الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


111. الموقف الحادي عشر بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾[النور: 24/ 39].

أي مثل الذين كفروا وستروا علمهم ومعرفتهم بربهم، مثل أ عمالهم كسراب بقيعة، أي هم وأعمالهم في التمثيل كالسراب الذي يدركه المدرك بالقاع، فيتوهم بحسب إدراكه أنه أدرك شيئاً، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، هذا وجه الشبه. يعني أن المتعطش إلى ماء الحياة الأبديّة والقرب من الله تعالى إذا رأى الذين كفروا ورأى أعمالهم في اجتهادهم وملازمتهم للطاعات، وإقبالهم على أنواع القربات، والمسارعة إلى نوافل الخيرات، يحسبهم أنهم عند أنفسهم لهم وجود وأنهم فاعلون، تاركون، متقرّبون، وأنهم يرجون بذلك حصول نفع، أو دفع ضرّ، فيعظم ظم المتعطش إلى ماء الحياة و القرب من الحق تعالى ، فإذا وصل الظمآن إلى ظاهر أحوالهم وإليهم، وتجاوز عن معرفة ما ظهر على ما بطن، لم يجدهم في أنفسهم ولا في أعمالهم شيئاً مغايراً للحق تعالى ، وهكذا هو التجلي الإلهي في الصور، يكون بصورة حاجة المتجلّي له، كما تجلَّى لموسى (عليه السلام) بالنار، لأنه كان يطلبها، المتعطّش إلى السعادة الأبدية يحسب أنَّ ما عليه الذين كفروا في ظواهرهم من الأعمال، هو الماء الذي من شرب منه لم يظمأ أبداً، فلما وصله لم يجد من تلك الصور العاملة ا لعابدة في بادئ الرأي، ولا من الصور المفعولة المتعبّد بها، إلاَّ الله تعالى متصوراً بصور العابدين، وبور عباداتهم، ومتجلياً بها، فكان الله تعالى العابد بتلك الصور، وهي كالآلات، وهو المعبود بها، وهذا معنى وجد الله عنده. أو يكون المعنى: أنَّ الطالب لماء القرب منه تعالى يتوهّمه بعيداً منه، ما يرى العطشان السراب من بعده، فيطلبه ويلقى في طلبه مشقة وتعباً، فإذا جاءه، بمعنى انكشف عن الطالب حجابه، وأميط عن المطلوب نقابه،  وجد مطلوبه عنده ومقصوده بعد ما فارقه من أوّل قدم كما قيل:

ومن عجب أني أحن إليهم

 

وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عيني وهم في سواده

ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

لوفّاه حسابه، أي أعطاه عطاء تاماً فوق ماكان يؤمله ويحسبه، ويعدّه من الكرامة، وحسن المقامة، فإنه تعالى عند ظن عبده به، كما أخبر تعالى بذلك عن نفسه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!