الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


129. الموقف التاسع والعشرون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾[إبراهيم: 14/ 34].

أي أعطاكم كلّ ما سألتموه. "فمن" للبيان لا للتبعيض، و المراد سؤال الاستعداد، سواء كان سؤال الاستعداد قبل إيجادكم العيني، كما هو في خلق السموات والأرض، وما عطف عليهما من العطايا المتقدمة في الآية، فإنها كلّه مخلوقة لمصلحة الإنسان الذي سيوجد، لطلبه لها باستعداده قبل إيجاده، أو كان سؤال الاستعداد، بعد إيجادكم العيني،  كسائر الأشياء التي تطلبها الاستعدادات الإنسانية، في الدنيا والبرزخ والآخرة، مع تباين الاستعدادات التباين الذي لا يدخل تحت الحصر. فسؤال الاستعداد أي استعداد كان مقبولاً مجابهاً ولابدّ، سواء قارن سؤال اللسان أم لا، وسؤال اللسان، إذا لم يوافقه الاستعداد مردود ولابدّ، لكن إذا كان قصد السائل التعبّد بسؤاله، وإظهار الفاقة، كم هي الحكمة في مشروعية الدعاء، يجاب بالحسنات وتكفير السيئات، لا بعين ما سأل. والاستعداد المذكور هو ما تقتضيه الحقائق، أي حقيقة كانت، اقتضاء ذاتياً ولزومياً بيّناً، فإن كلّ حقيقة لها ذاتيات ولوازم، وتلك اللوازم لها لوازم. وهكذا كالسلسلة إلى ما لا نهاية له. والاستعدادات كلية وجزئية، فالكلية هي ذاتيات الحقائق، وهي غير مجعولة، والاستعدادات الجزئية مجعولة، والاستعدادات الجزئية مجعولة، ووصف الحق ـ تعالى بأنه خلاق على الدوام إنما هو في الاستعدادات ا لجزئية، التي هي لوازم الحقائق، بحيث لا يتصّور بعد الاطلاع على الحقائق انفكاك تلك الحقيقة، عمَّا هي مستعدّة له. كاستعداد الجوهر وسؤاله للعرض، لأن يقوم به. وسؤال العرض باستعداده للجوهر لأن يتقوّم به. فكل ما حصل في العالم، أي شيء كان، ممّا يطلق عليه اسم شيء، فمن اقتضاء استعدادات الحقائق له، ولذا قال العارف، حجة الإسلام الغزالي (رضي الله عنه) في كتاب التوحيد ما معناه: "أنَّ الله سبحانه وتعالى لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم، وعلم أعلمهم، وأفاض عليهم في الحكمة ما لا منتهى لوضعه، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وعرّفهم دقائق اللطف، وخفايا العقوبات، وأمرهم أن يدبرو الملك و الملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبيرهم أن لا يزاد فيم دبر الله به الخلق في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منه جناح بعوضة، ول أن يدفع مرض أو نقص، أو فقر أو شر، عمّن بلي به، ولا أن يزال صحّة أو كمال أو غنى، أو نفع عمّن أنعم عليه، فكّ ما قسم ا لله بين عباده من رزق وأجل، وسرور وحزن، وعجز وقدرة، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على ما ينبغي وكما ينبغي، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على ما ينبغي وكما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي..." إلى آخر ما قال في المسألة. يعني أنه تعالى ما أعطى ولا منع إلاَّ با لعلم و الحكمة، وذلك أنه أعطى كل مستعدّ ما استعدَّ له، ومنع ما ليس بمستعدّ من غير استعداده، وهو اقتضاء الحقائق لما اقتضته من كل ما حصل لها ممّا يلائم صورها، أو لا يلائم. فإنه إذا ما لاءم صورها يلائم حقائقها، وقد ورد في الخبر: «إنَّ من عبادي من لا يصلحه إلاَّ الفقر، ولو أغنيته لأفسدته، وإن من عبادي من لا يصلحه إلاَّ الغنى ولو أفقرته لأفسدته».

وبالاستعدادات غير المجعولة، والمقتضية لكل ما أعطاها الحق تعالى ـ،  كانت الحجة البالغة لله تعالى على مخلوقاته، فليس لمخلوق أن يقول بلسانه: يارب لم جعلتني كذا؟ واستعداده الذي هو المقتضى الذاتي يطلبه. وإذا أمطنا الحجاب، ورفعنا النقاب، قلنا: ليس المقتضي إلاَّ الأسماء الإلهية. فإن الحقائق الإمكانية صورها. وإذا زدناه إماطة ورفعاً قلنا: ليس المقتضى إلاَّ الذات العلية، فإن الأسماء صورها ومراتب ظهوراتها. فافهم وإذا فهمت فاكتم، فإنه بحر سرّ القدر، والخوض فيه خطر، ولهذا قال أنصح النصحاء، وأفصح الفصحاء: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا)) .

الخطاب للضعفاء، الذين لا يحسنون السباحة، فلربما تزندقوا وصاروا إلى الإباحة. أسأل الله تعالى العافية والسلامة لي ولإخواني، فإنه لا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!