The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[الباب التاسع والخمسون وخمسمائة في معرفة أسرار وحقائق من منازل مختلفة]

(و قال) : خطاب اللّه بضمير المواجهة تحديد بضمير الغائب تحديد ولا بد منهما. وقال: ما أخبرنا الحق تعالى أنه ينزل إلى سماء الدنيا إلا ليفتح لنا باب التواضع بالنزول إلى ما هو دوننا في زعمنا. وقال: انظر بعقلك في سجود الملائكة لآدم ما صرفت وجوهها إلى التحت إلا وهي مشاهدة للحق تعالى فيه مشاهدة عين. وقال: لو وقفت النفوس مع ما عرفته من الحق لعرفت الأمر على ما هو عليه، لكنها أبدا تطلب أمرا غاب عنها فكان طلبها عين حجابها فلذلك قال تعالى: ومٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67] لشغلها بطلب الباطن الذي غاب عنها واللّه ما بطن عنها إلا ما ليس لها قدم في معرفته، فما خاطبنا تعالى بأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلا ليعلمنا أن الذي نطلبه في الباطن هو الظاهر فلا نتعب نفوسنا في التفكر فيه. وقال: إذا أخبرك الحق تعالى في أمور فانظر إلى ما قدم منها في الذكر فاعمل به فإنه ما قدمه حتى تهمهم به فكأنه نبهك على الأخذ به ابدءوا بما بدأ اللّه به لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وقال: عطايا الحق كلها نعم وإن أعطانا المنع وخصها العامة بما وافق الغرض وذلك مرض ثبت بالشرع المطهر حكم الحاكم بالشاهد واليمين وقد تكون اليمين فاجرة والشهادة زورا فلا علم مع ثبوت الحكم مع أن الحاكم مصيب للحكم فهو صاحب علم لأن اللّه ما حكم إلا بما علم، وقد شرع للحاكم أن يحكم بما غلب على ظنه فهو عنده غلبة ظن وعند اللّه علم فافهم. وقال: الخلافة حكم زائد على الرسالة فإن الرسالة تبليغ والخلافة حكم يقهر.

وقال: إذا ابتلاك الحق تعالى بضر فاسأله في رفعه عنك ولا تقاوم قهره بالصبر تغلب وما سماك صابرا إلا من حيث حبسك الشكوى عن الخلق لا عن الحق فافهم. وما قص اللّه عليك قول أيوب: مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ [الأنبياء: 83] إلا لتهتدي بهداه وإذا كان يقال لسيد البشر: فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ [الأنعام:90] فما ظنك بغيره وقال: لا تقل قط إن الحق تعالى وصف نفسه بما هو لنا مما لا يجوز عليه كالنزول والإتيان والضحك ونحو ذلك، هذا سوء أدب وتكذيب للحق فيما وصف به نفسه دونك بل هو تعالى صاحب تلك الصفة من غير تكييف فالكل صفات الحق وإن اتصف بها الخلق بحكم الاستعارة إذ الممنوع إنما هو نسبتها إلى الحق على حد نسبتها إلى العبد. وقال: لا يلزم من الفوق إثبات الجهة كذلك لا يلزم من الاستواء إثبات المكان كما مر.

وقال: في حديث «إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت» أي يراه بعد موته لا في حال موته كما توهمه بعضهم فما نفى الشارع إلا رؤية اللّه في الحياة الدنيا لا غير. وقال: إنما قال تعالى: فَإِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ [النحل: 98] ولم يقل إذا قرأت الفرقان فاستعذ لأن القرآن جمع فهو يدعو إبليس إلى الحضور بخلاف الفرقان فإنه يطرده. وقال: من استفهمك فقد أقر لك بأنك عالم بما استفهمك عنه وقد يقع الاستفهام من العالم ليختبر به من في قلبه ريب فيمتاز من يعلم ربه ممن لا يعلمه نظيره يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا [الصف:2] فهذا مؤمن أمر أن يؤمن بما هو به مؤمن. وقال: في حديث: «و اللّه أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش» أي جعلها حراما محرما كما حرم مكة وغيرها فمن وقع فيها فقد أثم من جهة انتهاك حرمتها قال: وقد تخيل الناس أن ذلك إهانة بالفواحش وليس كذلك وإنما هو تعظيم لها من حيث أنها شعائر اللّه وحرماته ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُمٰاتِ اَللّٰهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] فتحريم الوقوع في المحرمات مثل تحريم التفكر في ذات اللّه فإن تحريم التفكر دليل على التعظيم انتهى فليتأمل في معناه.

(و قال) : في قول علي رضي اللّه تعالى عنه: ما من آية إلا ولها ظهر وبطن وحد ومطلع: اعلم أن الظاهر من الآية ما أعطاك صورته والباطن منها ما أعطاك ما تمسك عليه الصورة والحد منها ما يميزها من غيرها والمطلع منها ما أعطاك الوصول إليه وأهل الكشف يميزون بين هذه المراتب. وقال: من ليس كمثله شيء ما هو ذو حياة ولا موت والحياة فإن من خلق الموت والحياة لا ينعت بهما فقد كان ولا هما فهو الحي ما هو ذو حياة. قال: وكذلك له تعالى الأسماء ما له الصفات فتسمى الصفات أسماء لورودها في الكتاب والسنة. قال تعالى: ولِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ [الأعراف: 180] . وقال تعالى: سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ ( 180 ) [الصافات: 180] فتنزه عن الصفة لا عن الاسم. وقال: الملائكة حجبة بين اللّه ورسله والرسل حجبة بين الملك والرعايا فبعد بذلك واللّه إسنادنا والمقصود من الرواية علو الإسناد وكلما قل رجاله علا وقد عرفنا الشارع بذلك فقال: أَدْعُوا إِلَى اَللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فزال جبريل أنا ومن اتبعني فزال الرسول ومنه قال أبو يزيد: حدثني قلبي عن ربي فعنه أخذ هذا قوله: يا أيها المنكر. وقال: الأحكام تختلف باختلاف الأسماء فإن قلت في سمكة إنها خنزير البحر حرمت هذا حكم الاسم وقال: كرم الكرم هو أن يتكرم العبد على الصفح والعفو بالوجود فيعفو ويصفح لأن العفو والصفح كرم واستعمالهما كرم الكرم وكذلك يقال في إساءة الإساءة فإن المسيء من أتى بما يسوء وإن كان جزاء إلا أن هذا الاسم مقصور حكمه على الخلق فلا يجوز على الحق تعالى أدبا أدبنا به الحق. وقال: الإسلام والإيمان مقدمتا الإحسان، مع أن الإيمان له التقدم والإسلام تال وإلا لم يقبل. وقال: أيضا الإيمان تصديق فلا يكون إلا عن مشاهدة الخبر في التخيل فلا بد من الإحسان والإسلام انقياد والانقياد لا يكون إلا لمن انقاد طوعا وليس ذلك إلا لمن أحسّ بأن الحق آخذ بناصيته فإن لم يحس فما انقاد إلا كرها، والإحسان أن ترى أنه يراك على المشاهدة. وقال: ما أجهل من قال: إن اللّه لا يخلق بالآلة وهو يقرأ: ومٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ [الأنفال: 17] فكيف بما هو به مؤمن هذا هو العجب العجاب وقد تقدم قولنا: إن السيف آلة لك وأنت والسيف آلة له. وقال: الأولى أن يقال: الخلق يكون عند وجود الآلة حقيقة لا بالآلة واللّه أعلم، وقال: التسبيح تجريح لأن المنزه لا ينزه إلا على سبيل الحكاية ونظير ذلك عدم العدم فإنه وجود فليس في الحق تقص حقيقة ينزه عنه وإيضاح ذلك أن التقديس الذاتي يطلب التبري من تنزيه المتنزهين فإنهم ما نزهوا حتى تخيلوا وتوهموا وما ثم متخيل ولا متوهم يتعلق به ويجوز أن يتعلق به فينزه عنه بل هو القدوس لذاته وأطال في ذلك. وقال: من قتله أعداء اللّه ما مات بل جمع له بين الحياتين فإن اللّه تعالى اعتنى بيحيى صغيرا وسلط عليه الجبار فقتله كبيرا وما حماه منه ولا يضره ذلك لأن الصغير إنما اعتنى به رحمة به لضعفه فإذا كبر وكل إلى نفسه فإن بقي في كبره بحكم صغره من الضعف صحبته الرحمة وإن ادعى القوة المجعولة ونسي ضعفه الذي كان له في صغره أضاعه اللّه في كبره برد الضعف إليه، وتأمل الصغير كيف يقبل ويضم إلى الصدر مع استقدار بدنه وثيابه ويشتهي والده حياته والكبير يستقدر ولا يقبل ويتمنى أهله موته. وقال: في قوله تعالى: إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف: 30] والتمني من العمل فمن تمنى أنه لو كان له مال تصدّق به أعطاه اللّه ثواب من أنفق ذلك المال من غير كد ولا نصب. وقال: لو لا عرف طيب أنفاس الأحبة ما فاح المسك لمستنشق أما عرف مقدار طيب والأنفاس وما تعطيه من المعارف الإلهية إلا البهائم ألا تراها تشم بعضها بعضا عند اللقاء ولا تمر بشيء إلا وتميل برؤيتها إليه تشمه وقال: إذا رأيتم العارف يثبت عند واردات الحق ولا يصعق ولا يفنى ولا يندك جبل هيكله فاعلموا أنه محبوب ولكن له علامة وهو أنه إذا كان حاله لا يراه خلق إلا صعق إلا أن يكون مثله فما ثبت لتجلي الحق تعالى وأما من يغشى عليه في حاله ويتغير عن هيئته التي كان عليه ويصعق ويصيح ويضطرب ويفنى فاعلموا أنه غير محبوب وما عنده من الحق شمسه.

(قلت) : المراد بالواردات الأحوال الباطنة لا المحسوسة لقوله تعالى: وخَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً [الأعراف: 143] مع أنه محبوب بإجماع فافهم. وقال: في قوله تعالى: ومِنْ آنٰاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأَطْرٰافَ اَلنَّهٰارِ [طه:130] اعلم أن المراد بأطراف النهار الصباح والمساء فالمساء ابتداء الليل والصباح انتهاء الليل والنهار هو ما بين الابتداء والانتهاء كما أن الليل كذلك ما بين الانتهاء والابتداء وقد أمرنا الحق تعالى بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار وما تعرض لذكر النهار في هذا الحكم لأنه قال: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلاً ( 7 ) [المزمل: 7] أي فراغا فالنهار لك والليل وأطراف النهار لي، ومن كان مشتغلا باللّه في الليل وأطراف النهار كان اللّه له في النهار لأنه استعداد للتفرغ للحق في الليل والأطراف. وقال: الشريعة لب العقل والحقيقة لب الشريعة فهي كالدهن في اللب الذي يحفظه القشر فاللب الذي يحفظ الدهن والقشر يحفظ اللب كذلك العقل يحفظ الشريعة والشريعة تحفظ الحقيقة ومن ادعى شرعا بغير عقل لم تصح دعواه كما أن من ادعى حقيقة بغير شرع لا يقبل وقال: جمال صورتك في الآخرة يكون على قدر خواطرك المحمودة في الشريعة هنا وقبح صورتك في الآخرة يكون على قدر قبح خواطرك المذمومة فاجهد في نفسك قبل أن لا ينفعك الندم. وقال: مرتبتك عند اللّه في التعظيم على قدر تعظيمه في قلبك وحيائك منه فإن اعتنيت به اعتنى بك وإن استحييت منه استحيا منك وإن لم تبال به لم يبال بك فميزانك بيدك، فإن شئت أرجح وإن شئت أخسر لا تلم إلا نفسك. وقال: العلم يقتضي العمل فمن قال: إن العلم يوجد بغير عمل فدعواه باطلة ومنزع ذلك دقيق جدا من أجل مخالفة المتعدين حدود اللّه من المؤمنين، فربما يقال: لو كانوا عالمين ما خالفوا، وهم عالمون بلا شك بأن اللّه تعالى حد لهم حدودا معينة حرم اللّه عليهم تعديها فعلمهم بذلك عمل بالعلم ضرورة وما هم عالمون بمؤاخذة اللّه تعالى من عصاه على التعيين، فما عصى إلا من ليس بعالم بالمؤاخذة فعلم أنه ما خالف عالم علمه قط بل هو تحت تسخير علمه فتأمل فإنه دقيق.

وقال: الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة الإلهية أبدا لأنها داخلة في حده وحقيقته وإنما جاء الالتباس في تسميتهم صيغة الأمر أمرا وليست بأمر لمن تأمل، فإن الصيغة مرادة بلا شك وهذه الصيغ هي التي وردت على ألسنة المبلغين وعصيت فما عصى أحد قط أمر اللّه إلا بهذا الاعتبار.

(قال) : بهذا علمنا أن النهي لآدم عن قرب الشجرة إنما كان بصيغة لغة الملك الذي أوحى إليه به فما وقع لعصيان إلا لصيغة المترجم عن أمر اللّه بلغة نفسه لا لحقيقة أمر اللّه فتأمل ذلك فإنه دقيق. وقال: أخسر الأخسرين شاهد يشهد على نفسه كما أن أسعد السعداء من شهد لنفسه فهو في الطرفين مقدم على مرتبة من شهد عليه غيره وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين فأشقوا نفوسهم بشهادتهم ولو أنهم علموا الأمر على ما هو عليه لذبوا عن نفوسهم وشهدوا عليها بالفعل لا بالحكم الذي هو المعصية فإن الجوارح لا تعرف إذا شهدت إلا الفعل خاصة وأما الحكم فلا، فلو شهدوا بالفعل فقط لكان أقل فضيحة وأستر ممن شهد على نفسه بصريح المخالفة والكفر فافهم. وقال: في حديث «إن أصحاب الجنة محبوسون» إنما حبسوا عن الجنة لخروجهم بالمال عن أصلهم الذي هو الفقر مع أن العبد كلما أنفق أخلف اللّه عليه أضعاف ما أنفق فزاده حجابا ولو أنهم وقفوا مع صفة فقرهم ولم يطلبوا الغذاء بمضاعفة الحق لهم ما أنفقوه ما كان الحق تعالى يعطيهم إلا ما فيه قوامهم لا غير. وقال: لما انتقل العلم من الكون إليه بظاهر قوله: حَتّٰى نَعْلَمَ [محمد: 31] سكت العارف على ما قيل وما تكلم وتأول عالم النظر هذا القول حذرا مما يتوهم ومرض قلب المتشكك وتألم وسربه العالم باللّه ولكنه تكتم فقال: مثل قول الظاهري اللّه أعلم فالإلهي علم والمحدث سلم فاحمد اللّه الذي علمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيما وأطال في ذلك ثم قال: فعلم أن العلم المستفاد للعليم يعم الحديث على هذا والقديم وإن عاندت فافهم قوله: ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ [محمد: 31] وبما حكم على نفسه فاحكم كنظائره من آيات الصفات، وإن سئلت عن كيف ذلك فقل اللّه أعلم. وقال: الذي يظهر لي أن الحق تعالى إنما قال مثل ذلك امتحانا لعباده ليتبين لهم مقامهم والإيمان هل يغلب إيمانهم على عقلهم فيؤمنوا بذلك من غير توقف أم يغلب حكم عقلهم على إيمانهم فيخسروا واللّه أعلم. وقال: للدنيا حكم ليس لأختها والأم لا تنكح على بنتها ومن اتبع المتشابه فقد ضل وزاغ وما على الرسول إلا البلاغ واللّه أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!