها هي وهم، وما يعطيه الحق له على ذلك حق، فانظر إلى هذا الفضل العظيم. «وأمَّا من بخل»" بنفسه، فلم يسلّمها لمشتريها، ولم يستعملها فيما أمر به المشتري، ولا نهاها عمّا عنه نهى.. "واستغنى" عن الثمن، ورضي بالمثمن، ورجع في بيعه بعد عقده. "وكذّب بالحسنى" طريقة الأنبياء وورثتهم عليهم الصلاة والسلام ما أخبروا به الله تعالى ومم وهبهم وعلّمهم من لدنه، من العلوم وقال ما قال المكذبون:

﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾[المؤمنون: 23/ 24].

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾[المؤمنون23/ 25].

﴿قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾ [إبراهيم: 14/ 10]. ﴿أَهَذَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً* إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾[الفرقان: 25/ 41 -42].

ونحو هذا. إنما كانت هذه الطريقة عسرى، لأنها ضد الفطرة ونقيض الأصل، إذ كل مولود يولد على الفطرة، وهي طريقة النبوّة والولاية، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وأبواه الهوى والشيطان. وإنما سمَّاها أ بوان لطاعته إياهما، وقبول إشارتهما كالأبوين اللذين هما أنصح من كل ناصح لولدهما. فالتيسير عام في الخير والشر، وليس هو إلاَّ إعطاء الوجود لما تقتضيه الأعيان الثابتة، و الحقائق الإمانية، باستعداداتها في الخير و الشر.

قيل في الواقعة: من استراح تعب، فقلت: ومن تعب استراح. وذلك أن الحق تعالى خلق الإنسان وجعله ينتقل في المنازل و الأطوار، ولا يستقر به قرار إلاَّ في دار القرار، إمَّا في جنّة أو نار، وأعظم مواطنه موطنان، موطن الدنيا وموطن الآخرة، فموطن الدنيا موطن تكليف وتعب، وضيق وعمل، وحجاب وحجر، فمن استراح في الدنيا بإعطائه نفسه مناها، واتباع مرادها وهواها، فلم يعط الموطن حقه، ولم يراقب حكمة الحكيم تعالى ، ولا بذل له من نفسه ما استحقه، تعب في الآخرة، لأنها موطن جزاء واجتناء ثمرات ما غرس في الدنيا من الأعمال. ومن تعب في الدنيا وأعطى الموطن حقّه بالقيام بوظائف التكاليف، والعمل بما رسم المشرع، استراح في الآخرة: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾[الزلزلة: 99/ 7 -8 ]


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!