الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


99. الموقف التاسع والتسعون

قال تعالى: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[العنكبوت: 59/ 6].

الجهاد هنا أعم من الجهاد الأصغر، الذي حدّه عند الفقهاء قتال مسلم كافر لإعلاء كلمة الله. ومن الجهاد الأكبر، الذي هو جهاد النفس و الهوى بإتيان المأمورات، واجتناب المنهيات، و ارتكاب مشاق الرياضات والمجاهدات، الذي قال فيه (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)).

أخبر تعالى في هذه الآية: أن فاعل ما ذكر إنما يفعله لنفسه، أي حقيقته التي بها هو هو، وهي الحقيقة السارية في كل إنسان التي قال فيها (صلى الله عليه وسلم):

((من عرف نفسه فقد عرف ربه))

وهي المسماة بالبرزخ وبالصورة الرحمانية، وبمرتبة الأسماء والصفات،  وغير ذلك من الأسماء بحسب مالها من الوجوه والاعتبارات. فهذه المرتبة هي مرتبة الألوهية وهي الطالبة للعباد بحقيقتها، وهي المقتضية لعبادتهم، وهي الربوبيّة، الطالبة للمربوبين، وليست هي الذات وإنما هي مرتبة كسائر المراتب، و الحكم و الفعل والتأثير لها لا للذات، ولا عين لهذه المرتبة ولا لغيرها من المراتب زائدة على الذات، فالألوهية تعلم ولا تشهد، و الذات تشهد، ولا يحاط بها ولا تعلم، وأكثر المتكلمين أو كلّهم، والعابدين من غير أهل الله العارفين، لا يفرقون بين الذات و المرتبة، فإشارة الآية الكريمة إلى: أنه ل يعبد ع ابد ولا يتقرب متقرب إلاَّ إلى مرتبة الألوهية و الربوبية، التي هي منش العالم جميعه، المقتضية لإيجاده، ولكّل ما يصدر عنه، فإن الألوهية تطلب مألوهّاً وعابداً، قال تعالى: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾[الإسراء: 17/ 14].

فنفس كل إنسان هي الحسيبة عليه، المحصية لأفعاله، وهي غير نفسه المأمورة في مقام الفرق، وهي هي في مقام الجمع وإسقاط الاعتبارات. وأما الذات العلية عينها فهي غنيّة عن العالمين، لا تتعّلق بها عابدة عابد، ولا معرفة عارف، ول تعطي ولا تمنع، ولا تضر ولا تنفع، ولا تطلب مخلوقاً ولا مربوباً، ولا عابداً ول عارفاً حتى يعبدها ويتذلل إليها، فهي غنية حتى عن أسمائها، الطالبة لظهور آثاره بظهور العالم، وهي المسماة بالأحد وبالله، ومن هنا قال من قال في اسم الله: إنه علم مرتجل، لا صفة ولا مشتق من شيء، حيث كان علماً على الذات الذي لا يوصف ول يعلم، ولا يجد ولا يرسم، وفي الحديث: ((ليس وراء الله مرمى))

بمعنى أنه فوق المراتب كلّها، وليس فوق المراتب كلها إلاَّ الذات، وهذه الآية تدل على هذا. فالأمر الإلهي ما ورد إلاَّ بعبادة الصفة للصفة، وهي عبادة المربوب لربه، و المألوه لإلهه كما قال: ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً﴾[التوبة: 9/ 31].

وكلّ ما وردفي القرآن في الأمر بالتوحيد والعبادة إنما هو لهذه المرتبة، وهي مرتبة الألوهية لا للذات، وأمَّا من قال في اسم الله: أنه صفة أو مشتق من كذا أو كذا، فقد جعله لمرتبة الألوهية، ووروده في القرآن يحتمل الوجهين، وقول من قال لا يجوز التخلق بالاسم "الله" يريد الأول. وقول من قال يتخلّق بالاسم "الله" فإنه كسائر الأسماء يريد الثاني. فمن قال من العابدين أصلّي أو أصوم أو أفعل كذا قياماً بحق الله أو الأحد لم تقبل عبادته إن قصد الذات الغنية عن العالمين، فإن الذات لا تقبله والأحدية ترمي به، فإنها بحقيقتها تنفي أن يكون معها غيرها من عابد أو عارف. فالذي يعبد الأحد، والله إن كان علماً على الذات لا تصح له عبادة، فهو يعبد في غير معبد، ويعمل في غير معمل، إلاَّ رجالاً من خاصة الخاصة، فإن عبادتهم ذاتية، لأنهم لما تجلت لهم نفوسهم وعرفوها، رأوا استفادة وجودهم من غيرهم، فأعطتهم رؤية أنفسهم العبادة الذاتية، لا عبادة المرتبة كغيرهم، لأن معرفتهم شهودية، ما هي علمية كغير هم، وهم الزنادقة الذين قال فيهم الجنيد (رضي الله عنه) لا يكون الصدّيق صديقاً حتى يشهد فيه مائة صديق بأنه زنديق. ومن تسلّق على هذا المقام وليس من أهله هلك، ومن قال: أصلّي أو أصوم، أو أفعل كذا قياماً بحق الربوبية والعبودية، قبلت عبادته، والسعيد الجامع بينهما، واحذر أن تظن بنا أن ممن يحرّف الكلم عن مواضعه، وإنما المفهوم من الآية بحاله. ولكن هذه إشارات، تظهره أنوار المعارف و التجليات على القلوب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!