الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


128. الموقف الثامن والعشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾[البقرة: 2/152].

وقال تعالى فيما روى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الصحيح:

((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ)).

اعلم : أن الحق تعالى له الأولية الحقيقية والآخرية الحقيقية، وإن كنا نسميها إضافة، لأنه تعالى لا يوصف بالحوادث. فكل ما وصف به تعالى فهو قديم بالنسبة إليه تعالى ، وإن كان حادثاً بالنسبة إلينا، وهذه المسألة مسألة خلاف بين أهل السنة و المعتزلة. والحق: أن جميع أسماء الله تعالى ـ له وجهان ونسبتان، كما ذكرناه. وأمَّا أولية غيره تعالى وآخريته فهي نسبة. بمعنى ما وصف هذا المخلوق بالأول إلاَّ بالنسبة لما بعده. ولا وصف بالآخر إلاَّ بالنسبة لما قبله. فا لحق أوّل، من حيث ماهو آخر. وآخر، من حيث ماهو أوّل، فآخريته عين أوليّته، وأوليّته عين آخريته. ومع هذا فقد يُعطَى الحق تعالى وصف الأول باعتبار تعين، ويُعطَى حكم الآخر باعتبار تعين آخر، إذا كان أحد التعينين شرطاً أو سبباً، و الآخر مشروطاً أو مسبباً، فلابدَّ حينئذٍ في وصف التعين إذا كان شرطاً أو مسبباً بالأوّلية. ومن وصف التعين إذا كان مشروطاً أو مسبباً بالآخرية، ضرورة تقدم الشرط والسبب، على المشروط و المسبب، كما في هذه الآية والخبر ونحوهما. فذكره تعالى لهم، من حيث التعين الكّلي مسبب ومشروط يذكرهم له بالتعينات الجزئية السببيّة والشرطية في ذكرهم له. وأما ذكره لهم تعالى ، وذكرهم له في المرتبة العلمية فليس هنالك تقديم ولا تأخير، ولا أولية ولا آخريّة، ولا سبب ولا شرط. لأن المعلومات في الحضرة العلميّة عين الذات الأحديّة بالوحدة الحقيقية والأولية والآخرية إنَّما هي في هذه المرتبة التي يقال فيها وجود عيني؛ فهو تعالى يذكر عبده بالثناء عليه، إمَّا باسم كلّي أو نوعي أو جزئي، على حسب العناية بالعبد الذاكر.

قلت مرة: يا رب!! إني أعلم أنك تذكرني بخبرك الصادق، فهل تذكرني باسم وثناء عام أو خاص؟! فغيّبني، وألقي عليَّ قوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾[الإسراء: 17/ 106].

فلمّا رجعت إلى الحس حمدته تعالى ، وعلمت أنه يذكرني باسم عام جامع لأنواع من الثناء، لأنَّ القرآن الجمع، فإذا تفصل صار فرقاناً.

وكنت ليلة أذكر الله، وبقربي كلب لا يزال ينبح الليل كلّه. فقلت له في نفسي: يا كلب أنت أغلق صاحبك بابه دونك، وأنا أغلق حضرة مولاي دوني. فألقي عليَّ في الحال: "لا تقل هذا، واحمد الله تعالى على أن دعوناك لمجالستن والخلوة بنا، أما علمت أني جليس من ذكرني؟!" على أنه تعالى ـ، الذاكر و المذكور في مرتبة الجمع، وأنه الشرط والمشروط، والمسبّب والسبب،  ولذا قال بعض سادات القوم (رضي الله عنه) الذكر حجاب، يعني: مادام الذكر يشهد نفسه ذاكراً، و الحق تعالى مذكوراً له فهو محجوب، فإذا أراد الله رحمته أزال الحجاب عنه، فأشهده أنَّ الحق تعالى هو الذاكر والمذكور والذكر، ولذا قال تعالى : ((وأنا مع عبدي إذا ذكرني)).

أي: مادام يشهد أنه ذاكر لي وأنا مذكور له، فأنا معه، أي غيره، إذ المعيّة تقتضي الغيرية والمصاحبة على مقتضى اللسان العمومي، لا على لسان القوم الخصوصي. وإذا كان الحق تعالى مع عبده الذاكر، بحسب شهوده فهو تعالى يفعل معه ما يفعله المصاحب مع صاحبه من الرفق واللطف والرعاية. فلو انتفت المعيّة في شهود الذاكر، وثبتت في شهوده العينية، الثابتة في نفس الأمر، علمت أو جهلت، لفعل تعالى له ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وأفاد مفهوم هذا الخبر: أن من لم يذكر الله تعالى لا تكون معيّة الحق له، كمعيته مع الذاكر من اللطف و الرعاية، ولا يتوهّم متوهم في أخبار الحق تعالى أنه يذكر عبده، بذكر عبده له تعالى ، كما في الآية والخبر. وأنه يجب كم ورد في خبر:

((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي)).

فإذا قال العبد: الحمد لله. يقول الله تعالى : حمدني عبدي، الحديث بطوله، وهو في الصحيح؛ أنه كان غير ذاكر لعبده، أو غير مجيب لعبده المصلّي، ثم ذكر، وأجاب فإن الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي الأزلي، فذكر الله تعالى لعبده، إذ ذكره هو كنزول القرآن. والقرآن كلام الله حقيقة. وقال تعالى في حقه: ﴿وَمَ يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ﴾[ الشعراء: 26/5].

أي حادث النزول، لا حادث الذات، كما قال: حدث الليلة عندنا ضيف، حدثت ضيفته، لا ذاته، فذكر الله عبده قديم بذاته عنده تعالى وحادث عندنا بإظهاره. فالكلام حقيقة واحدة. والمتجلّي من كونه متكلماً واحد، والمتجلي له مختلف مقيد بالزمان والمكان. فظاهر كلامه هو باطن علمه، فالمكونات كلّها كلام الله تعالى في مرتبة الظهور، وهي معلوماته في مرتبة البطون. ونسبة الكلام إليه تعالى ، مجهولة كسائر نسبه تعالى ، ولا مشاركة بين كلامه تعالى وكلام غيره إلاَّ في شيء و احد، وهو إيصال مافي نفس المتكلم إلى المخاطب فقط. وقوله تعالى : ((ذكرته في ملأ خير منهم)) احتج به شيخنا محيي الدين، على تفضيل الملائكة على البشر، وقال: أخبره النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا في الرؤيا. و المعوّل عليه عندي إن كان لي عند ما قاله شيخنا في كتاب (ما لا يعوّل عليه): "الكشف الذي يعطي تفضيل البشر مطلقاً أو الملك مطلقاً لا يعول عليه، يريد للملك فضل من وجه واعتبار، وللبشر فضل من وجه واعتبار".


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!