وصايا الشيخ الأكبر
وهو الباب 560 الذي ختم به الشيخ محي الدين موسوعة الفتوحات المكية بمجموعة وصايا جامعة
وهو يمثل السفرين السادس والثلاثين والسابع والثلاثين وفق مخطوطة قونية
(وصية)
![]() |
![]() |
(وصية)
(وصية)
كن غيور الله تعالى واحذر من الغيرة الطبيعية الحيوانية أن تستفزك وتلبس عليك نفسك بها وأنا أعطيك في ذلك ميزانا وذلك أن الذي يغار لله دينا إنما يغار لانتهاك محارم الله على نفسه وعلى غيره فكما يغار على أمه إن يزني بها أحد كذلك يغار على أم غيره إن يزني بها هو وكذلك البنت والأخت والزوجة والجارية فإن كل امرأة يزني بها قد تكون إما لشخص وبنتا لآخر وأختا لآخر وزوجة لآخر وجارية لآخر وكل واحد منهم لا يريد أن يزني أحد بأمه ولا بأخته ولا بابنته ولا بزوجته ولا بجاريته كما لا يريد هذا الغير أن الذي يزعم أنه يغار لله دينا فإن فعل شيئا من هذا وزنى وادعى الغيرة في الدين أو المروءة فاعلم أنه كاذب في دعواه فإنه ليس بذي دين ولا مروءة من يكره لنفسه شيئا ولا يكرهه لغيره فليس بذي غيرة إيمانية
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في سعد والحديث مشهور إن سعدا لغيور وإني لأغير من سعد وإن الله أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش
ولقد مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما مست يده يد امرأة لا يحل له لمسها وهو رسول الله وما كانت تبايعه النساء إلا بالقول
وقوله للواحدة قوله للجميع فاجعل ميزانك في الغيرة للدين هذا فإن وفيت به فاعلم إنك غيور للدين والمروءة وإن وجدت خلاف ذلك فتلك غيرة طبيعية حيوانية ليس لله ولا للمروءة فيها دخول حتى تغار منك كما تغار عليك وقد ثبت ما من أحد أغير من الله إن يزني عبده أو تزني أمته وإذا أصابتك مصيبة فقل إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فلا تنزل ما تجد منها إلا بالله ثم قل اللهم اجبرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها فإنه
ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن العبد إذا قال هذا أخلف الله له خيرا منها
ولقد مات أبو سلمة فقالت امرأته هذا القول وهي تقول ومن خير من أبي سلمة فأخلفها الله خيرا من أبي سلمة وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فتزوج بها وصارت من أمهات المؤمنين ولم يكن أصل هذه العناية الإلهية بها إلا هذا القول عند ما أصيبت بموت زوجها أبي سلمة وإذا مات لك ميت فاجهد إن يصلي عليه مائة مسلم أو أربعون فإنهم شفعاء له عند الله
ثبت في ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما من مسلم يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه
وحديث آخر قال
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما من رجل مسلم يموت يقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه
ومعنى لا يشركون بالله شيئا أي لا يجعلون مَعَ الله إِلهاً آخَرَ وروينا عن بعض العرب أنه مر بجنازة يصلي عليها أمة كثيرة من المسلمين فنزل عن دابته وصلى عليها فقيل له في ذلك فقال إنها من أهل الجنة فقيل ومن لك
بذلك فقال وأي كريم يأتي إليه جماعة يشفعون عنده في شخص فيرد شفاعتهم لا والله لا يردها أبدا فكيف الله الذي هو أكرم الكرماء وأرحم الرحماء فما دعاهم ليشفعوا فيه إلا ويقبل شفاعتهم إذا لكريم يقبلها وإن لم يدعهم إلى الشفاعة فيه فكيف وقد دعاهم اعلم أن الله أمرك أن تتقي النار فقال واتَّقُوا النَّارَ أي اجعل بينك وبينها وقاية حتى لا يصل إليك أذاها يوم القيامة فإنه
ثبت أنه ما من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمرة
ولقد وشي ببعض شيوخنا بالمغرب عند السلطان بأمر فيه حتفه وكان أهل البلد قد أجمعوا على ما وشي به وما قيل فيه مما يؤدي إلى هلاكه فأمر السلطان نائبه أن يجمع الناس ويحضر هذا الرجل فإن أجمعوا عليه على ما قيل فيه يأمر الوالي أن يقتله وإن قيل غير ذلك خلى سبيله فجمع الناس لميقات يوم معلوم وعرفوا ما جمعوا له وكلهم على لسان واحد إنه
فاسق يجب قتله بلا مخالف فلما جيء بالرجل مر في طريقه بخباز فاقترض منه نصف رغيف فتصدق به من ساعته فلما وصل إلى المحفل وكان الوالي من أكبر أعدائه أقيم في الناس وقيل لهم ما عندكم في هذا الرجل وما تقولون فيه وسموه فما بقي أحد من الناس إلا قال هو عدل رضي عن آخرهم فتعجب الوالي من قولهم خلاف ما كان يعلمه منهم وما كانوا يقولون فيه قبل حضوره فعلم إن الأمر إلهي والشيخ يضحك فقال له الوالي مم تضحك فقال من صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم تعجبا به وإيمانا والله ما من أحد من هذه الجماعة إلا ويعتقد في خلاف ما شهد به وأنت كذلك وكلكم علي لا لي فتذكرت النار ورأيتها أقوى غضبا منكم وتذكرت نصف رغيف ورأيته أكبر من نصف تمرة وسمعت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول اتقوا النار ولو بشق تمرة
فاتقيت غضبكم بنصف رغيف فدفعت الأقل من النار بالأكثر من شق التمرة وعليك يا أخي بالصدقة فإنها تطفئ غضب الرب ولها ظل يوم القيامة يقي من حر الشمس في ذلك الموقف وإن الرجل يكون يوم القيامة في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وما من يوم يصبح فيه العبد إلا وملكان ينزلان كذا جاء وثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وهو قوله تعالى وما أَنْفَقْتُمْ من شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا
يدعو له بالإنفاق مثل الأول المنفق لا يدعو عليه فإنهم لا يدعون إلا بخير فهم الذين يقولون رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْماً وهم الذين قال الله فيهم إنهم يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ في الْأَرْضِ فما أراد الملك بالتلف في دعائه إلا الإنفاق وهذا خلاف ما يتوهمه الناس في تأويل هذا الخبر وليس إلا ما قلناه
فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول في الرجل الذي آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فيتصدق به يمينا وشمالا
فجعل صدقته هلاك المال وهذا معنى تلفه والإنفاق ليس إلا هلاك المال فإنه من نفقت الدابة إذا هلكت فالمال المنفوق هو الهالك لأنه هلك عن يد صاحبه ولهذا دعا للمنفق بالخلف وهو العوض لما مر منه مع ادخار الله له ذلك عنده إلى يوم القيامة إذا قصد به القربة واقترنت بعطائه النية الصالحة
![]() |
![]() |





