الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


106. الموقف السادس بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾[الإسراء: 17/ 82].

اعلم: أنَّ العلل والأمراض يراد بها علل القلوب، وعلل النفوس، وعلل الأجسام؛ والعلل التي القرآن شفاؤها ماهي علل النفوس، إذ تلك العلل أطباؤها المشايخ أهل التربية، العارفون بالله تعالى ـ، إذ معرفة علل النفوس وطبّها ركن من أركان المعرفة بالله تعالى ـ؛ و علل الأجسام أطباؤها العارفون بعلوم الطبيعة وإن ورد الاستشفاء بالقرآن من علل الأجسام فما هو المراد هنا منها؛ وإنما مرا دنا علل القلوب وأمرا ضها، وهي العقائد الباطلة، والنحل الزائفة، فهي التي القرآن شفاؤها، وماهو شفاء إلا للمؤمن خاصة، وهو الذي سلم الأمر إلى ربه وإلى رسله (عليه السلام) وانقاد ظاهراً و باطناً ما اضطرب، ولا نازع الشرع بعقله فيما وصف به تعالى نفسه من صفات المخلوقين، أو وصفته به رسله (عليه السلام) فما ردّ ولا أوّل، ولا شبّه التشبيه المعروف عند العامة، بل فوّض الأمر إلى الله وإلى رسله (عليه السلام) وقال:

«لا أعرف بالله تعالى من نفسه ولا أعرف به من المخلوقين من رسله».

وحينئذٍ كان القرآن له شفاء ورحمة، لأنه لما عمل على هذا اجتمع له نوران: نور عقله القابل، ونور إيمانه الكاشف، فكان نوراً على نور، وانقشعت عنه غياهب الجهالات إذ لا ظلمة مع نور كاشف، وحدث من اجتماع هذين النورين نور ثالث، ل هو عينهما ولا غيرهما، كالبرزخ الحاجز بين الشيئين، لا هو عينهما ولا غيرهما، إذ يحدث عند التركيب مالم يكن لكلّ و احد من المركبين بانفراده، فجمع بين الشرق والعقل، بل وجد ماكان يتوهمه خلافاً وفاقاً، ووجد العقل لبنًا والشرع زبدة، ذلك اللبن منزه ومشّبه. لا تنزيه مطلق كتنزيه المتعقّلة، ولا تشبيه مطلق كتشبيه المشبهة، فتشبيهه عين تنزيهه، كشف الله تعالى له عن حقيقة الأمر فعرف محل التنزيه من محل التشبيه، فأنزل الأشياء منازلها، وأورد النصوص الواردة مواردها، وحينئذٍ صار إطلاق اسم المؤمن ع7ليه مجازاً، إذ المؤمن هو المصدق تقليداً، وهذا قد ارتفع عن مرتبة التقليد، فهو يشاهد الأمر عياناً. صار الغيب عند غيره شهادة له شهادة ضرورية، وانظر قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى: 11].

فهاتان الآيتان جمعتا التنزيه والتشبيه، فإن قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

تنزيه على زيادة الكاف، كما هو رأي جمهور المتكلمين صريح في نفي التشبيه و المثل، وقوله:

﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾

تشبيه صريح لأن تعريف الجزءين يفيد حصر الخبر، وقصره على المبتدأ، فهو في قوة لا سميع ولا بصير إلاَّ هو، وكل سميع وبصير هو. ويصح تركيب قياس من الشكل الأول فت قول: كل حي سميع بصير، السميع البصير هو الله لا غيره، فتكون النتيجة: كل حيّ هو الله لا غيره، أما صدق الأولى فبالضرورة، وأما صدق الثانية فبالكتاب العزيز، بل قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

بانفراده ي عطي التنزيه والتشبيه، على أن الكاف كاف الصفة،  كما هو رأي العارفين ب الله تعالى. فإن الكلام المعجز يجل عن الزيادة ولا يصار إلى الزيادة، إلاَّ عند التعذّر، ولا تعذّر هن عند العارفين. فمعنى إشارة الآية الكريمة على هذا إثبات المثل له تعالى: وهو التشبيه ونفي المماثلة عن هذا المثل وهو التنزيه، فإنه إذ كان لا مثل لمثله، كان نفي المثل عنه تعالى أولى وأحق.

وليعلم أنَّ الحق تعالى من حيث اسمه الباطن واسمه الأول، لا كلام فيه لعقل، ولا خبر عنه لرسول، ولكن من حيث اسمه الظاهر واسمه الآخر أمكن للعقول الاستدلال عليه، و للرسل أن تخبر عنه، لأنَّه لمَّا ظهر ب اسمه الظاهر فأوجد العالم على صورته، أي صورة علمه، وعلمه عين ذاته، و العلم عين المعلوم، ثم أوجد الإنسان على صورة العالم، وجعله نسخة مختصرة من العالم، حينئذٍ أمكن الكلام فيه، ف لمماثلة إنما هي بين الصورة الأولى التي هي صورة الحق تعالى وبين الصورة الثانية التي هي صورة الإنسان الكامل، فيكون المعنى: ليس مثل مثله شيء، فالمثل المنزّه هو الإنسان الكامل، أثبت له المثلّية ونفى عنه أن يكون له مثلن إذ هو الأصل في إيجاد العالم ولو تأخرت صورته. فالعالم كله بجميع أجزائه العرش وما حوى، يماثل الإنسان، والإنسان بمختصره يماثل العالم كله. فالعالم بمجموعه مثل، والإنسان بمفرده مثل. فأنت ترى هذه الآية كيف نزّهت، لأن تنزيه المماثل اسم فاعل، تنزيه للماثل اسم مفعول، وشبهت بإثبات المماثل. فالمؤمن الذي يكون القرآن له شفاء ورحمة يكون القرآن كلّه له محكماً، ليس فيه متشابه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾[النساء: 4/ 82].

فما في القرآن اختلاف، بل هو: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود: 11/1].

وأما قوله: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾[آل عمران: 3/ 7].

فإنما ذلك في حق من ينصر عقله، ويرجحه على الكتاب والسنة، فإن الله م أرسل رسله إلاَّ ليعلّموا عباده ويعرفوهم بربهم. فطالب الحق بفكره وعقله ليس القرآن شفاء له، فإذا سمع آية أو خبراً يفهم من ظاهرهما تشبيهاً، يقول: أورث هذ الخبر، أو هذه آية شبهة عندي، حيث خالف عقله، فمثل هذا لا يكون القرآن شفاءه، بل يزيد في علّته، وهو من الظالمين الذين يزيدهم القرآن خسارا، إذ الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها التي تستحقها، وممن قال في حقه: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾[البقرة: 2/26]، ومن الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، حتى يؤوّلوه ويردوه إلى عقولهم، وقد عمت هذه البلوى، فلا تجد اليوم فقيهاً إلاَّ على هذا المذهب، وقد نصحتك والله الموعد.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!