الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


100. الموقف المائة

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[الفتح: 48/ 10].

انظر إلى هذا التأكيد في الآية، الرافع لكل تجوّز ومجاز، فالحق تعالى ـ لما أراد الظهور لذاته من حيث الإطلاق، بذاته من حيث التقييد، والمطلق عين المقيد، جعل نوراً بمثابة المرآة، ثم تجلَّى في ذلك النور، فانطبعت الصورة الإلهية في ذلك النور انطباع الصور في المرايا ﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾[النحل: 16/ 60.

وصورة الشيء مجموع أوصافه لا عين ذاته، والترتيب حكمي لا زماني فإنه ل زمان هناك، ولكن للتفهيم، وسمَّى الحق تعالى هذا النور و المنطبع فيه حقيقة محمدية، وروحاً كلياً ونحو ذلك. فالمتوجه على المرآة هو الحق تعالى ، والمنطبع في المرآة حقيقة محمدّية، وصورة رحمانية، فالمتوجه على المرآة والصورة في المرآة والمرآة شيء واحد، إذ ليس إلاَّ وجود واحد، هو وجود الحق تعالى ـ، فليس للمرآة ولا للصورة في المرآة، وجود مغاير للوجود الحق المتوجّه على المرآة، فمن كان نظره واعتباره إلى أن هذه الصورة ظهرت به بعد أن لم تكن ظاهرة قال بحدوثها، ومن كان نظره واعتباره إلى أنه ليس هناك غير الوجود المتوجّه على المرآة وهو الحق تعالى ـ قال بقدمها. فالحقيقة المحمدية هي تعّين الحق لنفسه بجميع معلوماته ونسبه الإلهية والكونية، فهي الحق، إذ التعيّن أمر اعتباري لا عين له، فليس هناك إلاَّ المتعيّن، قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[الإسراء: 17 / 85].

هو أمر ربّي الصادر بالأمر وهو " كن" فهو عين "كن" إذ كلامه عين علمه، وعلمه عين ذاته، فالحق واحد من كل وجه لا يتبعض ولا يتجزأ، ولذ كان الحق تعالى في كلامه الكريم،  تارة يجعل نفسه نائباً عن محمد (صلى الله عليه وسلم) فيقول: ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت: 29/ 3].

أي يعلم محمد. وتارة يجعل محمداً نائباً عنه، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيْهِمْ﴾[الفتح : 26 10].

ويقول: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾[النساء: 5/ 80].

ويقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 9/ 17].

وقال تعالى: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ﴾[البينة: 98/ 2].

ووردفي الخبر عنه (صلى الله عليه وسلم): ((من رآني فقد رأى الله))

يعني رؤية حقيقته (صلى الله عليه وسلم) فلا مغايرة إلاَّ بالاعتبارات العدمّية، كالإطلاق والتقييد، ومن هنا قال بعض الأكابر: "الوجود الحق تعالى ـ ظهر في الحقيقة المحمدية بذاته، وظهر في سائر المخلوقات بصفاته" يريد أن الحقيقة المحمدية ظهرت بالتجلّي الذاتي، موصوفة بجميع صفات الحق تعالى ونسبه الإلهية والكونية، وفوّض إليها تدبير كل شيء يوجد بعدها. فهي المتصرفة في معلوماته ـ تعالى ـ، حسب إرادته ومشيئته تعالى ، فتستمد من العلم وتمد الخلق. فما صدر عن الله تعالى بغير واسطة إلاَّ هذه الحقيقة. وكل ما عداها حتى العقل الأول إنما كان بواسطتها. وإن كان الحق تعالى له الخلق والأمر، فهي الظاهرة في الأشياء وهي السارية في الوجود. ومن شاهد سريانها في الموجودات قال من قال: "لو احتجب عنّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين".


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!