Mekkeli Fetihler: futuhat makkiyah

Gözat Başlıkları Bölüm I: Bilgi Üzerine (Maarif) Bölüm II: Etkileşimler (Muamalat) Bölüm IV: Meskenler (Manazil) Girişler Bölüm V: Tartışmalar (Munazalat) Bölüm III: Eyaletler (Ahwal) Bölüm VI: İstasyonlar (Kutup Makamı) Birinci Bölüm İkinci Bölüm Üçüncü Bölüm Dördüncü Bölüm

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى أسرار الطهارة

أوجب عليه أن يقولها وحكم عليه أن يقولها ولو لا هذا الحكم ما قالها على جهة القربة إلى الله وربما لو قالها قالها معلما أو معلما

[الاسم الجامع المنعوت بجميع الأسماء]

دخلت على شيخنا أبي العباس العريبي من أهل العليا وكان مستهترا بذكر الاسم الله لا يزيد عليه شيئا فقلت له يا سيدي لم لا تقول لا إله إلا الله فقال لي يا ولدي الأنفاس بيد الله ما هي بيدي فأخاف أن يقبض الله روحي عند ما قول لا له فأقبض في وحشة النفي وسألت شيخنا آخر عن ذلك فقال لي ما رأت عيني ولا سمعت أذني من يقول أنا الله غير الله فلم أجد من أنفى فأقول كما سمعته يقول الله الله وإنما تعبدنا بهذا الاسم في التوحيد لأنه الاسم الجامع المنعوت بجميع الأسماء الإلهية وما نقل إنه وقعت من أحد من المعبودين فيه مشاركة بخلاف غيره من الأسماء مثل إله وغيره وبهذا القدر من القول إذا قيل لقول الشارع يثبت الايمان وإنما قال الشارع حتى يقولوا لا إله إلا الله ولم يقل محمد رسول الله لتضمن هذه الشهادة بالتوحيد الشهادة بالرسالة فإن القائل لا إله إلا الله لا يكون مؤمنا إلا إذا قالها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قالها لقوله فهو عين إثبات رسالته فلما تضمنت هذه الكلمة الخاصة الشهادة بالرسالة لهذا لم يقل قولوا محمد رسول الله وقال في غير القول وهو الايمان والايمان معنى من المعاني ما هو مما يدرك بالحس فقرن بالإيمان بالله الايمان به وبما جاء به يعني من عنده مما له أن يشرعه من غير نقل عن الله‏

فقال في حديث ابن عمر لما ذكر الايمان بالله وبالصلاة والزكاة والحج والصوم وكل هذا جاء من عند الله قال في حديث ابن عمر أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به‏

من أجل المنافق المقلد فإنه يقولها من غير إيمان بقلبه ولا اعتقاد والجاحد المنافق يقولها لا لقوله مع علمه بأنه رسول الله من كتابه لا من دليله العقلي‏

[التوحيد العقلي والتوحيد الشرعي‏]

واعلم أن التلفظ بشهادة الرسالة المقرونة بشهادة التوحيد فيه سر إلهي عرفنا به الحق سبحانه وهو أن الإله الواحد الذي جاء بوصفه ونعته الشارع ما هو التوحيد الإلهي الذي أدركه العقل فإن ذلك لا يقبل اقتران الشهادة بالرسالة مع الشهادة بالتوحيد فهذا التوحيد من حيث ما يعلمه الشارع ما هو التوحيد من حيث ما أثبته النظر العقلي وإذا كان الإله الذي دعانا الشرع إلى عبادته وتوحيده إنما هو في رتبة كونه إلها لا في ذاته صح أن تنعته بما نعته به من النزول والاستواء والمعية والتردد والتدبر وما أشبه ذلك من الصفات التي لا يقبلها توحيد العقل المحض المجرد عن الشرع فهذا المعبود ينبغي أن تقرن شهادة الرسول برسالته بشهادة توحيد مرسله ولهذا يضاف إليه فيقال أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله كل يوم ثلاثين مرة في أذان الخمس الصلوات وفي الإقامة والمتلفظون بهذه الشهادة الرسالية التفصيل فيهم كالتفصيل في شهادة التوحيد فلنمش بها على ذلك الأسلوب من المراتب‏

[السنة والبدعة]

وفي الايمان بالله وبرسوله الايمان بكل ما جاء به من عند الله ومن عنده مما سنه وشرعه ويدخل فيما سنه الايمان بسنة من سن سنة حسنة فاستمر الشرع وحدوث العبادة المرغب فيها مما لا ينسخ حكما ثابتا إلى يوم القيامة وهذا الحكم خاص بهذه الأمة وأعني بالحكم تسميتها سنة تشريفا لهذه الأمة وكانت في حق غيرهم من الأمم السالفة تسمى رهبانية قال تعالى ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها فمن قال بدعة في هذه الأمة مما سماها الشارع سنة فما أصاب السنة إلا أن يكون ما بلغه ذلك والاتباع أولى من الابتداع والفرق بين الاتباع والابتداع معقول ولهذا جنح الشارع إلى تسميتها سنة وما سماها بدعة لأن الابتداع إظهار أمر على غير مثال هذا أصله ولهذا قال الحق تعالى عن نفسه بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أي موجدها على غير مثال سبق فلو شرع الإنسان اليوم أمرا لا أصل له في الشرع لكان ذلك إبداعا ولم يكن يسوغ لنا الأخذ به فعدل الشارع عن لفظ الابتداع إلى لفظ السنة إذ كانت السنة مشروعة وقد شرع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم الاقتداء يهدي الأنبياء عليهم السلام والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى الجزء الثلاثون‏

(الباب الثامن والستون في أسرار الطهارة)

[أبواب الوضوء]

(بسم الله الرحمن الرحيم)

تبصر ترى سر الطهارة واضحا *** يسيرا على أهل التيقظ والذكاء

فكم طاهر لم يتصف بطهارة *** إذا جانب البحر اللدني واحتمى‏

ولو غاص في البحر الأجاج حياته *** ولم يفن عن بحر الحقيقة ما زكا

إذا استجمر الإنسان وترا فقد مشى *** على السنة المثلى حليفا لمن مضى‏

فإن شفع استجماره عاد خاسرا *** وفارق من يهواه من باطن الردا

وإن غسل الكفين وترا ولم يزل *** بخيلا بما يهوى على فطرة الأولى‏

فما غسلت كف خضيب ومعصم *** إذا لم يلح سيف التوكل منتضى‏

إذا صح غسل الوجه صح حياؤه *** وصح له رفع الستور متى يشأ

وإن لم يمس الماء لمة رأسه *** ولا وقفت كفاه في ساحة القفا

فما انفك من رق العبودية التي *** تسخرها الأغيار في منزل التوي‏

وإن لم ير الكرسي في غسل رجله *** تناقص معنى الطهر للحين وانتفى‏

إذا مضمض الإنسان فاه ولم يكن *** بريئا من الدعوى وفيا بما أدعي‏

ومستنشق ما شم ريح اتصاله *** ومستنثر أودى به كبره الردي‏

صماخاه ما تنفك تطهر إن صغا *** إلى أحسن الأقوال واكتف واقتفى‏

وإن لبس الجرموق وهو مسافر *** على طهره يمسح وفي سره خفا

ثلاثة أيام وإن كان حاضرا *** بمنزله فالمسح يوم بلا قضا

وفي المسح سر لا أبوح بذكره *** ولو قطعت مني المفاصل والكلي‏

ويتلوه مسح في الجبائر بين *** لكل مريد لم يرد ظاهر الدنا

وإن عدم الماء القراح فإنه *** تيممه يكفيه من طيب الثرى‏

ويوتره وجها وكفا فإن أبي *** وصيره شفعا فنعم الذي أتى‏

إذا أجنب الإنسان علم طهوره *** كما عمت اللذات أجزاءه العلى‏

أ لم تر أن الله نبه خلقه *** بإخراجه بين الترائب والمطا

فذاك الذي أجنى عليه طهوره *** ولو غاب بالذات النزيهة ما جنا

فإن نسي الإنسان ركنا فإنه *** يعيد ويقضي ما تضمن واحتوى‏

وإن لم يكن ركنا وعطل سنة *** فلم يأنس الزلفى وما بلغ المنى‏

وذلك في كل العبادات شائع *** وليس جهول بالأمور كمن دري‏

فهذا طهور العارفين فإن تكن *** من أحزابهم تحظى بتقريب مصطفى‏

إذا كان هذا ظاهر الأمر فالذي *** توارى عن الأبصار أعظم منتشى‏

[الطهارة المعنوية والحسية]

اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أنه لما كانت الطهارة النظافة علمنا أنها صفة تنزيه وهي معنوية وحسية طهارة قلب وطهارة أعضاء معينة فالمعنوية طهارة النفس من سفساف الأخلاق ومذمومها وطهارة العقل من دنس الأفكار والشبه وطهارة السر من النظر إلى الأغيار وطهارة الأعضاء فاعلم إن لكل عضو طهارة معنوية ذكرناها في كتاب التنزلات الموصلية في أبواب الطهارة منه وطهارة الحس من الأمور المستقذرة التي تستخبثها النفوس طبعا وعادة وهاتان الطهارتان مشروعتان‏

[الطهارة الحسية: أنواعها، أسماؤها، أدواتها]

فالطهارة الحسية الظاهرة نوعان النوع الواحد قد ذكرناه وهو النظافة والنوع الآخر أفعال معينة مخصوصة في محال معينة مخصوصة لأحوال موجبة مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها شرعا ولهذه الطهارة المذكورة ثلاثة أسماء شرعا وضوء وغسل وتيمم وتكون هذه الطهارة بثلاثة أشياء اثنان مجمع عليهما وواحد مختلف فيه فالمجمع عليهما الماء الطلق والتراب سواء فارق الأرض أ ولم يفارقها والواحد المختلف فيه في الوضوء خاصة نبيذ التمر

وما فارق الأرض مما ينطلق عليه اسم الأرض إذا كان في الأرض فإنه مختلف فيه ما عدا التراب كما ذكرنا وهذه الطهارة قد تكون عبادة مستقلة كما قال صلى الله عليه وسلم فيها نُورٌ عَلى‏ نُورٍ وقد تكون شرطا في صحة عبادة مشروعة مخصوصة لا تصح تلك العبادة شرعا إلا بوجودها أو الأفضلية فالأول كالوضوء على الوضوء نور على نور والثاني لرفع المانع عن فعل العبادة التي لا تصح لا بهذه الطهارة واستباحة فعلها وهو الأصل في تشريعها ومما تقع به هذه الطهارة ما يكون رافعا للمانع مبيحا للفعل معا وهو الماء بلا خلاف ونبيذ التمر في الوضوء بخلاف ومنه ما تقع به الإباحة للفعل المعين في الوقت المفروض وقوعه ولا يرفع المانع بخلاف وهو التراب وعندي إنه يرفع المانع في الوقت ولا بد وكون الشارع حكم بالطهارة إذا وجد الماء حكم آخر منه كما عاد حكم المانع بعد ما كان ارتفع وما عدا التراب مما فارق الأرض بخلاف قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ بنصف اللام وخفضه إلى الكعبين وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغائِطِ (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ ولكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏

[الرجز والرجس وإبدال السين بالزاي‏]

وقال تعالى ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ به ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وزاى الرجز هنا بدل من السين على قراءة من قرأ الزراط بالزاي وهي لغة قرأ ابن كثير بها أعني بالسين وحمزة بالزاي وباقي القراء بالصاد سمعت شيخا وكنت أقرأ عليه القرآن يقال له محمد بن خلف بن صاف اللخمي بمسجده المعروف به بقوس الحنية بإشبيلية من بلاد الأندلس سنة ثمان وسبعين وخمسمائة فقرأت السراط بالسين لابن كثير فقال لي سأل بعض ناقلي اللغة بعض الأعراب كيف تقولون صقر أو سقر فقال له ما أدري ما تقول ولكنني أظنك تسأل عن الزفر فقال فزادني لغة ثالثة ما كنت أعرفها قال الفراء الرجس القذر ولا شك أن الماء يزيل القذر والطهور الشرعي يذهب قدر الشيطان قال تعالى وثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال إمرؤ القيس‏

وإن كنت قد ساءتك مني خليقة *** فسلي ثيابي من ثيابك تنسل‏

فكنى بالثوب عن الود والوصلة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر عن ربه سبحانه ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن‏

ومن أسمائه سبحانه الْمُؤْمِنُ فمن تخلق به فقد طهر قلبه لأن القلب محل الايمان وكانت السعة الإلهية والتجلي الرباني‏

[الطهارة عامة والطهارة خاصة]

(و الطهارة عامة) وهي الغسل للفناء الذي عم ذاته لوجود اللذة بالكون عند الجماع‏

أريها السهى وتريني القمر

(و خاصة) وهي الوضوء المخصص بعض الأعضاء بالاغتسال والمسح وهو تنبيه على مقامات معلومة وتجليات شريفة منها القوة والكلام والأنفاس والصدق والتواضع والحياء والسماع والثبات فهذه أعضاء الوضوء وهي مقامات شريفة لها نتائج في القرب إلى الله‏

[أداتا الطهارة الروحية]

وهذه الطاهرة الروحانية بأحد أمرين إما سر الحياة أو بأصل النش‏ء الطبيعي العنصري فالوضوء بسر الحياة لمشاهدة الحي القيوم أو بأصل النش‏ء في الأب الذي هو أصل الأبناء وهو الأرض والتراب وليس إلا النظر والتفكر في ذاتك لتعرف من أوجدك فإنه أحالك عليك في قوله تعالى وفي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ وفي‏

قول رسوله صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه عرف ربه‏

أحالك عليك بالتفصيل وأخفاك عنك بالإجمال لتنظر وتستدل فقال في التفصيل ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ من سُلالَةٍ من طِينٍ وهو آدم عليه السلام هنا ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ وهي نشأة الأبناء في الأرحام مساقط النطف ومواقع النجوم فكنى عن ذلك بالقرار المكين ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وقد تم البدن على التفصيل فإن اللحم يتضمن العروق والأعصاب‏

وفي كل طور له آية *** تدل على إنني مفتقر

ثم أجمل خلق النفس الناطقة الذي هو بها إنسان في هذه الآية فقال ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ

[مرتبة الجسد ومرتبة الروح‏]

عرفك بذلك أن المزاج لا أثر له في لطيفتك وإن لم يكن نصا لكن هو ظاهر وأبين منه قوله فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ وهو ما ذكره في التفصيل من التقلب في الأطوار فقال في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ فقرنه بالمشيئة فالظاهر أنه لو اقتضى المزاج روحا خاصا معينا ما قال‏

في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ وأي حرف نكرة مثل حرف ما فإنه حرف يقع على كل شي‏ء فأبان لك أن المزاج لا يطلب صورة بعينها ولكن بعد حصولها تحتاج إلى هذا المزاج وترجع به فإنه بما فيه من القوي التي لا تدبره إلا بها فإنه بقواه لها كالآلات لصانع النجارة أو البناء مثلا إذا هيئت وأتقنت وفرغ منها تطلب بذاتها وحالها صانعا يعمل بها ما صنعت له وما تعين زيدا ولا عمرا ولا خالدا ولا واحدا بعينه فإذا جاء من جاء من أهل الصنعة مكنته الآلة من نفسها تمكينا ذاتيا لا تتصف بالاختيار فيه فجعل يعمل بها صنعته بصرف كل آلة لما هيئت له فمنها مكملة وهي المخلقة يعني التامة الخلقة ومنها غير مكملة وهي غير المخلقة فينقص العامل من العمل على قدر ما نقص من جودة الآلة ذلك ليعلم أن الكمال الذاتي لله سبحانه فبين لك الحق مرتبة جسدك وروحك لتنظر وتفتكر فتعتبر أن الله ما خلقك سدى وإن طال المدى‏

[القصد والنية في الطهارة]

وأما القصد الذي هو النية شرط في صحة هذا النظر بخلاف قال تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي اقصدوا التراب الذي ما فيه ما يمنع من استعماله في هذه العبادة من نجاسة ولم يقل ذلك في طهارة الماء فإنه أحال على الماء المطلق لا المضاف فإن الماء المضاف مقيد بما أضيف إليه عند العرب فإذا قلت للعربي أعطني ما جاء إليك بالماء الذي هو غير مضاف ما يفهم العرب منه غير ذلك وما أرسل رسول ولا أنزل كتاب إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ‏

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين‏

يقول تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فلهذا لم يقل بالقصد في الماء لأنه سر الحياة فيعطي الحياة بذاته سواء قصد أم لم يقصد بخلاف التراب فإنه إن لم يقصد الصعيد الطيب فليس بنافع لأنه جسد كثيف لا يسرى فروحه القصد فإن القصد معنى روحاني فافتقر المتيمم للقصد الخاص في التراب أو الأرض بخلاف أيضا ولم يفتقر المتوضئ بالماء بخلاف فقال اغسلوا ولم يقل تيمموا ماء طيبا فإن قالوا إنما الأعمال بالنيات وهي القصد والوضوء عمل قلنا سلمنا ما تقول ونحن نقول به ولكن النية هنا متعلقها العمل لا الماء والماء ما هو العمل والقصد هنالك للصعيد فيفتقر الوضوء بهذا الحديث للنية من حيث ما هو عمل لا من حيث ما هو عمل بماء فالماء هنا تابع للعمل والعمل هو المقصود بالنية وهنالك القصد للصعيد الطيب والعمل به تبع يحتاج إلى نية أخرى عند الشروع في الفعل كما يفتقر العمل بالماء في الوضوء والغسل وجميع الأعمال المشروعة إلى الإخلاص المأمور به وهو النية بخلاف قال تعالى وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وفي هذه الآية نظر وهذه مسألة ما حققها الفقهاء على الطريقة التي سلكنا فيها وفي تحقيقها فافهم ولم يقل في الماء تيمموا الماء فيفتقر إلى روح من النية والماء في نفسه روح فإنه يعطي الحياة من ذاته قال تعالى وجَعَلْنا من الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ فإن كل شي‏ء يسبح بحمد الله ولا يسبح إلا حي فالماء أصل الحياة في الأشياء ولهذا وقع الخلاف بين علماء الشريعة في النية في الوضوء هل هي شرط في صحته أو ليست بشرط في صحته والسر ما ذكرناه فإن قيل إن الإمام الذي لا يرى النية في الوضوء يراها في غسل الجنابة وكلا العبادتين بالماء وهو سر الحياة فيهما قلنا لما كانت الجنابة ماء وقد اعتبر الشرع الطهارة منها لدنس حكمي فيها لامتزاج ماء الجنابة بما في الأخلاط وكون الجنابة ماء مستحيلا من دم فشاركت الماء في سر الحياة فتمانعا فلم يقو الماء وحده على إزالة حكم الجنابة لما ذكرنا فافتقر إلى روح مؤيد له عند الاغتسال فاحتاج إلى مساعدة النية فاجتمع حكم النية وهي روح معنوي وحكم الماء فازالا بالغسل حكم الجنابة بلا شك كأبي حنيفة ومن قال بقوله في هذه المسألة ومن راعى كون ماء الجنابة لا يقوى قوة الماء المطلق لأنه ماء استحال من دم كماء الجنابة إلى ممازجته بالأخلاط ومفارقته إياه بالكثافة واللونية قال قد ضعف ماء الجنابة عن مقاومة الماء المطلق فلم يفتقر عنده إلى نية كالحسن بن حي والمخالف لهما من العلماء ما تفطنوا لما رأياه هذان الإمامان ومن ذهب مذهبهما فاجعل بالك لما بينته لك ورجح ما شئت‏

(وصل) [أقسام المياه وأقسام العلوم‏]

وبعد أن تحققت هذا فاعلم إن الماء ماءان ماء ملطف مقطر في غاية الصفاء والتخليص وهو ماء الغيث فإنه ماء مستحيل من أبخرة كثيفة قد أزال التقطير ما كان تعلق به من الكثافة وذلك هو العلم الشرعي اللدني فإنه عن رياضة ومجاهدة وتخليص فطهر به ذاتك لمناجاة ربك والماء الآخر ماء لم يبلغ في للطافة هذا المبلغ وهو ماء العيون والأنهار فإنه ينبع من الأحجار ممتزجا بحسب البقعة التي ينبع بها ويجري عليها فيختلف طعمه فمنه عَذْبٌ فُراتٌ ومنه مِلْحٌ أُجاجٌ ومنه مر زعاق‏

[ماء الغيث والعلم اللدني‏]

وماء الغيث على حالة واحدة

ماء نمير خالص سلسال سائغ شرابه وهذه علوم الأفكار الصحيحة والعقول فإن علوم العقل المستفادة من الفكر يشوبها التغير لأنها بحسب مزاج المتفكر من العقلاء لأنه لا ينظر إلا في مواد محسوسة كونية في الخيال وعلى مثل هذا تقوم براهينها فتختلف مقالاتهم في الشي‏ء الواحد أو تختلف مقالة الناظر الواحد في الشي‏ء الواحد في أزمان مختلفة لاختلاف الأمزجة والتخليط والأمشاج الذي في نشأتهم فاختلفت أقاويلهم في الشي‏ء الواحد وفي الأصول التي يبنون عليها فروعهم والعلم اللدني الإلهي المشروع ذو طعم واحد وإن اختلفت مطاعمه فما اختلفت في الطيب فطيب وأطيب فهو خالص ما شابه كدر لأنه تخلص من حكم المزاج الطبيعي وتأثير المنابيع فيه فكانت الأنبياء والأولياء وكل مخبر عن الله على قول واحد في الله إن لم يزد فلا ينقص ولا تخالف يصدق بعضهم بعضا كما لم يختلف ماء السماء حال النزول فليكن اعتمادك وطهورك في قلبك بمثل هذا العلم وليس إلا العلم بالشرع المشبه بماء الغيث وإن لم تفعل فما نصحت نفسك وتكون في ذاتك وطهورك بحسب ما تكون البقعة التي نبع منها ذلك الماء فإن فرقت بين عذبه وملحه فاعلم إنك سليم الحاسة وهذه مسألة لم أجد أحدا نبه عليها فإن آكل السكر بالحلاوة في السكر كذلك وفي مرارة الصبر ليس بصحيح ولا يقتضيه الدليل العقلي وقد نبهناك إن تنبهت فانظر ثم يا وليي استدرك استعمال علوم الشريعة في ذاتك وعلوم الأولياء والعقلاء الذين أخذوها عن الله بالرياضات والخلوات والمجاهدات والاعتزال عن فضول الجوارح وخواطر النفوس وإن لم تفرق بين هذه المياه فاعلم إنك سيئ المزاج قد غلب عليك خلط من أخلاطك فما لنا فيك من حيلة إلا أن يتدارك الله برحمته نفسك‏

[سر غسل اليدين من الوجهة الروحية]

فإذا استعملت من ماء هذه العلوم في طهارتك ما دللتك عليه وهو العلم المشروع طهرت صفاتك وروحانيتك به كما طهرت أعضاءك بالماء ونظفتها فأول طهارتك غسل يديك قبل إدخالهما في الإناء عند قيامك من نوم الليل بلا خلاف ووجوب غسلهما من نوم النهار بخلاف واليد محل القوة والتصريف فطهورهما بعلم لا حول في اليسرى ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في اليمنى واليدان محل القبض والإمساك بخلا وشحا فطهر هما بالبسط والإنفاق كرما وجودا وسخاء ونوم الليل غفلتك عن علم عالم غيبك ونوم النهار غفلتك عن علم عالم شهادتك فهذا عين تخلقك وتحققك بعالم الغيب والشهادة من الأسماء الحسنى المضافة

[سر الاستنجاء الروحاني‏]

ثم بعد هذا الاستنجاء والاستجمار والجمع بينهما أفضل من الإفراد فهما طهارتان نور في نور مرغب فيهما سنة وقرآنا فإن استنجيت وهو استعمال الماء في طهارة السوأتين لما قام بهما من الأذى وهما محل الستر والصوم كما هما محل إخراج الخبث والأذى القائم بباطنك وهو ما تعلق بباطنك من الأفكار الرديئة والشبه المضلة كما ورد في الصحيح أن الشيطان يأتي إلى الإنسان في قلبه فيقول له من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول فمن خلق الله فطهارة هذا القلب من هذا الأذى ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والانتهاء وهما عورتان أي مائلتان إلى ما يوسوس به نفسه من الأمور القادحة في الدين أصلا وفرعا فإن الدبر هو الأصل في الأذى فإنه ما وجد إلا لهذا والفرجان الآخران في الرجل والمرأة فرعان عن هذا الأصل ففيهما وجه إلى الخير ووجه إلى الشر وهو النكاح والسفاح أ لا ترى النجاسة إذا وردت على الماء القليل أثرت فيه فلم يستعمل وإذا ورد الماء على النجاسة أذهب حكمها كذلك الشبه إذا وردت على القلوب الضعيفة الايمان الضعيفة الرأي أثرت فيها وإذا وردت على البحر استهلكت فيه كذلك القلوب القوية المؤيدة بالعلم وروح القدس كذلك الشبه إذا جاء بها شيطان الإنس والجن إلى المتضلع من العلم الإلهي الريان منه قلب عينها وعرف كيف يرد نحاسها ذهبا وقزديرها فضة بإكسير العلم اللدني الذي عنده من عناية الرحمة الإلهية التي أتاه الله بها وعرف وجه الحق منها وآثر فيها فهذا سر الاستنجاء الروحاني‏

[سر الاستجمار الروحاني‏]

فإن استجمر هذا المتوضئ ولم يستنج فاعلم إن ذلك طهور المقلد فإن الجمرة الجماعة ويد الله مع الجماعة ولا يأكل الذئب إلى القاصية وهي التي بعدت عن الجماعة وخرجت عنها وذلك مخالفة الإجماع والاستجمار معناه جمع أحجار أقلها ثلاثة إلى ما فوقها من الأوتار لأن الوتر هو الله فلا يزال الوتر مشهودك والوتر طلب الثأر وهو هنا ما ألقاه الشيطان من الشبه في إيمانك فتجمع الأحجار للإنقاء من ذلك الخبث القائم بالعضو فالمقلد إذا وجد شبهة في نفسه هرب إلى الجماعة أهل السنة فإن يد الله كما جاء مع الجماعة ويد الله تأييده وقوته وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مفارقة الجماعة

ولهذا قام‏

الإجماع في الدلالة على الحكم المشروع مقام النص من الكتاب أو السنة المتواترة التي تفيد العلم فهذا يكون استجمارك في هذه الطهارة

[سر المضمضة الروحاني‏]

ثم مضمض بالذكر الحسن لتزيل به الذكر القبيح من النميمة والغيبة والجهر بالسوء من القول فلتكن مضمضتك بالتلاوة وذكر الله وإصلاح ذات البين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ من الْقَوْلِ وقال مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ وقال لا خَيْرَ في كَثِيرٍ من نَجْواهُمْ إِلَّا من أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وما أشبه ذلك فهذه طهارة فيك وقد فتحت لك الباب فاجر في وضوئك وغسلك وتيممك في أعضائك على هذا الأسلوب فهو الذي طلبه الحق منك وقد استوفينا الكلام على هذه الطهارة في التنزلات الموصلية فانظرها هنالك نثرا ونظما وقد رميت بك على الطريق‏

[أعضاء التكليف الثمانية من الإنسان‏]

ولتصرف هذه الطهارة بكمالها في كل مكلف منك فإن كل مكلف منك مأمور بجميع العبادات كلها من طهور وصلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وغير ذلك من الأعمال المشروعة وكل مكلف فيك تصرفه في هذه العبادات بحسب ما تطلبه حقيقته لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها وقد أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ أي بين كيف تستعمله فيها وهم ثمانية أصناف لا يزيدون لكن قد ينقصون في بعض الأشخاص وهم العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب لا زائد في الإنسان عليهم لكن قد ينقصون في بعض أشخاص هذا النوع الإنساني كالأكمه والأخرس والأصم وأصحاب العاهات فمن بقي من هؤلاء المكلفين منك فالخطاب يترتب عليه‏

[كتاب مواقع النجوم وظروف تأليفه‏]

ومن خطاب الشارع تعلم جميع ما يتعلق بكل عضو من هؤلاء الأعضاء من لتكاليف وهم كالآلة للنفس المخاطبة المكلفة بتدبير هذا البدن وأنت المسئول عنهم في إقامة العدل فيهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انقطع شسع نعله خلع الأخرى حتى يعدل بين رجليه ولا يمشي في نعل واحد وقد بيناها بكمالها وما لها من الأنوار والكرامات والمنازل والأسرار والتجليات في كتابنا المسمى مواقع النجوم ما سبقنا في علمنا في هذا الطريق إلى ترتيبه أصلا وقيدته في أحد عشر يوما في شهر رمضان بمدينة المرية سنة خمس وتسعين وخمسمائة يغني عن الأستاذ بل الأستاذ محتاج إليه فإن الأستاذين فيهم العالي والأعلى وهذا الكتاب على أعلى مقام يكون الأستاذ عليه ليس وراءه مقام في هذه الشريعة التي تعبدنا بها فمن حصل لديه فليعتمد بتوفيق الله عليه فإنه عظيم المنفعة وما جعلني أن أعرفك بمنزلته إلا أني رأيت الحق في النوم مرتين وهو يقول لي أنصح عبادي وهذا من أكبر نصيحة نصحتك بها والله الموفق وبيده الهداية وليس لنا من الأمر شي‏ء ولقد صدق الكذوب إبليس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمع به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندك فقال إبليس لتعلم يا رسول الله أن الله خلقك للهداية وما بيدك من الهداية شي‏ء وإن الله خلقني للغواية وما بيدي من الغواية شي‏ء لم يزده على ذلك وانصرف وحالت الملائكة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

(وصل) [السعادة كل السعادة في الجمع بين الظاهر والباطن‏]

وبعد أن نبهتك على ما نبهتك عليه مما تقع لك به الفائدة فاعلم أن الله خاطب الإنسان بجملته وما خص ظاهره من باطنه ولا باطنه من ظاهره فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم إلا القليل وهم أهل طريق الله فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرا وباطنا فما من حكم قرروه شرعا في ظواهرهم إلا ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرائع فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهرا وباطنا ففازوا حين خسر الأكثرون ونبغت طائفة ثالثة ضلت وأضلت فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم وما تركت من حكم الشريعة في الظواهر شيئا تسمى الباطنية وهم في ذلك على مذاهب مختلفة وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتاب المستظهري له في الرد عليهم شيئا من مذاهبهم وبين خطأهم فيها والسعادة إنما هي مع أهل الظاهر وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن وهم العلماء بالله وبأحكامه‏

[الأمر العام من العبادات وباب البيت‏]

وكان في نفسي إن أخر الله في عمري أن أضع كتابا كبيرا أقرر فيه مسائل الشرع كلها كما وردت في أماكنها الظاهرة وأقررها فإذا استوفينا المسألة المشروعة في ظاهر الحكم جعلنا إلى جانبها حكمها في باطن الإنسان فيسري حكم الشرع في الظاهر والباطن فإن أهل طريق الله وإن كان هذا غرضهم ومقصدهم ولكن ما كل أحد منهم يفتح الله له في الفهم حتى يعرف ميزان ذلك الحكم في باطنه فقصدنا في هذا الكتاب إلى الأمر العام من العبادات وهي الطهارة والصلاة

والزكاة والصيام والحج والتلفظ بلا إله إلا الله محمد رسول الله فاعتنيت بهذه الخمسة لكونها من قواعد الإسلام التي بنى الإسلام عليها وهي كالأركان للبيت فالإيمان هو عين البيت ومجموعه وباب البيت الذي يدخل منه إليه وهذا الباب له مصراعان وهما التلفظ بالشهادتين وأركان البيت أربعة وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج‏

[البيت الذي يقي من شر جهنم وسطوتها]

فجردنا العناية في إقامة هذا البيت لنسكن فيه ويقينا من زمهرير نفس جهنم وحرورها

قال النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فاذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما كان من سموء وحرور فهو من نفسها وما كان من يرد وزمهرير فهو من نفسها

فاتخذ الناس البيوت لتقيهم حر الشمس وبرد الهواء فينبغي للعاقل أن يقيم لنفسه بيتا يكنه يوم القيامة من هذين النفسين في ذلك اليوم لأن جهنم في ذلك اليوم تأتي بنفسها تسعى إلى الموقف تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ من الْغَيْظِ على أعداء الله فمن كان في مثل هذا البيت وقاه الله من شرها وسطوتها ولما كانت الطهارة شرطا في صحة الصلاة أفردنا لها بابا قدمناه بين يدي باب الصلاة ثم يتلوها الزكاة ثم الصوم ثم الحج ويكفي في هذا الكتاب هذا القدر من العبادات فأتتبع أمهات مسائل كل باب منها وأقررها بالحكم الكلي باسمها في الظاهر ثم انتقل إلى حكم تلك المسألة عينها في الباطن إلى أن أفرغ منها والله يؤيد ويعين‏

(بيان وإيضاح) [أحكام الطهارة]

فأول ذلك تسميتها طهارة وقد ذكرنا ذلك في أول الباب ظاهرا وباطنا فلنشرع إن شاء الله في أحكامها وهو أن ننظر في وجوبها وعلى من تجب ومتى تجب وفي أفعالها وفيما به تفعل وفي نواقضها وفي صفة الأشياء التي تفعل من أجلها كما فعلته علماء الشريعة وقررته في كتبها وقد انحصر في هذا أمر الطهارة ولننظر ذلك ظاهرا وباطنا وإنما نومئ إليه ظاهرا حتى لا يفتقر الناظر فيها إلى كتب الفقهاء فيغنيه ما ذكرناه ولا نتعرض للادلة التي للعلماء على ثبوت هذا الحكم من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس في مذهب من يقول به لطرد علة جامعة يراها بين المنطوق عليه والمسكوت عنه لا أتعرض إلى أصول الفقه في ذلك ولا إلى الأدلة إذا العامة ليس منصبها النظر في الدليل فنحن نذكر أمهات فروع الأحكام ومذاهب الناس فيها من وجوب وغير وجوب‏

(وصل) [وجوب الطهارة وعلى من تجب ومتى تجب‏]

نقول أولا أجمع المسلمون قاطبة من غير مخالف على وجوب الطهارة على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها وأنها تجب على البالغ حد الحلم العاقل واختلف الناس هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا هذا حكم الظاهر فأما الباطن في ذلك وهي الطهارة الباطنة فنقول إن باطن الصلاة وروحها إنما هو مناجاة الحق تعالى حيث‏

قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏

الحديث فذكر المناجاة يقول العبد كذا فيقول الله كذا فمتى أراد العبد مناجاة ربه في أي فعل كان تعينت عليه طهارة قلبه من كل شي‏ء يخرجه عن مناجاة ربه في ذلك الفعل ومتى لم يتصف بهذه الطهارة في وقت مناجاته فما ناجاه وقد أساء الأدب فهو بالطرد أحق وسأذكر في أفعالها تقاسيم هذه الطهارة في الحكم إن شاء الله‏

[الطهارة في القلب وفي الأعضاء]

وأما قول العلماء إنها تجب على البالغ العاقل بالإجماع واختلفوا في الإسلام فكذلك عندنا تجب هذه الطهارة على العاقل وهو الذي يعقل عن الله أمره ونهيه وما يلقيه الله في سره ويفرق بين خواطر قلبه فيما هو من الله أو من نفسه أو من لمة الملك أو من لمة الشيطان وذلك هو الإنسان فإذا بلغ في المعرفة والتمييز إلى هذا الحد وعقل عن الله ما يريد منه وسمع‏

قول الله تعالى وسعني قلب عبدي‏

وجب عليه عند ذلك استعمال هذه الطهارة في قلبه وفي كل عضو يتعلق به على الحد المشروع فإن طهارة البصر مثلا في الباطن هو النظر في الأشياء بحكم الاعتبار وعينه فلا يرسل بصره عبثا ولا يكون مثل هذا إلا لمن تحقق باستعمال الطهارة المشروعة في محلها كلها قال تعالى إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فجعلها للابصار والاعتبار إنما هو للبصائر فذكر الأبصار لأنها الأسباب المؤدية إلى الباطن ما يعتبر فيه عين البصيرة وهكذا جميع الأعضاء كلها

[هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة]

وأما قول العلماء في هذه الطهارة هل من شرط وجوبها الإسلام فهو قولهم هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وإن المنافق إذا توضأ هل أدى واجبا أم لا وهي مسألة خلاف تعم جميع الأحكام المشروعة فمذهبنا أن جميع الناس كافة من مؤمن وكافر ومنافق مكلفون مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها وأنهم مؤاخذون يوم القيامة بالأصول وبالفروع ولهذا كان المنافق في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النَّارِ وهو باطن النار وإن المنافق معذب بالنار الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إذ أتى في الدنيا بصورة ظاهر الحكم المشروع من التلفظ بالشهادة وإظهار تصديق‏

الرسل والأعمال الظاهرة وما عندهم في بواطنهم من الايمان مثقال ذرة فبهذا القدر تميزوا من الكفار وقيل فيهم إنهم منافقون قال تعالى إِنَّ (الله جامِعُ) الْمُنافِقِينَ والْكافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعاً فذكر الدار فالمنافقون يعذبون في أسفل جهنم والكافرون لهم عذاب في الأعلى والأسفل‏

[العذاب في جهنم على مراتب وطبقات‏]

فإن الله قد رتب مراتب وطبقات للعذاب في نار جهنم لأعمال مخصوصة بأعضاء مخصوصة على ميزان معلوم لا يتعداه فالمؤمن ليس للنار اطلاع على محل إيمانه البتة فما له نصيب في النار الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ وإن خرج عنه هناك فإن عنايته سارية في محله من الإنسان وإنما يخرج عنه ليحميه ويرد عنه من عذاب الله ما شاء الله كما خرج عنه في الدنيا إذا أوقع المعصية

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمن يشرب الخمر ويسرق ويزني إنه لا يفعل شيئا من ذلك وهو مؤمن حال فعله وقال إن الايمان يخرج عنه في ذلك الوقت حال الفعل‏

وتأول الناس هذا الحديث على غير وجهه لأنهم ما فهموا مقصود الشارع وفسروا الايمان بالأعمال فقالوا إنه أراد العمل فأبان النبي صلى الله عليه وسلم مراده بذلك في الحديث الآخر

فقال صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا زنى خرج عنه الايمان حتى يصير عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الايمان‏

[المعصية والايمان لا يجتمعان‏]

فاعلم أن الحكمة الإلهية في ذلك أن العبد إذا شرع في المخالفة التي هو بها مؤمن أنها مخالفة ومعصية فقد عرض نفسه بفعله إياها لنزول عذاب الله عليه وإيقاع العقوبة به وأن ذلك الفعل يستدعي وقوع البلاء به من الله فيخرج عنه إيمانه الذي في قلبه حتى يكون عليه مثل الظلة فإذا نزل البلاء من الله يطلبه تلقاه إيمانه فيرده عنه فإن الايمان لا يقاومه شي‏ء ويمنعه من الوصول إليه رحمة من الله وما بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ولهذا قلنا إن العبد المؤمن لا يخلص له أبدا معصية لا تكون مشوبة بطاعة وهي كونه مؤمنا بها أنها معصية فهو من الذين خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً فقال الله عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والتوبة الرجوع فمعناه أن يرجع عليهم بالرحمة فإنه تعالى تمم الآية بقوله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال العلماء إن عسى من الله واجبة فإنه لا مانع له‏

[الايمان عين الطهارة الباطن‏]

ثم نرجع ونقول إنه لما كان الايمان عين طهارة الباطن لم يتمكن أن يتصور الخلاف فيه كما تصور في الطهارة الظاهرة إلا بوجه دقيق يكون حكم الظاهر فيه في الباطن حكم الباطن في طهارة الظاهر فنقول من ذلك الوجه هل من شرط طهارة الباطن بالإيمان التلفظ به فينطق اللسان بما يعتقده القلب من ذلك أم لا فيكون في عالم الغيب إذا لم يظهر بما يعتقده في الباطن منافقا كمنافق الظاهر في عالم الشهادة فإن المؤمن يعتقد وجوب الصلاة مثلا ولا يصلي ولا يتطهر كما أن المنافق يصلي ويتطهر ولا يؤمن بوجوبها عليه بقلبه ولا يعتقده أو لا يفعله لقول ذلك الرسول الذي شرعه له فهذا معنى ذلك إذا حققت النظر فيه حتى بسري الحكم في الظاهر والباطن على صورة ما هو في الظاهر من الخلاف والإجماع فاعلم ذلك‏

(وصل) وأما أفعال هذه الطهارة

فقد ورد بها الكتاب والسنة وبين فرضها من سننها من استحباب أفعال فيها ولهذه الطهارة شروط وأركان وصفات وعدد وحدود معينة في محالها

[النية شرط في صحة الطهارة]

فمن شروطها النية وهي القصد بفعلها على جهة القربة إلى الله تعالى عند الشروع في الفعل فمن الناس من ذهب إلى أنها شرط في صحة ذلك الفعل الذي لا يصح إلا بوجودها وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولا بد وهو مذهبنا وبه نقول في الطهارة الظاهرة والباطنة وهي عندنا في الباطن آكد وأوجب لأن النية من صفات الباطن أيضا فحكمها في طهارة الباطن أقوى لأنها تحكم في موضع سلطانها والظاهر غريب عنها فلهذا لم يختلف في علمنا في الباطن واختلف في ذلك في الظاهر وقد تقدم من الكلام في النية طرف يغني وذهب آخرون إلى أنها ليست بشرط صحة وأغنى ما ذكرناه في طهارة الوضوء بالماء

(وصل) [غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء]

اختلف علماء الشريعة في غسل اليد قبل إدخالها في الإناء الذي تريد الوضوء منه على أربعة أقوال فمن قائل إن غسلهما سنة بإطلاق ومن قائل إن ذلك مستحب لمن يشك في طهارة يده ومن قائل إن غسل اليد واجب على القائم من النوم في الإناء الذي يريد الوضوء منه ومن قائل إن ذلك واجب على المنتبه من نوم الليل خاصة وهذا حصر مذاهب العلماء في علمي في هذه المسألة ولكل قائل حجة من الاستدلال يدل بها على قوله وليس كتابنا هذا موضع إيراد أدلتهم و

تتميم [حكم غسل اليد من الوجهة الباطنية]

حكم هذه المسألة في الباطن غسل اليد هو طهارتها بما كلفه الشارع فيها بتركه وذلك على قسمين منه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب إليه والواجب عندنا والفرض على السواء لفظان متواردان على معنى واحد فلا فرق‏

عندنا إذا قلت أوجب أو فرض‏

[الواجب تركه والمندوب تركه‏]

ثم نقول فالواجب إذا كانت اليد على شي‏ء يحكم الشرع فيه عليها أنها غاصبة أو بكونه مسروقا أو بكونه وقعت فيه خيانة وكل ما لم يجوز لها الشارع أن تتصرف فيه والفروق في هذه الأحوال بينة فواجب طهارتها عن هذا كله وسيرد بما ذا تطهر في موضعه إن شاء الله فواجبة عليها هذه الطهارة وأما الطهارة المندوب إليها فهي ترك ما في اليد من الدنيا مما هو مباح له إمساكه فندبه الشرع إلى إخراجه عن يده رغبة فيما عند الله وذلك هو الزهد وهي تجارة فإن لها عوضا عند الله على ما تركته والترك أعلى من الإمساك وهذه مسألة إجماع في كل ملة ونحلة شرعا وعقلا فإن الناس مجمعون على أن الزهد في الدنيا وترك جمع حطامها والخروج عما بيده منها أولى عند كل عاقل هذا هو المندوب إليه في طهر اليد وهو السنة وأما المذهب في الاستحباب في طهارة اليد عند الشاك في طهارتها فهو الخروج عن المال الذي في يده لشبهة قامت له فيه قدحت في حله فليس له إمساكه وهذا هو الورع ما هو الزهد وإن كان له وجه إلى الحل فالمستحب تركه ولا بد فإن مراعاة الحرمة أولى فإنك في إمساكه مسئول وفي تركه للشبهة التي قامت عندك فيه غير مسئول بل أنت إلى المثوبة على ذلك أقرب وهذا في الطهارة المندوب إليها أولى والاستحباب في الترك للمباح أولى‏

[الليل غيب والنهار شهادة]

وأما اختلافهم في وجوب غسلها من النوم مطلقا وفيمن قيد ذلك بنوم الليل فاعلم أن الليل غيب لأنه محل الستر ولذلك جعل الليل لباسا والنهار شهادة لأنه محل الظهور والحركة ولذلك جعله معاشا لابتغاء الفضل يعني طلب الرزق هنا من وجهه فالفضل المبتغي فيه من الزيادة ومن الشرف وهو زيادة الفضائل فإنه يجمع ما ليس له برزق فهو فضول لأنه يجمعه لوارثه أو لغيره فإن رزق الإنسان ما هو ما يجمعه وإنما هو ما يتغذى به فاعلم أن النائم في عالم الغيب بلا شك وإذا كان النوم بالليل فهو غيب في غيب فيكون حكمه أقوى والنوم بالنهار غيب في شهادة فيكون حكمه أضعف أ لا تراه جعل النَّوْمَ سُباتاً فهو راحة بلا شك وهو بالليل أقوى فإنه فيه أشد استغراقا من نوم النهار والغيب أصل فالليل أصل والشهادة فرع فالنهار فرع وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فالنهار مسلوخ من الليل فالليل لما كان يستر الأشياء ولا يبين حقائق صورها للابصار أشبه الجهل فإن الجهل بالشي‏ء لا يبين حكمه فمن جهل الشرع في شي‏ء لم يعلم حكمه فيه‏

[النائم في حال نومه والجاهل في حال جهله‏]

ولما كان النائم في حال نومه لا يعلم شيئا من أمور الظاهر في عالم الشهادة في حق الناس كان النوم جهلا محضا إلا في حق من تنام عينه ولا ينام قلبه كرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من ورثته في الحال ولما كان النهار يوضح الأشياء ويبين صور ذواتها ويظهر للمتقي ما يتقى من الأمور المضرة وما لا يتقيه أشبه العلم فإن العلم هو المبين حكم الشرع في الأشياء ولما كان النائم بالنهار متصفا بالجهل لأجل نومه لأن النوم من أضداد العلم ربما مد يده وهو لا علم له أو رجله فيفسد شيئا مما لو كان مستيقظا لم يتعرض إلى فساده أوجب عليه الشرع الطهارة بالمعلم من نوم الجهل إذا استيقظ فيعلم بيقظته حكم الشرع في ذلك فإنه ما كان يدري في حال نوم جهالته حيث جالت يده هل فيما أبيح له ملكه أو في ما لم يبح له ملكه كالمغصوب وأمثاله كما ذكرنا كما راعى المخالف قوله أين باتت يده واشتركا في النوم وإنما ذكر الشارع المبيت لأن غالب النوم فيه وهو أبدا يراعي الأغلب فجعل هذا الحكم في نوم الليل ومراعاة النوم أولى من مراعاة نوم الليل ويقول مراعي نوم الليل لذكر المبيت فإنه لما كان الإنسان إذا نام بالنهار قد يكون هناك إنسان أو جماعة إذا رأوا النائم يتحرك بيده أو برجله فتؤديه حركته تلك إلى كسر جرة أو غيرها أو صبي صغير رضيع تحصل يده على فمه فتؤذيه أو يمسك عنه خروج النفس فيموت وقد رأينا ذلك فيكون المستيقظ الحاضر يمنع من ذلك بإزالة الطفل القريب منه أو الجرة أو ما كان من أجل ضوء النهار الذي كشفه به ويقظته كذلك العالم مع الجاهل إذا رآه يتصرف بما لا علم له به بحكم الشرع فيه نبهه أو حال الشرع بينه وبين ذلك الفعل فوجب غسل اليد عندنا ولا بد باطنا على الغافل وهو النائم بالنهار الجاهل وهو النائم بالليل وأما اعتبارنا بالطهارة قبل إدخالها في الإناء فإنه بالعلم والعمل خوطبنا فالعلم الماء والعمل الغسل وبهما تحصل الطهارة فغسلها قبل إدخالها في إناء الوضوء هو ما يقرره في نفسه من القصد الجميل في ذلك الفعل إلى جناب الحق الذي فيه سعادته عند الشروع في الفعل على التفصيل فهذا معنى غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء في طهارة الباطن‏

(وصل) المضمضة والاستنشاق‏

اختلف علماء الشريعة فيهما على ثلاثة أقوال فمن قائل إنهما سنتان ومن‏

قائل إنهما فرض ومن قائل إن المضمضة سنة والاستنشاق فرض هذا حكمهما في الظاهر قد نقلناه‏

[حكم المضمضة والاستنشاق في الباطن‏]

فأما حكمهما في الباطن فمنهما ما هو فرض ومنهما ما هو سنة فأما المضمضة فالفرض منها التلفظ بلا إله إلا الله فإن بها يتطهر لسانك من الشرك وصدرك فإن حروفها من الصدر واللسان وكذلك في كل فرض أوجب الله عليك التلفظ به مما لا ينوب فيه عنك غيرك فيسقط عنك كفرض الكفاية كرجل أبصر أعمى على بعد يريد السقوط في حفرة يتأذى بالسقوط فيها أو يهلك فيتعين عليه فرضا أن ينادي به يحذره من السقوط بما يفهم عنه لكونه لا يلحقه فإن سبقه إنسان إلى ذلك سقط عنه ذلك الفرض الذي كان تعين عليه فإن تكلم به فهو خير له وليس بفرض عليه فإذا تمضمض في باطنه بهذا وأمثاله فقد أصاب خيرا وقال خيرا وهو حسن القول وصدق اللسان طهور من الكذب والجهر بالقول الحسن طهور من الجهر بِالسُّوءِ من الْقَوْلِ وإن كان جزاء بقوله إِلَّا من ظُلِمَ ولكن السكوت عنه أفضل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طهور من نقيضيهما فمثل هذا فرض المضمضة وسننها وكذلك الاستنشاق‏

[الأنف في عرف العرب رمز العزة والكبرياء]

فاعلم إن الاستنشاق في الباطن لما كان الأنف في عرف العرب محل العزة والكبرياء ولهذا تقول العرب في دعائها أرغم الله أنفه وقد اتفق هذا على رغم أنفه والرغام التراب أي حطك الله من كبريائك وعزك إلى مقام الذلة والصغار فكنى عنه بالتراب فإن الأرض سماها الله ذلولا على المبالغة فإن أذل الأذلاء من وطئه الذليل والعبيد أذلاء وهم يطئون الأرض بالمشي عليها في مناكبها فلهذا سماها ببنية المبالغة

[الاستنثار أو استعمال أحكام العبودية]

ولا يندفع هذا ولا تزول الكبرياء من الباطن إلا باستعمال أحكام العبودية والذلة والافتقار ولهذا شرع الاستنثار في الاستنشاق فقيل له اجعل في أنفك ماء ثم استنثر والماء هنا علمك بعبوديتك إذا استعملته في محل كبريائك خرج الكبرياء من محله وهو الاستنثار ومنه فرض واستعماله في الباطن فرض بلا شك وأما كونه سنة فمعناه أنك لو تركته صح وضوؤك ومحله في هذا القدر أنك لو تركت معاملتك لعبدك أو لمن هو تحت أمرك وهنا سر خفي يتضمنه رب أعطني كذا أو لمن هو دونك بالتواضع وأظهرت العزة وحكم الرئاسة لمصلحة تراها أباحها لك الشارع فلم تستنشق جاز حكم طهارتك دون استعمال هذا الفعل وإن كان استعمالها أفضل فهذا موضع سقوط فرضها فلهذا قلنا قد يكون سنة وقد يكون فرضا لعلمنا أنه لو أجمع أهل مدينة على ترك سنة وجب قتالهم ولو تركها واحد لم يقتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغير على مدينة إذا جاءها ليلا حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار وكان يتلو إذا لم يسمع أذانا إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ‏

[ما من حكم في الشريعة ظاهرا إلا وله ما يقابله باطنا]

وما من حكم من أحكام فرائض الشريعة وسننها واستحباباتها إلا ولها في الباطن حكم أو أزيد على قدر ما يفتح للعبد في ذلك فرضا كان أو سنة أو مستحبا لا بد من ذلك وحد ذلك في سائر العبادات المشروعة كلها وبهذا يتميز حكم الظاهر من الباطن فإن الظاهر يسرى في الباطن وليس في الباطن أمر مشروع يسرى في الظاهر بل هو عليه مقصور فإن الباطن معان كلها والظاهر أفعال محسوسة فينتقل من المحسوس إلى المعنى ولا ينتقل من المعنى إلى الحس‏

(باب التحديد في غسل الوجه)

لا خلاف إن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله مطلقا وذلك أن لا تتعدى حدود الله تعالى واختلف علماء الرسوم في تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع منها البياض الذي بين العذار والأذن والثاني ما سدل من اللحية والثالث غسل اللحية فأما البياض المذكور فمن قائل إنه من الوجه ومن قائل إنه ليس من الوجه وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل بوجوب إمرار الماء عليه ومن قائل بأن ذلك لا يجب وأما تخليل اللحية فمن قائل بوجوب تخليلها ومن قائل إنه لا يجب‏

(وصل في حكم ما ذكرناه في الباطن)

[غسل الوجه من الناحية الباطنية]

أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن منه ما هو فرض ومنه ما ليس بفرض فأما الفرض فالحياء من الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك وأما السنة منه الحياء من الله أن تكشف عورتك في خلوتك فالله أولى أن تستحيي منه مع علمك أنه ما من جزء فيك إلا وهو يراه منك ولكن حكمه في أفعالك من حيث أنت مكلف ما ذكرناه وقد ورد به الخبر وكذلك النظر إلى عورة امرأتك وإن كان قد أبيح لك ذلك ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فيسقط الفرض‏

فيه أعني في الحياء في مثل قوله لا يَسْتَحْيِي من الْحَقِّ فما يتعين منه فهو فرض عليك وما لا يتعين عليك فهو سنة واستحباب فإن شئت فعلته وهو أولى وإن شئت لم تفعله فيراقب الإنسان أفعاله وترك أفعاله ظاهرا وباطنا ويراقب آثار ربه في قلبه فإن وجه قلبه هو المعتبر ووجه الإنسان وكل شي‏ء حقيقته وذاته وعينه يقال وجه الشي‏ء ووجه المسألة ووجه الحكم ويريد بهذا الوجه حقيقة المسمى وعينه وذاته قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ والوجوه التي هي في مقدم الإنسان ليست توصف بالظنون وإنما الظن لحقيقة الإنسان‏

فالحياء خير كله والحياء من الايمان والحياء لا يأتي إلا بخير

[الحد الفاصل بين وظيفة الوجه ووظيفة السمع‏]

وأما البياض الذي بين العذار والأذن وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سمعه فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره فكما أنه من الحياء غض البصر عن محارم الله قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أَبْصارِهِمْ وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ من أَبْصارِهِنَّ باطن هاتين الآيتين خطاب النفس والعقل كذلك يلزمه الحياء من الله أن يسمع ما لا يحل له سماعه من غيبة وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي ولا يحل له التلفظ به فإن ذلك البياض بين العذار والأذن وهو محل الشبهة وصورة الشبهة في ذلك أن يقول إنما أصغيت إليه لأرد عليه وعن الشخص الذي اغتيب وهذا من فقه النفس فقوله هذا هو من العذار فإنه من العذر أي الإنسان إذا عوتب في ذلك يعتذر بما ذكرناه وأمثاله ويقول إنما أصغيت لأحقق سماعي قوله حتى أنهاه عن ذلك على يقين فكنى عنه بالعذار ويكون فيمن لا عذار له موضع العذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله بما قال تعالى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ الله أي بين لهم الحسن من ذلك من القبيح وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي عقلوا ما أردنا وهو من لب الشي‏ء المصون بالقشر ومن لم ير وجوب ذلك عليه إن شاء غسل وإن شاء ترك كمن يسمع ممن لا يقدر على رد الكلام في وجهه من ذي سلطان يخاف من تعديه عليه فإن قدر على القيام من مجلسه انصرف فذلك غسله إن شاء وإن ترجح عنده الجلوس لأمر يراه مظنونا عنده جلس ولم يبرح وهذا عند من لا يرى وجوب ذلك عليه‏

[غسل ما انسدل من اللحية وتخليلها]

وأما غسل ما انسدل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض فإن اللحية شي‏ء يعرض في الوجه ما هي من الوجه ولا تؤخذ في حده مثل ما يعرض لك في ذاتك من المسائل الخارجة عن ذاتك فأنت فيها بحكم ذلك العارض فإن تعين عليك طهارة نفسك من ذلك العارض فهو اعتبار قول من يقول بوجوب غسل ذلك وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك ولكن هو نقص في الجملة فهذا قول من يقول ليس بواجب وهو مذهب الآخرين وقد بينا لك فيما تقدم من مثل هذا الباب أن حكم الباطن في هذه الأمور بخلاف حكم الظاهر فيما فيه وجه إلى الفرضية ووجه إلى السنة والاستحباب فالفرض لا بد من العمل به فعلا كان أو تركا وغير الفرض فيه إن تنزله في الامتثال منزلة الفرض وهو أولى فعلا وتركا وذلك سار في سائر العبادات‏

(باب في غسل اليدين والذراعين في الوضوء إلى المرافق)

أجمع العلماء بالشريعة على غسل اليدين والذراعين في الوضوء بالماء واختلفوا في إدخال المرافق في الغسل ومذهبنا الخروج إلى محل الإجماع في الفعل فإن الإجماع في الحكم لا يتصور فمن قائل بوجوب إدخالها في الغسل ومن قائل بترك الوجوب ولا خلاف عند القائلين بترك الوجوب في استحباب إدخالها في الغسل‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[غسل اليدين بالكرم والذراعين بالتوكل‏]

أقول بعد تقرير حكم الظاهر الذي تعبدنا الله إن غسل اليدين والذراعين وهما المعصمان فغسل اليدين بالكرم والجود والسخاء والإيثار والهبات وأداء الأمانات وهو الذي لا يصح عنده الإيثار كما يغسلهما أيضا مع الذراعين بالاعتصام إلى المرافق بالتوكل والاعتضاد فإن المؤمن كثير بأخيه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل ذراعيه في الوضوء يجوز المرفقين حتى يشرع في العضد وإن هذا وأشباهه من نعوت اليدين والخلاف في حد اليدين أكثره إلى الآباط وأقله إلى الفصل الذي يسمى منه الذراع فبقي إدخال المرافق‏

[المرافق أو رؤية الأسباب ارتفاقا وتأنسا]

والمرافق في الباطن هي رؤية الأسباب التي يرتفق بها العبد وتأنس بها نفسه فإن الإنسان في أصل خلقه خُلِقَ هَلُوعاً يخاف الفقر الذي تعطيه حقيقته من‏

حيث إمكانه فيجنح إلى ما يرتفق به ويميل إليه فمن رأى إدخال المرافق في غسله واجبا رأى أن الأسباب إنما وضعها الله حكمة منه في خلقه لما علم من ضعف يقينهم فيريد أن لا يعطل حكمة الله لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله ومن رأى أنه لا يوجبها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب أنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله حالا مع وجود رؤية الأسباب وكل من يقول إنها لا تجب يستحب إدخالها في الغسل كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها فإن الله ربط الحكمة بوجودها

(باب في مسح الرأس)

[اختلاف العلماء في القدر الواجب من مسح الرأس‏]

اتفق علماء الشريعة على إن مسحه من فرائض الوضوء واختلفوا في القدر الواجب منه فمن قائل بوجوب مسحه كله ومن قائل بوجوب مسح بعضه واختلفوا في حد البعض فمن قائل بوجوب الثلث ومن قائل بوجوب الثلثين ومن قائل بالربع ومن قائل لا حد للبعض وتكلم بعض هؤلاء في حد القدر الذي يمسح به من اليد فمن قائل إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه ومن قائل لا حد للبعض لا في الممسوح ولا فيما يمسح به وأصل هذا الخلاف وجود الباء في قوله تعالى بِرُؤُسِكُمْ‏

(وصل حكم المسح في الباطن)

[الرأس أقرب عضو إلى الحق لمناسبة الفوق‏]

فأما حكم مسح الرأس في الباطن اعتبارا فإن لرأس من الرئاسة وهي العلو والارتفاع ومنه رئيس القوم أي سيدهم الذي له الرئاسة عليهم ولما كان أعلى ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا إذ كان الرئيس فوق المرءوس بالمرتبة وله جهة فوق وقد وصف الله نفسه بالفوقية لشرفها قال تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ وقال وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فكان الرأس أقرب عضو في البدن إلى الحق لمناسبة الفوق‏

[العقل محله اليافوخ أعلى ما في الرأس‏]

ثم له شرف آخر بالمعنى الذي رأس به على أجزاء البدن كلها وهو كونه محلا جامعا حاملا لجميع القوي كلها المحسوسة والمعقولة المعنوية فلما كانت له أيضا هذه الرئاسة من هذه الجهة سمي رأسا ثم إن العقل الذي جعله الله أشرف ما في الإنسان جعل محله أعلى ما في الرأس وهو اليافوخ فجعله مما يلي جهة الفوقية

[الرأس مجمع الظاهرة والباطنة]

ولما كان الرأس محلا لجميع القوي الظاهرة والباطنة ولكل قوة منها حكم وسلطان وفخر يورثه ذلك عزة على غيره كقصر الملك على سائر دور السوقة وجعله الله محال هذه القوي من الرأس مختلفة حتى عمت الرأس كله أعلاه ووسطه ومقدمه ومؤخره وكل قوة كما ذكرنا لها عزة وسلطان وكبرياء في نفسها ورياسة فوجب أن يمسحه كله وهو اعتبار من يقول بوجوب مسح الرأس كله لهذه الرئاسة السارية فيه كله من جهة حمله لهذه القوي المختلفة الأماكن فيه بالتواضع والإقناع لله فيكون لكل قوة إذا عم المسح مسح مخصوص من مناسبة دعواها فيردعها بما يخصها من المسح فيعم بالمسح جميع الرأس ومن يرى أن للرأس رأسا عليه كما إن الولاة من جهة السلطان يرجع أمرهم إليه فإنه الذي ولاهم رأى كل وال أن فوقه وال عليه هو أعلى منه له سلطان على سلطانه كالقوة المصورة لها سلطان على القوة الخيالية فهي رئيسة عليها وإن كانت لها رياسة أعني القوة الخيالية فمن رأى هذا من العلماء قال بمسح بعض الرأس وهو التهمم بالأعلى‏

[وقوف العبد في محل الإذلال لا بصفة الإدلال بالدال اليابسة]

ثم اختلف أصحابنا في هذا البعض فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله من الإدراك في مراتب هذه القوي فهو بحسب ما يراه ويعتبره فأخذ يمسح في هذه العبادة وهي التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأنه في طهارة العبادة يطلب الوصلة بربه لأن المصلي في مقام مناجاة ربه وهي الوصلة المطلوبة بالطهارة والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاة تلك العزة والرئاسة نزل عن رياسته وذله عن عزه بعز من دخل عليه وهو سيده الذي أوجده فيقف بين يديه وقوف غيره من العبيد الذين أنزلوا نفوسهم بطلب الأجرة منزلة لا جانب فوقف هذا العبد في محل الإذلال لا بصفة الإدلال بالدال اليابسة فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوي على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي يطلبها بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامة الفراق وهو المصيبة العظمى إذ كان الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه فلما كان المطلوب بهذه العبادة الوصلة لا الفرقة لهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم فامسح على حد ما ذكرناه لك ونبهناك عليه وتفصيل رياسات القوي معلوم عند الطائفة لا أحتاج إلى ذكره وأما التبعيض في اليد التي يمسح بها واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء فإن المزيل لهذه الرئاسة أسباب‏

مختلفة في القدرة على ذلك ومحل ذلك اليد فمن مزيل بصفة القهر ومن مزيل بسياسة وترغيب كما يمسح الإنسان بيده رأس اليتيم جبرا لانكساره بلطف وحنان فلهذا ترجع بعضية اليد في المسح وكليته فاعلم ذلك‏

[القدرة الحادثة هل لها أثر في المقدور]

ولما كان الموجب لهذا الخلاف عند العلماء وجود الباء في قوله بِرُؤُسِكُمْ فمن جعلها للتبعيض بعض المسح ومن جعلها زائدة للتوكيد في المسح عم بالمسح جميع الرأس وإن الباء في هذا الموضع هو وجود القدرة الحادثة فلا يخلو إما أن يكون لها أثر في المقدور فتصح البعضية وهو قول المعتزلي وغيره وإما أن لا يكون لها أثر في المقدور بوجه من الوجوه فهي زائدة كما يقول الأشعري فيسقط حكمها فتعم القدرة القديمة مسح الرأس كله لم تبعض مسحه القدرة الحادثة ويكون حد مراعاة التوكيد من كونها زائدة للتوكيد هو الاكتساب الذي قالت به الأشاعرة وهو قوله تعالى في غير موضع من كتابه بإضافة الكسب والعمل إلى المخلوق فلهذا جعلوا زيادتها لمعنى يسمى التوكيد

[العرب في كلامها تقابل الزائد بالزائد]

أ لا ترى العرب تقابل الزائد بالزائد في كلامها تريد بذلك التوكيد وتجيب به القائل إذا أكد قوله يقول القائل إن زيدا قائم أو يقول ما زيد قائما فيقول السامع في جواب إن زيدا قائم ما زيد قائما وفي جواب ما إن زيدا قائم فيثبت ما نفاه القائل أو ينفي ما أثبته القائل فإن أكد القائل إيجابه فقال إن زيدا لقائم فأدخل اللام لتأكيد ثبوت القيام أدخل المجيب الباء في مقابلة اللام لتأكيد نفي ما أثبته القائل فيقول ما زيد بقائم ويسمى مثل هذا زائدا لأن الكلام يستقل دونه ولكن إذا قصد المتكلم خلاف التبعيض وأتى بذلك الحرف للتأكيد فإن قصد التبعيض لم يكن زائدا ذلك الحرف جملة واحدة والصورة واحدة في الظاهر ولكن تختلف في المعنى والمراعاة إنما هي لقصد المتكلم الواضع لتلك الصورة

[منشأ الخلاف بين النظار في الخلق الأفعال‏]

فإذا جهلنا المعنى الذي لأجله خلق سبحانه لتمكن من فعل بعض الأعمال نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره وهي الحركة الاختيارية كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ونجد ذلك من نفوسنا كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها لم ندر لما يرجع ذلك التمكن الذي نجده من نفوسنا هل يرجع إلى أن يكون للقدرة الحادثة فينا أثر في تلك العين الموجودة عن تمكننا أو عن الإرادة المخلوقة فينا فيكون التمكن أثر الإرادة لا أثر القدرة الحادثة من هنا منشا الخلاف بين أصحاب النظر في هذه المسألة وعليه ينبغي كون الإنسان مكلفا لعين التمكن الذي يجده من نفسه ولا يحقق بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا وإن كان مجبورا في اختياره ولكن بذلك القدر من التمكن الذي يجده من نفسه يصح أن يكون مكلفا ولهذا قال تعالى لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا ما آتاها فقد أعطاها أمرا وجوديا ولا يقال أعطاها لا شي‏ء وما رأينا شيئا أعطاها بلا خلاف إلا التمكن الذي هو وسعها لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها

[كل مسألة نظرية لا بد من الخلاف فيها لاختلاف الفطر في النظر]

وما يدري لما ذا يرجع هذا التمكن وهذا الوسع هل لأحدهما أعني الإرادة أو القدرة أو لأمر زائد عليهما أو لهما ولا يعرف ذلك إلا بالكشف ولا يتمكن لنا إظهار الحق في هذه المسألة لأن ذلك لا يرفع الخلاف من العالم فيه كما ارتفع عندنا الخلاف فيها بالكشف وكيف يرتفع الخلاف من العالم والمسألة معقولة وكل مسألة معقولة لا بد من الخلاف فيها لاختلاف الفطر في النظر فقد عرفت مسح الرأس ما هو في هذه الطريقة وبقي من حكمه المسح على العمامة وما في ذلك من الحكم‏

(وصل في المسح على العمامة)

فمن علماء الشريعة من أجاز المسح على العمامة ومنع من ذلك جماعة فالذي منع لأنه خلاف مدلول الآية فإنه لا يفهم من الرأس العمامة فإن تغطية الرأس أمر عارض والمجيز ذلك لأجل ورود الخبر الوارد في مسلم وهو حديث قد تكلم فيه وقال فيه أبو عمر بن عبد البرانه معلول‏

(وصل مسح العمامة في الباطن)

وأما حكم المسح على العمامة في الباطن فاعلم إن الأمور العوارض لا يعارض بها الأصول ولا تقدح فيها فالذي ينبغي لك أن تنظر ما السبب الموجب لطرو ذلك العارض فلا يخلو إما أن يكون مما يستغني عنه أو يكون مما يحصل الضرر بفقده فلا يستغني عنه فإن استغنى عنه فلا حكم له في إزالة حكم الأصل وإن لم يستغن عنه وحصل الضرر بفقده كان حكمه حكم الأصل وناب منابه وإن بقي من الأصل جزء ما ينبغي أن يراعى ذلك الجزء الذي بقي ولا بد ويبقى ما بقي من الأصل ينوب عنه هذا الأمر العارض الذي يحصل الضرر بفقده هذا مذهبنا فيه ولهذا ورد في الحديث الذي ذكرنا أنه معلول عند بعض علماء هذا الشأن إن المسح وقع على الناصية والعمامة معا فقد مس الماء الشعر

فقد حصل حكم الأصل في مذهب من يقول بمسح بعض الرأس فلو لبس العمامة للزينة لم يجز له المسح عليها بخلاف المريض الذي يشد العمامة على رأسه لمرضه فما ورد ما يقاوم نص القرآن في هذه المسألة

(إيضاح)

[القيام بالأسباب للمتجرد عن الأسباب‏]

فإذا عرض لأهل هذه الطريقة عارض يقدح في الأصل كفعل السبب للمتجرد عن الأسباب أو التبختر والرئاسة في الحرب فإن كلامنا في مسح الرأس وله التواضع والتكبر ضرب المثل به أولى ليصل فهم السامع إلى المقصود مما يريده في هذه العبادة فإن أثر ذلك الزهو إظهار الكبر في عبودية الإنسان فنسيان كبرياء ربه عليه وعزته سبحانه وحجبه عن ذلك فلا يفعل ويطرح الكبرياء عن نفسه ولا بد ولا يجوز له التكبر في ذلك الموطن لقدحه في الأصل وإن لم يؤثر في نفسه بل ذلك أمر ظاهر في عين العدو وهو في نفسه في ذلته وافتقاره جاز له صورة التكبر في الظاهر لقرينة الحال بحكم الموطن فإنه لم يؤثر في الأصل هكذا حكم المسح على العمامة عندنا فاعلم ذلك‏

[طرح السبب من اليد هو بعض أفعال اليد]

فقد علمت حكم المسح على العمامة في الباطن ما هو وكذلك المسح ببعض اليد على العمامة وهو إن قدح أخذك للسبب في اعتمادك على الله بقلبك فلا تأخذه ولا تستعمله ما لم يؤد إلى ما هو أعظم منه في البعد عن الله وإن لم يؤثر في الاعتماد عليه فامسح ببعض يدك ولا حرج عليك فإن طرح السبب من اليد بعض أفعال اليد لأن مجموع اليد في المعنى أمور كثيرة فإنها تتصرف تصرفات كثيرة مختلفات المعاني في الأمور المشروعة والأحكام فإن لها القبض والبسط والاعتدال قال تعالى ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وهو كناية عن البخل ولا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وهو كناية عن السرف وكذلك مدح قوما بمثل هذا فقال تعالى والَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وهو العدل في الإنفاق وكذلك قال تعالى ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وهو هنا البخل فنسب ذلك كله إلى الأيدي فلهذا قلنا لها أفعال كثيرة ولو لا وجود الكثرة ما صحت البعضية لأن الواحد لا يتبعض‏

(وصل في توقيت المسح على الرأس)

[تكرار مسح الرأس هل هو فضيلة]

بقي من تحقيق هذه المسألة التوقيت في المسح على الرأس هل في تكراره فضيلة أم لا فمن الناس من قال إنه لا فضيلة فيه ومنهم من قال إن فيه فضيلة وهذا يستحب في جميع أفعال الوضوء في جملة أعضائه سواء غير أنه يقوى في بعض الأعضاء ويضعف في بعض الأعضاء أعني التكرار ولا خلاف في وجوب الواحدة إذا عمت العضو

[لا تكرار في العالم للاتساع الإلهي‏]

فأما مذهبنا في الأصل فلا تكرار في العالم للاتساع الإلهي فنمنع هذا اللفظ ولا نمنع وجود الأمثال بالتشابه الصوري فنعلم قطعا أن الحركات يشبه بعضها بعضا في الصورة وإن كانت كل واحدة منها ليست عين الأخرى فمذهبنا أن ننظر حكم الشارع في ذلك فإن عدد بالأمثال عددنا بالأمثال كما نقول عقيب الصلاة سبحان الله ثلاثا وثلاثين فمثل هذا إلا نمنعه فقد يقع التعدد في عمل الوضوء تأكيد الإزالة حكم الغفلات السريعة الحكم في الإنسان فعلى فهذا يكون في التكرار فضيلة فإن تيقن بالحضور فلا فضيلة فإن الفضل هو الزائد وما زاد هذا المتوضئ حكما بوجود غفلة أو سهو فيكرر فلم تصح الزيادة ولكن الصحيح عندنا إن التكرار فيه فضيلة لأنه نور على قدر ما حده الشارع المبين للاحكام وقد ورد في الكتاب والسنة في تشبيه نور الله بالمصباح في الزجاجة في المشكاة الآية بكمالها وقال في آخرها نُورٌ عَلى‏ نُورٍ أي ورد في نور على نور كالدليلين والثلاثة على المدلول الواحد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء على الوضوء نُورٌ عَلى‏ نُورٍ

ولا فرق بين ورود الوضوء على الوضوء وبين ورود الغرفة الثانية الواردة على الأولى في الوضوء وتكرار العمل من العامل يوجب تكرار الثواب والتجلي فأما في الأعضاء كلها فالثابت التكرار وما كان الخلاف إلا في الرأس والأذنين والرجلين وقد أومأنا إلى ما ينبغي في ذلك‏

(باب مسح الأذنين وتجديد الماء لهما)

[اختلاف الفقهاء في حكم مسح الأذنين‏]

اختلف الناس في مسح الأذنين وتجديد الماء لهما فمن قائل إنه سنة ومن قائل إنه فرض ومن قائل بتجديد الماء لهما ومن قائل لا يجدد لهما الماء وهل تفرد بالمسح وحدها أو تمسح مع الرأس خاصة أو تمسح مع الوجه خاصة أو يمسح ما أقبل منهما مع الوجه وما أدبر منهما مع الرأس ولكل حالة من هذه الأحوال قائل بها

(وصل في حكمهما في الباطن)

[استماع القول الأحسن: ذكر الله في القرآن‏]

فأما حكمهما في الباطن فإنه عضو مستقل يجب تجديد الماء له فيمسح باستماع القول الأحسن ولا بد ويقع التفاضل في الأحسن فثم حسن وأحسن وأعلاه حسنا ذكر الله بالقرآن فيجمع بين الحسنين فليس أعلى من سماع ذكر الله‏

من القرآن مثل كل آية لا يكون مدلولها إلا الله هذا أعني بذكر الله من القرآن وما كل آي القرآن يتضمن ذكر الله فإن فيه الأحكام المشروعة وفيه قصص الفراعنة وحكايات أقوالهم وكفرهم وإن كان فيه الأجر العظيم من حيث ما هو قرآن بالإصغاء إلى القارئ إذا قرأه أو بإصغاء الإنسان إلى نفسه إذا تلاه ولكن ذكر الله في القرآن أحسن وأتم من حكاية قول الكافر في الله ما لا ينبغي له في القرآن أيضا

[ظاهر الأذن وباطنه ومحكم القرآن ومتشابهه‏]

وأما ما أقبل من ظاهر الأذن وما أدبر فهو ما ظهر من حكم ذلك الذكر من القرآن وما بطن وما أسر منه وما أعلن وما فهم منه وما جهل فسلم كلمات المتشابه في حق الله إلى الله فهي مما أدبر من باطن الأذن فتسلم إلى مراد الله تعالى فيها حين تسمعها الأذن تتلى وما علم كالآيات المحكمات في حق الله وما تدل عليه من الأكوان فهي مما أقبل من ظاهر الأذن فيعلم مراد الله بها فيكون الحكم بحسب ما تعلق به العلم فاعمل بحسب ما أشرنا به إليك في هذا التفصيل والأولى أن يكون حكم الأذنين حكم المضمضة والاستنشاق والاستنثار

(باب غسل الرجلين)

[طهارة الرجلين بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير]

اعلم أن صورتها في توقيت الغسل بالأعداد صورة الرأس وقد ذكرنا ذلك اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء واختلفوا في صورة طهارتها هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما فأي شي‏ء فعل منهما فقد سقط عنه الآخر وأدى الواجب هذا إذا لم يكن عليهما خف ومذهبنا التخيير والجمع أولى وما من قول إلا وبه قائل فالمسح بظاهر الكتاب والغسل بالسنة ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها

(وصل حكم الرجلين في الباطن‏

[ما تطهر به الأقدام‏]

وأما حكم ذلك في الباطن) فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الاقدام فلتكن طهارتك رجليك بما ذكرناه وأمثاله ولا تمش بالنميمة بين الناس ولا تَمْشِ في الْأَرْضِ مَرَحاً واقْصِدْ في مَشْيِكَ ومن هذا ما هو فرض أعني من هذه الأفعال بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض وهو مشيك فيما ندبك الشرع إلى السعي فيه وما أوجبه عليك فالواجب عليك نقل الاقدام إلى مصلاك والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك مثل نقل الاقدام إلى المساجد من قرب وبعد فإن ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجد إلا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى‏

[ما يقتضي الخصوص والعموم من الأفعال‏]

واعلم أن الغسل يتضمن المسح بوجه فمن غسل فقد اندرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس ومن مسح فلم يغسل إلا في مذهب من يرى وينقل عن العرب إن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال والغسل فيما يقتضي العموم هذه هي الطريقة المثلى ولهذا ذهبنا إلى التخيير بحسب الوقت فإنه قد يكون يسعى إلى فضيلة خاصة في حاجة معينة لشخص بعينه فذلك بمنزلة المسح وقد يسعى إلى الملك في حاجة تعم جميع الرعايا وحاجات فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فهذا بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح‏

(بيان وإتمام)

[مذهبنا أن الفتح في اللام لا يخرجه عن الممسوح‏]

وأما القراءة في قوله وأَرْجُلَكُمْ بفتح اللام وكسرها من أجل حرف الواو على أن يكون عطفا على الممسوح بالخفض وعلى المغسول بالفتح فمذهبنا أن الفتح في اللام لا يخرجه عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو مع وواو المعية تنصب تقول قام زيد وعمرا واستوى الماء والخشبة وما أنت وقصعة من ثريد ومررت بزيد وعمرا تريد مع عمرو وكذلك من قرأ وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ بفتح اللام فحجة من يقول بالمسح في هذه الآية أقوى لأنه يشارك القائل بالغسل في الدلالة التي اعتبرها وهي فتح اللام ولم يشاركه من يقول بالغسل في خفض اللام فمن أصحابنا من يرجح الخاص على العام ومنهم من يرجح العام على الخاص كل ذلك مطلقا

[المشي مع الحق بحكم الحال‏]

ومذهبنا نحن على غير ذلك إنما نمشي مع الحق بحكم الحال فنعمم حيث عمم ونخصص حيث خصص ولا نحدث حكما فإنه من أحدث حكما فقد أحدث في نفسه ربوبية ومن أحدث في نفسه ربوبية فقد انتقص من عبوديته بقدر تلك المسألة وإذا انتقص من عبودته بقدر ذلك ينقص من تجلى الحق له وإذا انتقص من تجلى الحق له انتقص علمه بربه وإذا انتقص علمه بربه جهل منه سبحانه وتعالى بقدر ما نقصه فإن ظهر لذلك الذي نقصه حكم في العالم أو في عالمه لم يعرفه فلهذا كان مذهبنا أن لا نحدث حكما جملة واحدة

(باب في ترتيب أفعال الوضوء)

[اختلاف العلماء في ترتيب أفعال الوضوء]

اختلف العلماء في ترتيب أفعال الوضوء على ما ورد في نسق الآية فمن قائل بوجوب الترتيب ومن قائل بعدم وجوبه وهذا في الأفعال المفروضة وأما في ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فاختلافهم في ذلك بين سنة واستحباب‏

(وصل في حكم ذلك في الباطن)

وأما حكم ذلك في الباطن فلا ترتيب إنما تفعل من ذلك بحسب ما تعين عليك في الوقت فإن تعين عليك ما يناسب رأسك فعلت به وبدأت به وكذلك ما بقي وسواء كان ذلك في السنن من الأفعال أو في الفرائض فالحكم للوقت‏

(باب في الموالاة في الوضوء)

[اختلاف الفقهاء في الموالاة في الوضوء]

فمن قائل إن الموالاة فرض مع الذكر وعدم العذر ساقط مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت ومن قائل إن الموالاة ليست بواجبة وهذا كله من حقيقة في نسق الآية فقد يعطف بالواو في الأشياء المتلاحقة على الفور وقد يعطف بها الأشياء المتراخية وقد يعطف بها ويكون الفعلان معا وهذا لا يسوغ في الوضوء إلا أن ينغمس في نهر أو يصب عليه أشخاص الماء في حال واحدة لكل عضو(وصل الموالاة في الباطن)

[مذهبنا في الموالاة أنها ليست بواجبة]

ومذهبنا في حكم الموالاة في الباطن أنها ليست بواجبة وذلك مثل الترتيب سواء فإنا نفعل من ذلك بحسب ما يقتضيه الوقت وقد ذكرنا نظير هذه المسألة في رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار

[أعمال الطريق بحسب الوقت وما يعطي‏]

فأعمالنا في هذه الطريق بحسب حكم الوقت وما يعطي فإن الإنسان قد كتبت عليه الغفلات فلا يتمكن له مع ذلك الموالاة ولكن ساعة وساعة فليس في مقدور البشر مراقبة الله في السر والعلن مع الأنفاس فالموالاة على العموم لا تحصل إلا أن يبذل المجهود من نفسه في الاستحضار والمراقبة في جميع أفعاله قال تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ والمراد بها أنهم كلما جاء وقتها فعلوها وإن كان بين الصلاتين أمور فلهذا حصل الدوام في فعل خاص مربوط بأوقات متباينة وأما مع استصحاب الأنفاس فذلك من خصائص الملإ الأعلى الذين يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فهذه هي الموالاة وإن حصلت لبعض رجال الله فنادرة الوقوع‏

[كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يذكر الله على كل أحيانه‏]

وأما

قول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه‏

فإن كانت نقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نشك فيه وإن كانت أرادت بذلك أن أفعاله الظاهرة كلها ما وقع منه مباح قط وأنه لم يزل في واجب أو مندوب فذلك ممكن وهو ظاهر من مرتبته فإنه معلم أمته بحركاته وسكناته للاقتداء فهو ذاكر على الدوام وأما باطنه عليه السلام فلا علم لها به إلا بإخباره صلى الله عليه وسلم ومع هذا يتصور تحصيله عندنا مع التصرف في المباح مع حضوره فيه أنه مباح وكذا إذا أحضر حكم الشرع في جميع حركاته وسكناته بهذه المثابة فيكون ممن حصل الموالاة في عبادته انتهى الجزء الحادي والثلاثون‏

(باب في المسح على الخفين)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

[اختلاف العلماء في المسح على الخفين‏]

أما المسح على الخفين فاختلف علماء الشريعة فيه فمن قائل بجوازه على الإطلاق ومن قائل بمنع جوازه على الإطلاق كابن عباس ورواية عن مالك ومن قائل بجواز المسح عليهما في السفر دون الحضر

(وصل في حكم الباطن فيه)

[الطهارة تنزيه والحق هو المقصود بالتنزيه‏]

فأما حكم الباطن في المسح على الخفين فاعلم أنه أمر يعرض للشخص يشق على من عرض له انتزاعه كما يشق انتزاع الخف على لابسه فانتقل حكم الطهارة إليه فمسح عليه ولما كانت الطهارة تنزيها وكان الحق هو الذي يقصده المنزه بالتنزيه كما قال تعالى سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ والعزة المنع فذكر أنه امتنعت ذاته أن تكون محلا لما وصفه به الملحدون‏

[تنزيه العلماء بالله إنما هو علم لا عمل‏]

فالحق منزه الذات لنفسه ما تنزه بتنزيه عبده إياه فتنزيه العلماء بالله الحق سبحانه إنما هو علم لا عمل إذ لو كان التنزيه من الخلق إلههم عملا لكان الله الذي هو المنزه سبحانه محلا لأثر هذا العمل فتفطن لهذه الإشارة فإنها في غاية اللطف والحسن فهو سبحانه لا يقبل تنزيه عباده من حيث إنهم عاملون فإنه لا يرى التنزيه عملا إلا الجاهل من العباد فإن العالم تراه علما وإذا تكلم به إنما تكلم به على جهة التعريف مما هو الأمر عليه في نفسه الذي هو قوله وذكره فأثر عمله إنما

هو في علمه بتنزيه خالقه فأخرجه بالقول والذكر من القوة إلى الفعل فربما أثر ذلك في نفوس السامعين ممن كان لا يعتقد في الله أنه بذلك النعت من التنزيه‏

[العبد حجاب على الحق‏]

فالعبد حجاب على الحق فإن ظاهر الآثار إنما تدرك في العموم وتنسب للأسباب التي وضعها الحق ولهذا يقول العبد فعلت وصنعت وصمت وصليت ويضيف إلى نفسه جميع أفعاله كلها لحجابه عن خالقها فيه ومنه ومجريها فكما صار الخف حجابا بين المتوضئ وبين إيصال الوضوء إلى الرجل وانتقل حكم الطهارة إلى الخف كذلك تنزيه الإنسان خالقه وهو الطهارة والتقديس لما لم يتمكن في نفس الأمر إيصال أثر ذلك التنزيه إلى الحق لأنه منزه لذاته انتقل حكم أثر ذلك التنزيه إلى الإنسان المنزه الذي هو حجاب على خالقه من حيث إن للتنزيه العملي أثرا في المنزه وقبله الإنسان كما قبل الخف الطهارة بالمسح المشروع فيكون العبد هو الذي نزه نفسه عن الجهل الذي قام بنفس الجاهل الذي نسب إلى الحق ما لا يليق به ولا تقبله ذاته‏

[مشهد من قال: سبحاني‏]

يقول الله في الخبر الصحيح إنه رجل العبد التي يسعى بها والحس إنما يبصر العبد يسعى برجله فلما لبس الخف وهو عين ذات العبد انتقل حكم الطهارة إليه إنما هي أعمالكم ترد عليكم‏

فمتعلق الحكم الخف ومن هذا الباب كان جواز المسح على الإطلاق سفرا وحضرا فالحضر منه هو التنزيه الذي يعود عليك فتقول سبحاني في هذه الحالة كما نقل عن رجال الله فكان مشهد من قال سبحاني هذا المقام الذي ذكرناه والسفر هو التنزيه الذي ينتقل من تلفظك به في التعليم إلى سمع المتعلم السامع فيؤثر في نفس السامع حصول ذلك العلم فتطهر محله‏

[قرائن الأحوال تعين ما كان مبهما بالاشتراك‏]

من الجهل الذي كان عليه في تلك المسألة هذا القدر من انتقاله من العالم المعلم إلى المتعلم يسمى سفرا لأنه أسفر له بهذا التعليم بما هو الأمر عليه فطهر محله ومن هذا الباب أيضا إن لباس الخف وما في معناه من جرموق وجورب مما يلبس ويستر حد الوضوء من الرجل عرفا وعادة ولما كان من أسماء الرجل في اللسان القدم كان هذا مما يقوي القدمية في القدم إذ كان القدم يقال في اللسان بالاشتراك إذ هو عبارة عن الثبوت يقال لفلان في هذا الأمر سابقة قدم يريد أن له أساسا ثابتا قديما في هذا الأمر كما يقال في الرجل بالاشتراك أيضا أعني إطلاق هذه اللفظة في اللسان يقال رجل من جراد أي قطعة وجماعة من جراد فإذا قال قائل إن الرجل يسخن بالخف يعلم قطعا أنه يريد العضو الخاص المعروف فقرائن الأحوال ودلالات الألفاظ بالصفات تعين ما كان مبهما بالاشتراك فانتقل حكم الطهارة إلى الخف بعد ما كان متعلقها الرجل ولكن إذا كان ملبوسا فيطهر مما يمكن أن يتعلق به مما يمنع من ذلك حكما وعينا

[نسبة القدم والهرولة إلى الله‏]

وكذلك لما نسب القدم إلى الله تعالى في حديث يضع الجبار فيها قدمه ربما وقع في نفس بعض العقلاء أن نسبة القدم إلى الله تعالى ما هو على حد ما ينسب إلى الإنسان أو لكل ذي رجل وقدم وأن المراد به مثلا أمر آخر وغفلوا عن أقدام المتجسدين من الأرواح فأزال الله سبحانه هذا التوهم من القائل به بما نسب إلى نفسه من الهرولة التي هي الإسراع في المشي مع تقدم وصف القدم فالحق بمن يمشي على رجلين لا بمن يمشي على البطن مع التحقق ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ لا بد من ذلك‏

[الله هو المجهول الذي لا يعرف‏]

فلا نصفه ولا ننسب إليه إلا ما نسبه إلى نفسه أو وصف نفسه به فما نسب الهرولة إليه إلا ليعلم أنه أراد القدم الذي يقبل صفة السعي وحكمه على ما يليق بجلاله لأنه المجهول الذي لا يعرف ولا يقال هو النكرة التي لا تتعرف قال تعالى ولا يُحِيطُونَ به عِلْماً

[معقولية القدم والهرولة]

وما نقول أراد بنسبة القدم ما عينته المنزهة على زعمها واقتصرت عليه فجاء بالهرولة لإثبات القدمية وأقامه مقام الخف للقدم في إزالة الاشتراك المتوهم فانتقل التنزيه إلى الهرولة من القدم وقد كان القائل بالتنزيه مشتغلا بتنزيه القدم فلما جاءت الهرولة انتقل التنزيه إليها كما انتقل حكم طهارة القدم إلى الخف فنزه العبد ربه عن الهرولة المعتادة في العرف وإنها على حسب ما يليق بجلاله سبحانه فإنه لا يقدر أن لا يصفه بها إذ كان الحق أعلم بنفسه وقد أثبت لنفسه هذه الصفة فمن رد نسبتها إليه فليس بمؤمن ولكن الذي يجب عليه أن يرد العلم بها إلى الله أعني علم النسبة وأما معقولية الهرولة فما خاطب أهل اللسان إلا بما يعقلونه فالهرولة معقولة وصورة النسبة مجهولة وكذلك جميع ما وصف به نفسه مما توصف به المحدثات‏

[جواز انتقال الطهارة من محل إلى آخر]

وليس الغرض مما ذكرنا إلا جواز انتقال الطهارة من محل إلى محل آخر بضرب من المناسبة والشبه وإنما قلنا بالجواز لا بالوجوب فإن الوجوب يناقض الجواز ولصاحب الخف أن يجرد خفه ويغسل رجليه شرعا أو يمسحها بالماء على ما يقتضيه مذهبه في ذلك ولا مانع له من ذلك وكذلك هذا العاقل قد يبقى على تنزيهه للقدم ولا ينتقل إلى الهرولة

ويزيلها عن هذه القدم بحكم ما يسبق إلى الفهم إذ أبين إن القدم ما تشبه نسبتها إلى الحق نسبة أقدامنا إلينا من كل الوجوه فلهذا لم يتعلق الوجوب بالمسح وكان حكمه الجواز

(وصل) وأما من أجازه سفرا ومنعه في الحضر

فذلك إذا كان التنزيه عملا فلا أثر له إلا في المتعلم السامع القابل فيسافر التنزيه من العالم المعلم إلى المتعلم على راحلة التلفظ والكلام بعبارة أو إشارة من المعلم إلى المتعلم‏

(وصل) وأما من منع جوازه على الإطلاق‏

فإن حقيقة التنزيه إنما هي لله سبحانه فإنه المنزه لذاته والعبد لا يكون منزها أبدا ولا يصح وإن تنزه عن شي‏ء ما لم يتنزه عن شي‏ء آخر فمن حقيقته أنه لا يقبل التنزيه على الإطلاق وإذا كان بهذه الصفة لا يجوز تنزيهه فإنه خلاف العلم والأمور العارضة لا أثر لها في الحقائق فإن قبول العبد لآثار التنزيه يدل على عدم التنزيه عن قبول الآثار فيه فهذا وجه منع جواز المسح على الخف وما في معناه على الإطلاق إن فهمت‏

(وصل وتتميم) وأما الإشارة بالخفين‏

فإن المراد بهما النشأتان نشأة الجسم ونشأة الروح ولكل نشأة ما يليق بها من الطهارة فافهم‏

(باب تحديد محل المسح من الخف وما في معناه)

اختلف علماء الشريعة في تحديد المسح على الخف‏

فمن قائل إن القدر الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وما زاد على ذلك فمستحب وهو مسح أسفل الخف‏

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف‏

ومن قائل بوجوب مسح ظهورهما وبطونهما ومن قائل بوجوب مسح ظهورهما فقط ولا يستحب صاحب هذا القول مسح بطونهما ومن قائل إن الواجب مسح باطن الخف ومسح الأعلى مستحب وهو قول أشهب‏

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

[التنزيه الذي هو الطهارة متعلقة إما الحق وإما العبد]

اعلم أن التنزيه المعبر عنه هنا بطهارة المسح متعلقة إما الحق كما قدمنا وإما العبد الذي نزهة والقسمة منحصرة فما ثم إلا عبد ورب وخالق ومخلوق ولنا في هذه المسألة لفظة أعلى وأسفل وصفة العلو لله تعالى لأنه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ لذاته قال تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وما في القرآن أقرب نسبة إلى مسح أعلى الخف من هذه الآية والسفل لنا وكذلك أيضا ظاهر الخف وباطنه أعني هاتين اللفظتين قد يكون الحق له حكم الظاهر والباطن وقد يكون حكم الظاهر له في خرق العوائد وحكم الباطن له في نفس العوائد وهي أكثر الآيات الدالة على الله لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏

[مراتب التنزيه التنزيه الأعلى سبحانه‏]

فتارة يعلق التنزيه بالأعلى سبحانه وتعالى حقيقة وهو حد الواجب من ذلك ويستحب إطلاق التنزيه على العبد من حيث إن عمله لذلك يعود عليه وهذا على مذهب من يرى أن الواجب مسح أعلى الخف ويستحب مسح أسفله‏

[التنزيه بالحق ظاهرا وباطنا]

وتارة يعلق التنزيه بالحق سبحانه ظاهرا وباطنا وهو الذي لا يرى في الوجود إلا الله لغلبة سلطان المشاهدة والتجليات عليه فيرى الحق ظاهرا وباطنا فلا يقع منه تنزيه إلا على الحق سبحانه والتنزيه نسبة عدمية لا وجودية وهو الذي يوجب مسح ظهور الخفين وبطونهما

[التنزيه بالله تعالى لكماله في ذاته‏]

وتارة يعلق التنزيه بالله تعالى لكماله في ذاته ولا يستحب تنزيه الخلق للنقص الذاتي الذي هو له فيقع في الكذب إن نزهة فيرى أنه لو تنزه الممكن يوما ما من جهة ما لصفة كمال هو عليها لكان من حيث تلك الصفة غنيا عن الله ومقاوما له ومحال على الخلق أن يكونوا على صفة يكون لهم بها الغني عن الله فإنهم من جميع الوجوه فقراء إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فمنع من استحباب مسح أسفل الخف وقال ما ثم منزه إلا الله العلي الظاهر إلى عباده بنعوت الجلال وهذا كما قلنا مذهب من يرى مسح أعلى الخف ولا يستحب مسح أسفله‏

[وجوب التنزيه من الاسم الباطن‏]

وتارة يعلق التنزيه أعني وجوبه من اسمه الباطن ويقول إن الباطن محل يبعد العثور على ما يستحقه من نعوت الجلال لبطونه فيكون الواجب تنزيه الحق في اسمه الباطن من أثر الحجاب الذي حكم عليه إن يكون باطنا لا يدرك والله أعلى وأجل أن يحوطه حجاب فوجب تنزيهه من حيث اسمه الباطن فهذا وجه من أوجب مسح الباطن من الخف كأشهب واستحب مسح أعلاه وهو الاسم الظاهر

[استحباب التنزيه من الاسم الظاهر]

فيقول واستحب تنزيه الحق في اسمه الظاهر وهو تجليه في الصورة لعباده فينزهه عن التقييد بها ولكن التنزيه الذي لا يخرجه عن العلم أنه عين تلك الصورة فإنه أعلم بنفسه من العقل به ومن كل عالم سواه به وقد قال عن نفسه إنه هو الذي يتجلى لعباده في تلك الصورة كما ذكره مسلم في صحيحه‏

فيكون تنزيهه عند ذلك أنه لا يتقيد بصورة أي لا تقيده صورة بل يتجلى في أي صورة يظهر

بها لعباده ومن هذه الحقيقة التي هو عليها في نفسه ذكر لنا في خلقنا بعد تسويتنا وتعديلنا في أي صورة ما شاء ركبنا كما أنه في أي صورة شاء تجلى لعباده وهنا سر إلهي نبهك عليه لتعرفه به فنزهه صاحب هذا المذهب في ظهوره استحبابا عن دوام التجلي في تلك الصورة بالإقامة فيها في عينك فافهم فهذا حكم الباطن في تحديد المحل‏

(باب في نوع محل المسح وهو ما يستر به الرجل من خف أو جورب)

[اختلاف الفقهاء في مسح على الجوربين‏]

اعلم أن القائلين بالمسح على الخفين متفقون على المسح عليهما بلا شك واختلفوا في المسح على الجور بين فمن قائل بالمنع على الإطلاق ومن قائل بالجواز على الإطلاق ومن قائل بالجواز إذا كان على صفة خاصة فأما إن يكون من الكثافة والثخانة بحيث أن لا يصل ماء المسح إلى الرجل أو يكون مبطنا بجلد يجوز المشي فيه أي يمكن المشي فيه‏

(وصل حكمه في الباطن)

[العبد حجاب دون خالقه‏]

فأما حكم الباطن في ذلك فقد تقدم في الخوف وبقي حكم الجورب فالمقرر إن الجورب مثل الخف في الصفة الحجابية فإن العبد حجاب دون خالقه ولهذا ورد من عرف نفسه عرف ربه فإنه الدليل عليه والدليل والمدلول وإن ارتبطا بالوجه الخاص فهما ضدان لا يجتمعان‏

[الولي إذا رؤي ذكر الله‏]

وقد قلنا فيما تقدم إن الخف هو أدل على الرجل في إزالة الاشتراك من لفظة الرجل التي تطلق عليه وكذلك الهرولة وقد مضى ذلك إلا أن الجورب وإن ستر الرجل لا يقوى قوة الخف للتخلل الذي فيه فإن الماء ينفذ ويتخلل مسامه سريعا والخف ليس كذلك وحكمه في الباطن أن من العباد عباد الله من يكون في الدلالة على الله أقوى من غيره فهو بمنزلة الجورب كما ثبت في الأثر عن الله في صفة أولياء الله‏

حدثني غير واحد عمن حدثه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من أولياء الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين إذا رؤوا ذكر الله ذكره الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء له‏

وذلك لما قلناه مما يرى عليهم من قوة الدلالة على الله تعالى من الاستهتار بذكره سبحانه وما هم عليه من الذلة والطاعة والافتقار مع الأنفاس إلى الله فإذا أراد الناس أن ينزهوهم لم يتمكن لهم تنزيههم إلا بتنزيه الله فإنهم ما يذكرونهم إلا بالله لما تعطيهم أحوالهم الصادقة مع الله‏

[الملامتي خف أو جورب مبطن بجلد]

فإن كان الخف مبطنا بجلد فهو الملامي الذي يستر نفسه وحاله مع الله عن العالم السفلي أن يدركوا مرتبة ولايته عند الله كما يستتر الجورب عن الأرض أن تدركه وتصيبه بالجلد الذي حال بين الأرض وبينه وهو الصفة التي استتر بها هذا الملامي من المباحات عن العالم الأسفل المحجوب فلم يدركوا منه إلا تلك الصفة التي لم يتميز بها عن عامة المؤمنين وهو من خلف تلك الصفة في مقام الولاية مع الله وبقي أعلى الجورب من جانب الأعلى مع الله سبحانه بلا حائل بينه وبين ربه عز وجل‏

[الاعتبار الجواز من الصورة إلى ما يناسبها في ذاتك‏]

وقد فتحت لك باب الاعتبار شرعا وهو الجواز من الصورة التي ظهر حكمها في الحس إلى ما يناسبه في ذاتك أو في جناب الحق مما يدل على الحق هذا معنى الاعتبار فإنه من عبرت الوادي إذا قطعته وجزته‏

(باب في صفة الممسوح عليه)

[الاختلاف في جواز المسح على الخف المنخرق‏]

أجمع من يقول بجواز المسح على جواز المسح على الخف الصحيح واختلفوا في المخرق فمن قائل بجوازه إذا كان الخرق يسيرا من غير حد ومن قائل بتحديد الخرق اليسير بثلاثة أصابع ومن قائل بجوازه ما دام ينطلق عليه اسم الخف وإن تفاحش خرقه وهو الأوجه عندي ومن قائل بمنع المسح إذا كان الخرق في مقدم الخف وإن كان يسيرا والذي أقول به إن هذه المسألة لا أصل لها ولا نص فيها في كتاب ولا سنة فكان الأولى إهمالها وأن لا نشتغل بها وإن الحق في ذلك إذ وقد وقع في ذلك من الخلاف بين علماء الشريعة ما أحوجنا إلى الكلام فيها وإن الحق في ذلك عندنا إنما هو مع من قال يجوز ما دام يسمى خفا

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

[الخافي هو الظاهر]

وهو أن نقول إنما سمي الخف خفا من الخفاء لأنه يستر الرجل مطلقا فإذا انخرق وظهر من الرجل شي‏ء مسح على ما ظهر منه ومسح على الخف وذلك ما دام يسمى خفا لا بد من هذا الشرط وفيه سر عجيب للفطن المصيب إن الخافي هو الظاهر أيضا يقول إمرؤ القيس‏

خفاهن من أنفاقهن‏

أي أبرزهن وأظهرهن‏

[ظاهر الشريعة ستر على حقيقة حكم التوحيد]

وإنما قلنا بمسح ما ظهر لأنا قد أمرنا في كتاب الله بمسح الأرجل فإذا ظهر مسحناه وأما في الباطن فظاهر الشريعة ستر على حقيقة حكم التوحيد بنسبة كل شي‏ء إلى الله فالطهارة في الشريعة متعلقها وهي أن تصحبها التوحيد بأن تراها حكم الله في خلقه لا حكم المخلوق مثل السياسات الحكمية

[الشرع حكم الله لا حكم العقل‏]

فالشرع حكم الله لا حكم العقل كما

يراه بعضهم فطهارة الشريعة رؤيتها من الله الواحد الحق ولهذا لا ينبغي لنا أن نطعن في حكم مجتهد لأن الشرع الذي هو حكم الله قد قرر ذلك الحكم فهو شرع الله بتقريره إياه وهي مسألة يقع في محظورها أصحاب المذاهب كلهم لعدم استحضارهم لما نبهنا عليه مع كونهم عالمين به ولكنهم غفلوا عن استحضاره فأساءوا الأدب مع الله في ذلك حين فاز بذلك الأدباء من عباد الله فمن خطأ مجتهدا بعينه فقد خطأ الحق فيما قرره حكما

[تخطئة القول بنسبة الأفعال كلها إلى الله من جميع الوجوه‏]

فإذا انخرق الشرع فظهر في مسألة ما حكم من أحكام التوحيد مما تزيل حكم الشرع مطلقا انتقل الحكم الطهارة ذلك التوحيد المؤثر في إزالة حكم الشريعة كمن ينسب الأفعال كلها إلى الله من جميع الوجوه فلا يبالي فيما يظهر عليه من مخالفة أو موافقة فمثل هذا التوحيد يجب التنزيه منه لظهور هذا الأثر فإنه خرق للشريعة ورفع لحكم الله كما لا يجوز المسح مع زوال اسم الخف فإن كان الخرق يبقى اسم الخف عليه كان الحكم كما قررناه من المسح على الخف ومسح ما ظهر من الرجل وهو أن يبين في ذلك التوحيد المعين في هذه المسألة الوجه المشروع وهو أن نقول والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فالأعمال خلق لله مع كونها منسوبة إلينا فلم ينسبها من جميع الوجوه فلم يؤثر في المسح ويكون الحكم في ذلك كما قررناه‏

[ظهور التوحيد في ثلاث منازل‏]

وأهل طريقنا اختلفوا في هذه المسألة اختلافا كثيرا على صورة ما اختلف فيه أهل المسح على الخف سواء فأما من حده بثلاثة أصابع فراعى ظهور التوحيد في ثلاث منازل وهو حكم الشرع في الإنسان في معناه وفي حسه وفي خياله فإذا عم التوحيد هذه الثلاثة لم يجز الأخذ به وانتقل إلى مسح الرجل أو غسله كما ينتقل تنزيه الإنسان نفسه عن مثل هذا التوحيد حيث أزال حكم الشرع منه فحكم حكم من زال عنه اسم الخف‏

(باب في توقيت المسح)

[اختلاف الفقهاء في التوقيت المسح‏]

اختلف في ذلك فمن قائل بالتوقيت فيه ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم ومن قائل بأن لا توقيت وليمسح ما بدا له ما لم يقم مانع كالجنابة

(وصل حكمه في الباطن)

[معنى مسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن‏]

فأما الحكم في ذلك في الباطن على مذهب القائل بالتوقيت فقد قررنا في المسح على الخف في باب العالم والمتعلم أن ذلك سفر حيث انتقل الأمر من المعلم إلى المتعلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم الناس شرائعهم كرر الكلمة ثلاث مرات حتى تفهم عنه لأنه مأمور بالبيان والإبلاغ هذا معنى مسح المسافر ثلاثا

[توقيت الحاضر بيوم وليلة]

وأما توقيت الحاضر بيوم وليلة فإنه ليس له في نفسه إلا قيام ذلك الأمر فيعلمه فلا يعيد عليه لنفسه لأنه قد ظهر له وهو من نفسه على يقين وما هو على يقين من قبول غيره لذلك عند التعليم فيكرره ثلاث مرات ليتيقن أن قد فهم عنه‏

[معنى عدم التوقيت في المسح‏]

ومن لم يقل بالتحديد نظر إلى فطر المتعلمين فمنهم من يفهم بأول مرة ومنهم من لا يفهم إلا بعد تفصيل وتكرار المرة بعد المرة حتى يفهم فلا يوقت عددا بعينه في حال تعليمه غيره الذي هو بمنزلة السفر ولا ينظره في نفسه الذي هو بمنزلة الحضر فإنه في نفسه قد يمكن أن يتصور فيما ظهر له أنه ربما يكون شبهة فيحقق النظر فيه مرارا فلا توقيت‏

[الجنابة هي الغربة والجنيب هو الغريب‏]

وأما حكم الجنابة في إزالة الخف فالجنابة هي الغربة والجنيب الغريب فإذا وقع في القلب أمر غريب يقدح في الشرع جرد النظر في ذلك بالعقل دون الاستدلال بالشرع مثل أن يخطر له خاطر البرهمى المنكر للشريعة فلا يقبل دليل الشرع على إبطال هذا القول الذي خطر له فإنه محل النزاع فلا بد أن ينزع من الاستدلال بالشرع إلى الاستدلال بما تعطيه أدلة النظر وسواء وقع ذلك له كالحضر أو لغيره كالسفر كما إن الجنب سواء كان مسافرا أو حاضرا لا بد من إزالة الخف‏

(باب في شرط المسح على الخفين)

[اختلاف الفقهاء في شرط المسح على الخفين‏]

فمن قائل إن من شرط المسح أن يكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء ومن قائل إنه ليس من شرطه إلا طهارتهما من النجاسة وبه أقول والقول الأول أحوط وبقي شرط آخر أن لا يكون خف على خف فمن قائل بجواز المسح عليهما وبه أقول ومن قائل بالمنع وهكذا حكم الجرموق‏

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

[تنزيه الحق عن الهرولة تكذيبه فيما وصف به نفسه‏]

وأما حكم الباطن في ذلك فإن الطهر المعقول في الباطن هو التنزيه كما قررناه عقلا وشرعا وهذه الطهارة الخاصة للرجلين طهارة شرعية وقد وصف نفسه تعالى بأن له الهرولة لمن أقبل إليه يسعى والسعي والهرولة من صفات الأرجل فمن نزه الحق عن الهرولة فقد أكذب الحق فيما وصف به نفسه وإن كان العقل لا يقبل من حيث دليله هذه النسبة إليه تعالى والايمان يقبلها وينفي التشبيه بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ

وبالدليل النظري‏

[الهرولة الإلهية في نظر الإيمان وفي نظر العقل‏]

ولا تتأول الهرولة الإلهية بتضعيف الإقبال الإلهي على العبد وتأكيده ولا غير ذلك من ضروب التأويلات المنزهة وإنما تأول ذلك من تأوله من العقلاء بتضاعف الإقبال الإلهي بجزيل الثواب على العبد إذا أتى إلى ربه يسعى بالعبادات التي فيها المشي كالسعي إلى المساجد والسعي في الطواف وإلى الطواف وإلى الحج وإلى عيادة المرضى وإلى قضاء حوائج الناس وتشييع الجنائز وكل عبادة فيها سعى قرب محلها أو بعد قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ الله‏

[تنزيه الحق هو أن لا يرفع عنه ما وصف به نفسه‏]

فطهر الوضوء وصف الحق بأنه يهرول والطهر الذي هو النظافة هو تنزيه الحق أن لا يرفع عنه ما وصف به نفسه وأما ما لم يصف به نفسه مما هو من نعوت الممكنات فتنزيهه عن أن يوصف بشي‏ء من ذلك هو للعقل فالعقل تحت حكم الشرع إذا نطق الشرع في صفات الحق بما نطق فليس له رد ذلك إن كان مؤمنا ويكون المنطوق والموصوف بتلك الصفة قابلا أي جائز القبول أو مجهول القبول فيلزم العقل قبول الوصف المشروع وإن جهل قبول الموصوف له ولهذا ذهبنا في طهر الرجلين إلى الطهر اللغوي الذي هو النظافة والتنزيه من النجاسة فلا يلزمنا شي‏ء مما يتفرع من هذه المسألة من المسائل على مذهب القائلين بطهر الوضوء وأما إذا لبس خفا على خف فهو وصف الحق نفسه بالهرولة فإن الهرولة صفة للسعي والسعي صفة للرجل فقد يكون السعي بهرولة وقد لا يكون وإذا كان هذا فالهرولة من صفات السعي فبين الهرولة وبين القدم أمر آخر وهو السعي فهو كالخف على الخف وقد تقدم الكلام عليه فافهم‏

(باب في معرفة ناقض طهارة المسح على الخف)

[ما هو متفق عليه وما هو مختلف فيه‏]

الاتفاق على إن نواقضها نواقض الوضوء كلها وسيأتي بابه في هذا الباب فيما بعد اختلف العلماء في نزع الخف هل هو ناقض للطهارة أم لا فمن قائل إن الطهارة تبطل ويستأنف الوضوء ومن قائل تبطل طهارة القدمين خاصة فيغسلهما ولا بد على ما تقدم من الاختلاف في الموالاة ومن قائل لا يؤثر نزع الخف في طهارة القدم وبه أقول وإن استأنف الوضوء فهو أحوط ولا يؤثر في طهارته كلها إلا أن يحدث ما ينقض كما سيأتي‏

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

[سريان التنزيه في الموصوف عموما]

أما حكم الباطن فيمن قال تبطل الطهارة كلها فهو سريان التنزيه في الموصوف فإذا قبل تنزيها بعينه قبل سائر ما يعقل فيه التنزيه كذلك إن بطل تنزيه ما في حق الموصوف سرى البطلان في النعوت كلها نعوت التنزيه‏

[نفي الشرع وصفا معينا عن الحق‏]

ومن قال تبطل طهارة الرجل خاصة هو أن يزيل الشرع عن الحق وصفا ما على التعيين فلا يلزم منه إزالة كل وصف يقتضي التشبيه فإن الله سبحانه نزه نفسه أن يلد وما نزه نفسه عن أن يتردد في الأمر يريد فعله ولا نزه نفسه عن التدبر ولا نزه نفسه عن الغضب‏

[نفي الولادة المادية عن الله لا الاصطفاء الذي هو ولادة روحية]

ومن قائل بأنه على طهره وإن نزع الخف لا حكم له ولا تأثير في الطهارة التي كان موصوفا بها في حال لبسه خفه يقول وإن نزه الحق نفسه عن أن يلد فالوصف له باق فإنه قال لَوْ أَرادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ فأبقى الأمر على حكمه بقوله تعالى لَوْ أَرادَ وهذا مثل قوله تعالى لَوْ لا كِتابٌ من الله سَبَقَ وقوله ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وهذا رد على من يقول إن الإله لذاته أوجد الممكن لا لنسبة إرادة ولا سبق علم والصحيح ما قاله الشارع وإن لم تكن تلك النسبة أمرا وجوديا زائدا فاعلم ذلك‏

(أبواب المياه)

[أحكام المياه ظاهرا وباطنا]

قد تقدم الكلام في أول الباب في الفرق بين ماء الغيث وماء العيون وبينا من ذلك ما فيه غنية فلنذكر في هذه الأبواب حكم ما نزعت إليه علماء الشريعة في الظاهر بما يناسبه من طهارة الباطن‏

(باب في مطلق المياه)

[ما أجمع عليه الفقهاء في أمر المياه وما اختلفوا فيه‏]

أجمع العلماء على إن جميع المياه طاهرة في نفسها مطهرة غيرها إلا ماء البحر فإن فيه خلافا وكذلك أيضا اتفقوا على إن ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا إنه لا يسلب عنه صفة التطهير إلا الماء الآجن فإن ابن سيرين خالف فيه والذي أذهب إليه أن كل ما ينطلق عليه اسم الماء مطلقا فإنه طاهر مطهر سواء كان ماء البحر أو الآجن واتفقوا أيضا على إن الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه أو كل هذه الأوصاف أنه لا تجوز به الطهارة فإن لم يتغير الماء ولا واحد من أوصافه بقي على أصله من الطهارة والتطهير ولم يؤثر ما وقع فيه من النجاسة إلا أني أعرف في هذه المسألة خلافا في قليل الماء يقع فيه قليل النجاسة بحيث أن لا يتغير من أوصافه شي‏ء

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[الماء هو الحياة التي بها تحيا القلوب‏]

فأما حكم الباطن فيما

ذكرناه فاعلم إن الماء هو الحياة التي تحيا بها القلوب فيحصل به الطهارة لكل قلب من الجهل قال تعالى أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها هذا ضرب مثل في الكفر والايمان والعلم والجهل‏

[ماء البحر مخلوق من صفة الغضب الإلهي‏]

وأما ماء البحر الذي وقع فيه الخلاف الشاذ فكونه مخلوقا من صفة الغضب والغضب يكون عنه الطرد والبعد في حق المغضوب عليه والطهارة مؤدية إلى القرب والوصلة فهذا سبب الخلاف في الباطن وأما العلة في الظاهر فتغير الطعم فمن رأى أن الغضب لله يؤدي إلى القرب من الله والوصلة به رأى الوضوء بماء البحر وإليه أذهب‏

[الاتساع في علم التوحيد والتزام الأدب الشرعي‏]

ومن اتسع في علم التوحيد ولم يلزم الأدب الشرعي فلم يغضب لله ولا لنفسه لم ير الوضوء بماء البحر لأنه مخلوق من الغضب فيخاف أن يؤثر فيه غضبا فتقوم به صفة الغضب وحاله لا تعطي ذلك فإن التوحيد يمنعه من الغضب لأنه في نظره ما ثم من يغضب عليه لاحدية العين عنده في جميع الأفعال المنسوبة إلى العالم إذ لو كان عنده مغضوب عليه لم يكن توحيد فإن موجب الغضب إنما هو الفعل ولا فاعل إلا الله وهذه المسألة من أشكل المسائل عند القوم وإن كانت عندنا هينة الخطب لمعرفتنا بمواضع الأدب الإلهي الذي شرعه لنا ثم التخلق بالأخلاق الإلهية ومنها الغضب الذي وصف به نفسه في كتابه فقال تعالى وغَضِبَ الله عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وقوله في آية اللعان والْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْها وقد جاءت السنة بأن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله‏

[الأديب هو الواقف من غير حكم يحكم من له الحكم‏]

فهذا الذي لا يغضب لا يرى إلا الله فيحكم عليه حاله وهذا مقام الحيرة فالويل له إن غضب هنا والويل له إن لم يغضب في الآخرة فهو محجوج بكل حال دنيا وآخرة والغضب لله أسلم وأنجى وأحسن بالإنسان فإن فيه لزوم الأدب المشروع ولما كان الغضب في أصل جبلة الإنسان كالجبن والحرص والشرة بين الحق له مصارف إذا وقع من العبد واتصف به وللتسليم محال ومواضع قد شرعت التزم بها الأدباء حالا وغاب عنها أصحاب الأحوال ولعدم التسليم محال ومواضع قد شرعت فالأديب هو الواقف من غير حكم حتى يحكم الشارع الحق وهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإذا حكم وقف الأديب حيث حكم لا يزيد ولا ينقص‏

[الغضب القائم بالنفس والرحمة الموجودة في القلب‏]

والغضب صفة باطنة في الإنسان قد يكون لها أثر في الظاهر وقد لا يكون فإن الحال أغلب والأحوال يعلو بعضها على بعض في القهر والغلبة على من قامت بهم فإن جمع بين وجود الرحمة على المغضوب عليه في قلبه وحكم الغضب لله في حسه وظاهره فإن أهل طريق الله نظروا أي الطريقين أعلى وأحق فمنا من قال بأن الغضب القائم بالنفس أعلى ومنا من قال وجود الرحمة في القلب وإرسال حكم الغضب لله في الظاهر أعلى‏

[العبد مجبور في اختياره‏]

وليس بيد العبد فيه شي‏ء وإنما العبد مصرف فهو بحسب ما يقام فيه ويرد به وما للإنسان في تركه وعدم تركه للشي‏ء فعل بل هو مجبور في اختياره إذا كان مؤمنا فإنا قيدنا الغضب أن يكون لله وأما الغضب لغير الله فالطبع البشري يقتضي الغضب والرضي‏

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر

الحديث وقد علمنا به حالا وخلقا لله الحمد على ذلك‏

[الماء الحي وما يعترضه من المزاج الطبيعي‏]

وأما حكم الماء الآجن في الباطن دون غيره مما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا فاعلم إن الله سبحانه ما نزه الماء عن شي‏ء يتغير به مما لا ينفك عنه غالبا إلا الماء الآجن فقال تعالى في صفة أهل الجنة الموصوفة بالطهارة فِيها أَنْهارٌ من ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ يقال أسن الماء وأجن إذا تغير وهو الماء المخزون في الصهاريج وكل ماء مخزون يتغير بطول المكث فإذا عرض للعلم الذي به حياة القلوب من المزاج الطبيعي أمر أثر فيه كالعلم بأن الله رحيم فإذا رأى رحمته بعباد الله كما يراها من نفسه من الرقة والشفقة التي يجد ألمها في نفسه فيطلب العبد إزالة ذلك الألم الذي يجده في نفسه برحمة هذا الذي أدركته الرحمة عليه من المخلوقين قام له قيام الرقة به وحمل ذلك على رحمة الله فتغيرت عنده رحمة الله بالقياس على رحمته فلم ينبغ له أن يطهر نفسه لعبادة ربه بمثل هذه الرحمة الإلهية وقد تغيرت عنده وعلة ذلك أن الحق ما وصف نفسه بالرقة في رحمته فالحق يقول لك هنا لا تجعل طبيعتك حاكمة على حياتك الإلهية ومن يرى الوضوء بالماء الآجن لم يفرق فإن الحق قد وصف نفسه في مواضع بما يقتضيه الطبع البشري فيجري الكل مجرى واحدا والأولى ما ذكرناه أولا أن لا نزيد على حكم الله شيئا فيما ذكر عن نفسه‏

[العلم الذي تذوب في اوقيانوسه الشبه‏]

وأما حكم الباطن في العلم القليل إذا وردت عليه الشبه المضلة وأثرت فيه التغير فإنه لا يجوز له استعمال ذلك العلم فإنه غير واثق به وإن كان عارفا بأن لذلك العلم وجها إلى الحق ولكن ليس في قوته لضعف علمه معرفة تعيين ذلك الوجه فيعدل عند ذلك إلى العلم الذي يستهلك الشبه وهو العلم الذي يأخذه عن الايمان من‏

طريق الشرع والعمل به فإنه العلم الواسع الذي لا يقبل الشبه لأنه يقلب عينها بالوجه الحق الذي تحمله فيصرفها في موضعها فتكون علما بعد ما كانت بكونها شبهة جهلا

[نور الإيمان الذي تندرج فيه أنوار العلوم‏]

فإن نور الايمان تندرج فيه أنوار العلوم اندراج أنوار الكواكب في نور الشمس وطريقه واضحة أيضا في رجوع الشبه علما لأنه يزيل حكمها ويريه نور الايمان وجه الحق فيها فيراها عدما والعدم لا أثر له ولا تأثير في الوجود فاعلم ذلك واعلم أن نور الايمان هنا عبارة عن أمر الشرع أي ألزم ما قلت لك وأمرتك به سواء وجدت عليه دليلا عقليا أو لم تجد كالإيمان في الجناب الإلهي بالهرولة والضحك والتبشش والتعجب من غير تكييف ولا تشبيه مع معقولية ذلك من اللسان لكن نجهل النسبة لاستنادنا إلى قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهي أعني هذه الآية أصل في التنزيه لأهله وأصل في التشبيه لأهله‏

(باب في الماء تخالطه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه)

[اختلاف العلماء في الماء تخالطه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه‏]

اختلف علماء الشريعة في الماء تخالطه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه فمن قائل إنه طاهر مطهر سواء كان قليلا أو كثيرا وبه أقول إلا أني أقول إنه مطهر غير طاهر في نفسه لأنا نعلم قطعا إن النجاسة خالطته لكن الشرع عفا عنها ولا أعرف هذا القول لأحد وهو معقول وما عندنا من الشرع دليل إنه طاهر في نفسه لكنه طهور وإن احتجوا علينا

بأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‏ء

قلنا ما قال إنه طاهر في نفسه وإنما قال فيه إنه طهور والطهور هو الماء والتراب الذي يطهر غيره‏

[الماء طاهر في نفسه‏]

فإنا كما قلنا نعلم قطعا إن الماء حامل النجاسة عقلا ولكن الشارع ما جعل لها أثرا في طهارة الإنسان به ولا سماه نجسا فقد يريد الشارع التعريف بحقيقة الأمر وهو أن الماء في نفسه طاهر بكل وجه أبدا لم يحكم عليه بنجاسة أي أن النجاسة ليست بصفة له وإنما أجزاء النجس تجاور أجزاءه فلما عسر الفصل بين أجزاء البول مثلا وبين أجزاء الماء وكثرت أجزاء النجاسة على أجزاء الماء فغيرت أحد أوصافه منع من الوضوء به شرعا على الحد المعتبر في الشرع وإذا غلبت أجزاء الماء على أجزاء النجاسة فلم يتغير أحد أوصافه لم يعتبرها الشارع ولا جعل لها حكما في الطهارة بها فإنا نعلم قطعا إن المتطهر استعمل الماء والنجاسة معا في طهارته الشرعية والحكم للشرع في استعمال الأشياء لا للعقل ولم يرد شرع قط بأنه طاهر ليست فيه نجاسة إلا باعتبار ما ذكرناه من عدم تداخل الجواهر وهو أمر معقول فما بقي إلا تجاورها فاعتبر الشرع تلك المجاورة في موضع ولم يعتبرها في موضع فلذلك لم يجز الطهارة به في الموضع الذي اعتبرها وأجاز الطهارة به في الموضع الذي لم يعتبرها ولم يقل فيه إنه ليس فيه نجاسة

[أحكام المياه الأربعة]

فالحكم في الماء على ما ذكرناه على أربع مراتب إذا خالطته النجاسة أو لم تخالطه حكم بأنه طاهر مطهر وحكم بأنه طاهر غير مطهر وحكم بأنه غير مطهر ولا طاهر وحكم بأنه مطهر غير طاهر فالطاهر المطهر هو الماء الذي لم تخالطه نجاسة والطاهر غير المطهر هو الماء الذي يخالطه ما ليس بنجس بحيث أن يزيل عنه اسم الماء المطلق مثل ماء الزعفران وغيره وحكم بأنه غير طاهر ولا مطهر وهو الماء الذي غيرت النجاسة أحد أوصافه وصاحب هذا الحكم يرد الحديث الذي احتج به علينا فإن الشارع قال لا ينجسه شي‏ء فكيف اعتبره هذا المحتج به هنا ولم يعتبره في الوجه الذي ذهبنا إليه في أنه مطهر غير طاهر ويلزمه ذلك ضرورة وليس عنده دليل شرعي يرده والحكم الرابع مطهر غير طاهر وهو الفصل الذي نحن بسبيله فإنه الماء الذي خالطته النجاسة ولم تغير أحد أوصافه ومن قائل بالفرق بين القليل والكثير فقالوا إن كان كثيرا لم ينجس وإن كان قليلا كان نجسا ولم يحد فيه حدا بل قال بأنه ينجس ولو لم يتغير أحد أوصافه‏

[الاختلاف في حد القليل والكثير من المياه‏]

ثم اختلف هؤلاء في الحد بين القليل والكثير والخلاف في نفس الحد مشهور في المذاهب لا في نص الشرع الصحيح فإن الأحاديث في ذلك قد تكلم فيها مثل حديث القلتين وحديث الأربعين قلة ثم الخلاف بينهم في حد القلة ويتفرع على هذا الباب مسائل كثيرة مثل ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء والبول في الماء الدائم وغير ذلك وللناس في ذلك مذاهب كثيرة ليس هذا الكتاب موضعها فإنا ما قصدنا استقصاء جميع ما يتعلق من الأحكام بهذه الطهارة من جهة تفريع المسائل وإنما القصد الأمهات منها لأجل الاعتبار فيها بحكم الباطن فجردنا في هذا الباب نحوا من ثمانين بابا نذكرها إن شاء الله كلها بابا بابا وهكذا أفعل إن شاء الله في سائر العبادات التي عزمنا على ذكرها في هذا الكتاب من صلاة وزكاة وصيام وحج والله المؤيد لا رب غيره‏

(وصل في حكم الباطن‏

[العلم الإلهي المنزه إذا خالطه علم الصفات الذي يوهم التشبيه‏]

وأما حكم الباطن فيما ذكرناه في هذا الباب) وهو الماء الذي تخالطه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه فهو العلم الإلهي الذي يقتضي التنزيه عن صفات البشر فإذا خالطه من علم الصفات التي تتوهم منها المناسبة بينه وبين خلقه فوقع في نفس العالم به من ذلك نوع تشويش فاستهلك ذلك القدر من العلم بالصفات التي يقع بها الاشتراك في العلم الذي يقتضي التنزيه من جهة دليل العقل ومن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ في دليل السمع فيبقى العلم بالله على أصله من طهارة التنزيه عقلا وشرعا مع كوننا نصفه بمثل هذه الصفات التي توهم التشبيه فإنه ما غيرت أوصافه تعالى فيثبت كل ذلك له مع تحقق ليس كمثله شي‏ء

[الأدلة الكثيرة والشبهة التي تطرأ على واحد منها]

وأما حكم القليل والكثير في ذلك واختلاف الناس في النجاسة إن كان الماء قليلا فالقلة والكثرة في الماء الطهور هو راجع إلى الأدلة الحاصلة عند العالم بالله فإن كان صاحب دليل واحد وطرأت عليه في علمه بتنزيه الحق في أي وجه كان شبهة أثرت في دليله زال كونه علما كما زال كون هذا الماء طاهرا مطهرا وإن كان صاحب أدلة كثيرة على مدلول واحد فإن الشبهة تستهلك فيه فإنها إذا قدحت في دليل منها لم يلتفت إليها واعتمد على باقي أدلته فلم تؤثر هذه الشبهة في علمه وإنما أثرت في دليل خاص لا في جميع أدلته فهذا معنى الكثرة في الماء الذي لا تغير النجاسة حكمه‏

[العلم تقدح فيه الشبهة في زمان تصوره إياها]

وأما من قال بترك الحد في ذلك وإن الماء يفسد فإنه يعتبر أحدية العين لا أحدية الدليل فيقول إن العلم تقدح فيه هذه الشبهة في زمان تصوره إياها والزمان دقيق فربما مات في ذلك الزمان وهو غير مستحضر سائر الأدلة لضيق الزمان فيفسد عنده وفي هذا الباب تفريع كثير لا يحتاج إلى إيراده وهذا القدر قد وقع به الاكتفاء في المطلوب‏

(باب الماء يخالطه شي‏ء طاهر مما ينفك عنه غالبا متى غير أحد أوصافه الثلاثة)

أما الماء الذي يخالطه شي‏ء طاهر مما ينفك عنه غالبا متى غير أحد أوصافه الثلاثة فإنه طاهر غير مطهر عند الجميع إلا بعض الأئمة فإنه عنده مطهر ما لم يكن التغير عن طبخ‏

(وصل حكم الباطن)

[العلم بالله من طريق الفكر طاهر غير مطهر]

فأما حكم الباطن في ذلك فهو أن العلم بالله من حيث العقل الذي حصل له من طريق الفكر إذا خالطه وصف شرعي مما جاء الشرع به فإن ذلك العلم بالله طاهر في نفسه غير مطهر لما دل عليه من صفة التشبيه كقولهم في صفة كلام الله إنه كسلسلة على صفوان فأتى بكاف الصفة والشرع كله ظاهر مقبول ما جاء به فلم يقدر العقل ينفك عن دليله في نفي التشبيه وسلم للشرع ما جاء به من غير تأويل ومن رأى أنه مطهر على أصله ما لم يطبخ فأراد بالطبخ الأمر الطبيعي وهو أن لا يأخذ ذلك الوصف من الشارع الذي هو مخبر عن الله وأخذه عن فهمه ونظره بضرب قياس على نفسه من حيث إمكانه وطبيعته فهو طاهر غير مطهر فاعلم ذلك‏

(باب في الماء المستعمل في الطهارة)

الماء المستعمل في الطهارة اختلف فيه علماء الشريعة على ثلاثة مذاهب فمن قائل لا تجوز الطهارة به ومن قائل تجوز الطهارة به وبه أقول ومن قائل بكراهة الطهارة به ولا يجوز التيمم بوجوده وقول رابع شاذ وهو أنه نجس‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[استعمال الماء هل يخرجه عن وصف إطلاقه‏]

فأما حكم الباطن فيه فاعلم إن سبب هذا الخلاف هو أنه لا يخلو أن ينطلق على ذلك الماء اسم الماء المطلق أو لا ينطلق فمن رأى أنه ينطلق قال بجواز الطهارة به ومن رأى أنه قد أثر في إطلاقه استعماله لم يجز ذلك أو كرهه على قدر ما يقوى عنده وأما من قال بنجاسته فقول غير معتبر وإن كان القائل به من المعتبرين وهو أبو يوسف‏

[رد التوحيد إلى الذات بعد استعماله في أحدية الأفعال‏]

فاعلم إن العلم بتوحيد الله هو الطهور على الإطلاق فإذا استعملته في أحدية الأفعال ثم بعد هذا الاستعمال رددته إلى توحيد الذات اختلف العلماء بالله بمثل هذا الاختلاف في الماء المستعمل فمن العارفين من قال إن هذا التوحيد لا يقبله الحق من حيث ذاته فلا يستعمل بعد ذلك في العلم بالذات ومن العارفين من قال يقبله لأنا ما أثبتنا عينا زائدة والنسب ليست بأمر وجودي فتؤثر في توحيد الذات فبقي العلم بالتوحيد على أصله من الطهارة

[التوحيد المطلق لا ينبغي إلا لله‏]

وأما من قال بأنه نجس فإن التوحيد المطلق لا ينبغي إلا لله تعالى فإذا استعملت هذا التوحيد في أحدية كل أحد التي بها يقع له التمييز عن غيره فقد صار لها حكم الكون الممكن فهذا معنى النجاسة فلا ينبغي أن ينسب إلى الله مثل هذا التوحيد لأن تمييزه في أحديته عن خلقه ليس عن اشتراك كما تتميز الممكنات بعضها عن بعض بخصوص وصفها وهي أحديتها

(باب في طهارة أسئار المسلمين وبهيمة الأنعام)

اتفق العلماء بالشريعة على طهارة أسئار المسلمين وبهيمة الأنعام واختلفوا فيما عدا ذلك فمن قائل بطهارة كل حيوان ومن قائل استثني واختلف أهل الاستثناء خلافا كثيرا

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[الإيمان حياة والحياة عين الطهارة في الحي‏]

فأما حكم الباطن في ذلك فإن سؤر المؤمن وكل حيوان فهو طاهر فإن الايمان والحياة عين الطهارة في الحي والمؤمن إذ بالحياة كان التسبيح من الحي لله تعالى وإذ بالإيمان كان قبول ما يرد به الشرع مما يحيله العقل أو لا يحيله من المؤمن بلا شك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه عرف ربه‏

فما بقي للعبد من العلم بعد معرفته بنفسه الذي هو سؤره وكل حيوان فإنه مشارك للإنسان المؤمن في الدلالة فسؤره مثل ذلك بذلك القدر مما بقي يعرف ربه و

[الإيمان لأنه قبول الحق يعطي زيادة في معرفة الحق‏]

أما أصحاب الخلاف في الاستثناء فما نظروا في المؤمن ولا في الحيوان من كونه حيوانا ولا مؤمنا فهو بحسب ما نظر فيه هذا المستثنى ويجري معه الحكم والتفصيل فيه يطول وإنما اشترطنا المؤمن دون الإنسان وحده إذ كان الايمان يعطي من المعرفة بالله ما يعطيه الحيوان والإنسان وزيادة مما لا يدركه الإنسان من حيث إنسانيته ولا حيوانيته بل من كونه مؤمنا فلهذا قلنا سؤر المؤمن فإنه أتم في المعرفة

(باب في الطهارة بالأسئار)

اختلف العلماء بالشريعة في الطهارة بالأسئار على خمسة أقوال فمن قائل إنها طاهرة بإطلاق وبه نقول ومن قائل إنه لا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ومن قائل إنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن جنبا أو حائضا ومن قائل لا يجوز لكل واحد منهما أن يتطهر بفضل طهور صاحبه ولكن يشرعان معا ومن قائل إنه لا يجوز أصلا ومن قائل يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تخل به‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[الرجل يزيد على المرأة درجة]

فأما حكم الباطن في ذلك فاعلم إن الرجل يزيد على المرأة درجة فإذا اتخذا دليلا على العلم بالله من حيث ما هما رجل وامرأة لا غير فمن رأى أن لزيادة الدرجة في الدلالة فضلا على من ليس لها تلك الدرجة نقصه من العلم بذلك القدر فمن لم يجز الطهارة بذلك قال إنما يدل من كونه رجلا وامرأة أي من كونهما فاعلا ومنفعلا على علم خاص في الإله وهو العلم بالمؤثر فيه وهذا يوجد في كل فاعل ومنفعل فلا يجوز أن يوجد مثل هذا في العلم بالله ولا يتطهر به القلب من الجهل بالله‏

[جل المعرفة بالله أن يكون خالقنا وخالق الممكنات كلها]

ومن أجازه قال جل المعرفة بالله أن يكون خالقنا وخالق الممكنات كلها وإذا ثبت افتقارنا إليه وغناه عنا فلا نبالي بما فاتنا من العلم به فهذان قولان بالجواز وبعدم الجواز

[الوقوف على وجه دليل زيادة في معرفة المدلول‏]

وبهذا الاعتبار نأخذ ما بقي من الأقسام مثل الشروع معا غير إن في الشروع معا زيادة في المعرفة وهي عدم التقييد بالزمان وهو حال الوقوف على وجه الدليل وهو أيضا كالنظر في دلالتهما من حيث ما يشتركان فيه وليس إلا الإنسانية

[التغرب عن موطن الأنوثة أو المعرفة الحجابية]

ومثل طهارة المرأة بفضل الرجل فإنه يعطي في الدلالة ما تعطي المرأة وزيادة ومثل طهور الرجل بفضل المرأة ما لم تكن جنبا بالتغرب عن موطن الأنوثة وهو منفعل فقد اشترك مع الأنثى التي انفعلت عنه فإنه منفعل عن موجدة ومن تغرب عن موطن الأنوثة من تشبيهها بالرجل فإن ذلك يقدح في أنوثتها أو حائضا وهي صفة تمنع من مناجاة الحق في الصلاة والمطلوب من العلم بالله القربة والحال في الحيض البعد من الله من حيث تناجيه فالمعرفة بهذه الصفة تكون معرفة حجابية من الاسم البعيد

[للعبد أثر في جناب العلي الأقدس‏]

وأما قول القائل ما لم تخل به فإن لم تخل به جازت الطهارة وإن خلت به لم تجز فاعلم إن العالم بالله كما يعلم أن ذاته منفعلة في وجود عينها عن الله ولا يعرف أنه يرضي الله ويغضبه بأفعاله إذ قد وقع التكليف فما عرفه معرفة تامة فقد خلى بالمعرفة وهذا يقدح في طهارة تلك المعرفة وإذا عثر على إن له أثرا في ذلك الجناب مثل قوله تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فأعطى الدعاء من الداعي في نفس المدعو الإجابة ولا معنى للانفعال إلا مثل هذا فهذا حقيقة قوله ما لم تخل به‏

(باب الوضوء بنبيذ التمر)

اختلف علماء الشريعة في الوضوء بنبيذ التمر فأجاز الوضوء به بعضهم ومنع به الوضوء أكثر العلماء وبالمنع أقول لعدم صحة الخبر النبوي فيه الذي اتخذوه دليلا ولو صح الحديث لم يكن قوله نصا في الوضوء به فإنه‏

قال صلى الله عليه وسلم فيه تمرة طيبة وماء طهور

أي جمع النبيذ بين التمر والماء فسمي نبيذا فكان الماء طهورا قبل الامتزاج وإن صح قوله فيه‏

شراب طهور لم يكن نصا في الوضوء به ولا بد فقد يمكن أن يطهر به الثوب من النجاسة فإن الله ما شرع لنا في الطهارة للصلاة عند عدم الماء إلا التيمم بالتراب خاصة

(وصل حكم الباطن في ذلك)

وأما حكم الباطن في ذلك فإن الواقف في معرفته بالله على الدليل المشروع الذي هو فرع في الدلالة عن الدليل العقلي الذي هو الأصل وليس عند صاحب الدليل المشروع علم بما ثبت به كون الشرع دليلا في العلم بالإله فضعف في الدلالة وإن سماه ماء طهورا وتمرة طيبة فذلك لامتزاج الدليلين والمقلد لا يقدر على الفصل بين الدليلين فمن حيث يتضمن ذلك الامتزاج الدليل العقلي يجوز الأخذ به في الدلالة فيجيز الوضوء بنبيذ التمر ومن حيث الجهل بما فيه من تضمنه الدلالة العقلية لا يجوز الأخذ به وهو على غير بصيرة في ثبوت هذا الفرع فلم يجز الوضوء بنبيذ التمر فإنه سماه شرابا وأزال عنه اسم الماء فافهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(أبواب نواقض الوضوء)

[ناقض الوضوء كل ما يقدح في الأدلة]

حكم ذلك في الباطن أعني ناقض الوضوء أنه كل ما يقدح في الأدلة العقلية والأدلة الشرعية في المعرفة بالله أما في العقلية فمن الشبه الواردة وأما في الشرعية فمن ضعف الطريق الموصل إليها وهو عدم الثقة بالرواة أو غرائب المتون فإن ذلك مما يضعف به الخبر فكل ما يخرجك عن العلم بالله وبتوحيده وبأسمائه الحسنى وما يجب لله أن يكون عليه وما يجوز وما يستحيل عليه عقلا إلا أن يرد به خبر متواتر في كتاب أو سنة فإن ذلك كله ناقض لطهارة القلب بمعرفة الله وتوحيده وأسمائه فلنذكرها مفصلة كما وردت في الوضوء الظاهر إن شاء الله‏

(باب انتقاض الوضوء بما يخرج من الجسد من النجس)

[اختلاف العلماء في النوم‏]

اختلف علماء الشريعة في انتقاض الوضوء بما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي وجه خرج وبين هؤلاء اختلاف في أمور واعتبر قوم المخرجين القبل والدبر من أي شي‏ء خرج وعلى أي وجه خرج من صحة ومرض واعتبر آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج وبه أقول‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[اللفظ الخارج من الإنسان على اللسان يؤثر في الإيمان‏]

فأما حكم هذه المذاهب في المعاني في الباطن فمن اعتبر الخارج وحده وهو الذي ينظر في اللفظ الخارج من الإنسان فهو الذي يؤثر في طهارة إيمانه مثل أن يقول في يمينه برئت من الإسلام إن كان كذا وكذا أو ما كان إلا كذا وكذا فإن هذا وإن صدق في يمينه وبر ولم يحنث فإنه لا يرجع إلى الإسلام سالما كذا قال صلى الله عليه وسلم ومثل من يتكلم بالكلمة من سخط الله ليضحك بها الناس ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها في النار سبعين خريفا ولا يراعى من خرجت منه من مؤمن وكافر

[النفاق ظهور الإيمان على الشفتين وما في القلب منه شي‏ء]

ومن اعتبر المخرجين فهو المنافق والمرتاب فكل ما خرج منهما لا ينفعهما في الآخرة فإن الخارج قد يكون نجسا كالكفر من التلفظ به وقد يكون غير نجس كالإيمان وما كان مثل هذا من المخرجين المنافق والمرتاب لأن المخرجين خبيثان لم ينفع ما ليس بنجس كظهور الايمان وما في القلب منه شي‏ء وهو قوله تعالى عنهم حيث قالوا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وهو كخروج الطاهر أعني الذي ليس بنجس ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ وهو كخروج ما هو نجس فقال تعالى فيهم أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا فأثر في الطهارة

[العالم بالحق ويجحده ظلما وعلوا]

وأما من اعتبر الخارج والمخرجين وصفة الخروج فقد عرفت الخارج والمخرجين وما بقي إلا صفة الخروج فصفة الخروج في الطهارة كالخروج على صفة المرض كالمقلد في الكفر أو الصحة وهو العالم بالحق الصحيح ويجحده فلا يؤمن قال تعالى في مثل هؤلاء الذين عرفوا الحق وجحدوا بما دلهم عليه وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ثم ذكر العلة فقال ظلما وعلوا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ انتهى الجزء الثاني والثلاثون‏

(باب حكم النوم في نقض الوضوء)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

[اختلاف العلماء في النوم‏]

اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب فمن قائل إنه حدث فأوجبوا الوضوء في قليله وكثيره ومن قائل إنه ليس بحدث فلم يوجب منه وضوء إلا أن تيقن بالحدث فالناقض للوضوء هو الحدث لا النوم وإن شك في الحدث فالشك غير مؤثر في‏

الطهارة فإن الشرع لم يعتبر الشك في هذا الموضع وبه أقول ومن قائل بالفرق بين النوم القليل الخفيف كالسنة فلم يوجب منه وضوء وبين الكثير المستثقل فأوجب منه الوضوء

(وصل حكمه في الباطن)

[حالتا القلب المزيلتان لطهارته التي هي العلم بالله‏]

اعلم أن القلب له حالة غفلة فذلك النوم القليل وحالة موت ونوم عن التيقظ والانتباه لما كلفه الله به من النظر والاستدلال والذكر والتذكر وهاتان الحالتان مزيلتان طهارة القلب التي هي العلم بالله ولنا في ذلك ما ينبه الغافل والسالك‏

يا نائما كم ذا الرقاد *** وأنت تدعى فانتبه‏

كان الإله يقوم عنك *** بما دعا لو نمت به‏

لكن قلبك غافل *** عما دعاك ومنتبه‏

في عالم الكون الذي *** يرديك مهما مت به‏

فانظر لنفسك قبل سيرك *** إن زادك مشتبه‏

(باب الحكم في لمس النساء)

[اختلاف العلماء في لمس النساء]

اختلف علماء الشريعة في لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة فمن قائل إنه من لمس امرأته دون حجاب أو قبلها على غير حجاب فعليه الوضوء سواء التذ أو لم يلتذ واختلف قول صاحب هذا المذهب في الملموس فمرة سوى بينهما في إيجاب الوضوء ومرة فرق بينهما وفرق أيضا صاحب هذا القول بين أن يلمس ذوات المحارم والزوجة ومن قائل بإيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة وعند أصحاب هذا القول تفصيل كثير ومن قائل بأن لمس النساء لا ينقض الوضوء وبه أقول والاحتياط أن يتوضأ للخلاف الذي في هذه المسألة اللامس والملموس‏

(وصل حكم اللمس في الباطن)

[إذا لمست الشهوة القلب ولمسها فقد انتقض الوضوء]

فأما حكم اللمس في القلب فالنساء عبارة وكناية عن الشهوات فإذا لمست الشهوة القلب ولمسها والتبس بها والتبست به وحالت بينه وبين ما يجب عليه من مراقبة الله فيها فقد انتقض وضوؤه وإن لم تحل بينه وبين مراقبة الله فيها فهو على طهارته فإن طهارة القلب الحضور مع الله ولا يبالي في متعلق الشهوة من حرام أو حلال إذا اعتقد التحريم في الحرام والتحليل في الحلال فلا تؤثر في طهارته فإذا اعتقد التحريم في الحلال المنصوص عليه بالحل أو التحليل المنصوص عليه بالتحريم من أجل الشهوة بالنظر إلى الرجوع في ذلك إلى قول إمام يرى ذلك مع علمه إن الشارع قرر حكم المجتهد وقرر قبول عمل القلب له إذا عمل به وقد كان قبل الشهوة يعرف ذلك القول ولا يعمل عليه ولا يقول به وإنما رجع إليه بسبب لمس الشهوة قلبه فمثل هذا تؤثر في طهارته فعليه الوضوء بلا خلاف عند أهل القلوب وأما في الظاهر فلنا في هذه المسألة نظر وقد تصدعنا فيها مع علماء الرسوم‏

(باب في لمس الذكر)

[اختلاف العلماء في لمس الذكر]

اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب فمن قائل لا وضوء عليه وبه أقول والاحتياط الوضوء في كل مسألة مختلف فيها فإن الاحتياط النزوح إلى موطن الإجماع والاتفاق مهما قدر على ذلك ومن قائل فيه الوضوء وقوم فرقوا بين مسه بحال لذة أو باطن اليد وبين من مسه بظاهر كفه ولغير لذة وفصلوا في ذلك‏

(وصل حكم ذلك في الباطن)

[سبب إيجاد الكائنات‏]

اعلم أن الله ما جعل سبب إيجاد الكائنات الممكنات سبحانه وتعالى إلا الإرادة والأمر الإلهي ولأجل هذا أخذ من أخذ الإرادة في حد الأمر قال الله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فأتى في الإرادة والأمر ولم يذكر معنى ثالثا يسمى القدرة فيخرج قوله والله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ على أنه عين قوله للأشياء كن إذا أراد تكوينها

[النكاح سبب ظهور المولدات‏]

ولا شك أن اليد محل القدرة ولما كان النكاح سبب ظهور المولدات فمن نسب القدرة إليه في إيجاد العين الممكنة التي ظهرت وهو مس الذكر باليد فلا يخلو ما أن يغفل عن الاقتدار الإلهي في قول كن أو لا يغفل فإن غفل انتقضت طهارته حيث نسب وجود الولد للنكاح وإن لم يغفل بقي على طهارته‏

(باب الوضوء مما مست النار)

[اختلاف الصحابة في الوضوء مما مست النار]

اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما مست النار وما عدا الصدر الأول فلم يختلفوا في إن ذلك‏

لا يوجب الوضوء إلا في لحوم الإبل وبالوضوء من لحوم الإبل أقول تعبدا وهو عبادة مستقلة مع كونه ما انتقضت طهارته بأكل لحوم الإبل فالصلاة بالوضوء المتقدم جائزة وهو عاص إن لم يتوضأ من لحوم الإبل‏

[وجوب الوضوء من لحوم الإبل تعبدا]

وهذا القول ما قال به أحد فيما اعلم قبلنا وإن نوى فيه رفع المانع فهو أحوط واختلف الأئمة في الوضوء من لحوم الإبل فمن قائل بإيجاب الوضوء منه ومن قائل لا يجب‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

[تلقي الأمور التي لا توافق الغرض الطبيعي‏]

النار الذي يجد الإنسان في نفسه وهي التي تنضج كبده هي مما يجري عليه من الأمور التي لا توافق غرضه الطبيعي فإن تلقاها بالتسليم والرضي أو الصبر مع الله فيها كما تسمى الله تعالى بالصبور لقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَهُ وأمهلهم ولم يؤاخذهم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس شخص اصبر على أذى من الله‏

حلما منه وإذا كان العبد بهذه المثابة لم تؤثر في طهارته‏

[لمة الشيطان في قلب الإنسان‏]

فإن تسخط وأثر فيه ولا سيما لحوم الإبل فإن الشارع سماها شياطين فتلك لمة الشيطان في القلب فانتقضت طهارته لأن محل اللمة القلب كما يطهر منها بلمة الملك وإنما لحوم الإبل بلمة الشيطان لأن الشيطان خلق من مارِجٍ من نارٍ والمارج لهب النار والشارع كما قلنا سمي الإبل شياطين ونهى عن الصلاة في معاطنها وما علل إلا بكونها شياطين وهم البعداء والصلاة حال قربة ومناجاة فاعتبرنا في الباطن حكم الوضوء من لحوم الإبل ونقض الطهارة بهذا ولو كانت لمته بخير فإنه أضمر في ذلك الخير شرا لا يتفطن له إلا العالم المحقق العارف بالأمور الإلهية كيف ترد على القلوب‏

(باب الضحك في الصلاة من نواقض الوضوء)

[الإنسان الذي تختلف عليه الأحوال‏]

اعلم أن الضحك في الصلاة أوجب منه الوضوء بعضهم ومنعه بعضهم وبالمنع أقول‏

(وصل حكم الباطن فيه)

إن الإنسان في صلاته تختلف عليه الأحوال مع الله في تلاوته إذا كان من أهل الله ممن يتدبر القرآن فآية تحزنه فيبكي وآية تسره فيضحك وآية تبهته فلا يضحك ولا يبكي وآية تفيده علما وآية تجعله مستغفرا وداعيا فطهارته باقية على أصلها

[الإنسان الذي لا تختلف عليه الأحوال‏]

وقد رأينا من أحواله دائما الضحك في صلاة وغير صلاة كالسلاوي وأمثاله نفعنا الله به وكأبي يزيد طيفور بن عيسى ابن شروشان البسطامي روى عنه أبو موسى الديبلي أنه قال ضحكت زمانا وبكيت زمانا وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي‏

[الغافل على تلاوته ومناجاة ربه أثناء صلاته‏]

وأما إذا غفل عن تلاوته وتدبرها ومناجاة ربه بزكائه ولهوه وأمثال ذلك مما يخرجه عن الحضور مع الله في صلاته فهذا ضحكه في الباطن في الصلاة في مذهب من يقول بنقض طهارته ومن هذه حاله فقد انتقضت طهارته ووجب عليه استئناف طهارة قلبه مرة أخرى‏

(باب الوضوء من حمل الميت)

[لا يجتمع شي‏ء مع شي‏ء إلا لمناسبة]

قالت به طائفة من العلماء ومنع أكثر العلماء من ذلك وبالمنع أقول‏

(وصل حكم الباطن فيه)

أما حكم الباطن في ذلك فإنه يتعلق بعلم المناسبة فلا يجتمع شي‏ء مع شي‏ء إلا لمناسبة بينهما قال أبو حامد الغزالي رأى بعض أهل هذا الشأن بالحرم غرابا وحمامة ورأى أن المناسبة بينهما تبعد فتعجب وما عرف سبب أنس كل واحد منهما بصاحبه فأشار إليهما فدرجا فإذا بكل واحد منهما عرج فعرف أن العرج جمع بينهما

[حكاية الشيخ أبي مدين مع بعض التجار]

وكان رجل من التجار يقول لشيخنا أبي مدين أريد منك إذا رأيت فقيرا يحتاج إلى شي‏ء تعرفني حتى يكون ذلك على يدي فجاءه يوما فقير عريان يحتاج إلى ثوب وكان مقام الشيخ وحاله في ذلك عدم الاعتماد على غير الله في جميع أموره في حق نفسه وفي حق غيره فإن الشيوخ قد أجمعوا على أنه من صح توكله في نفسه صح توكله في غيره فتذكر أبو مدين رغبة التاجر فخرج مع الفقير إلى دكان التاجر ليأخذ منه ثوبا فماشاه إنسان أنكره الشيخ فسأله عن دينه فإذا هو مشرك فعرف المناسبة وتاب إلى الله من ذلك الخاطر فالتفت فإذا بالرجل قد فارقه ولم يعرف حيث ذهب‏

[الموت موتان: موت عن الخلق وموت عن الحق‏]

فلما أخبرت بحكايته وأنا أعرف بلادنا ما في بلاد الإسلام منها دينان أصلا فعلمت إن الله أرسل إليه من خاطره ذلك شخصا ينبهه فإن الله علمنا منه أنه يخلق من أنفاس العالم خلقا فكذلك من هذا الباب من حمل ميتا فلمناسبة بينهما وهو الموت فأما موت عن الأكوان وأما موت عن الحق فالميت عن الحق يتوضأ والميت عن الأكوان باق على وضوئه‏

(باب نقض الوضوء من زوال العقل)

اتفق علماء الشريعة أن زوال العقل ينقض الطهارة

(وصل حكم الباطن فيه)

أن العقل إذا كان المزيل لحكمه في الإلهيات النص المتواتر من الشرع الذي لا يدخله احتمال ولا إشكال فيه فهو على أكمل الطهارة لأن طهارة الايمان مع وجود النص تعطي العلم الحق والكشف وإذا زال عقله بشبهة فقد انتقضت طهارته ويستأنف النظر في دليل آخر أو في إزالة تلك الشبهة

(أبواب الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها)

[الوضوء شرط من شروط الصلاة]

اتفق العلماء على أن الوضوء شرط من شروط الصلاة واختلفوا هل هو شرط صحة أو شرط وجوب وأعني بالوضوء الطهارة المشروعة وهي عندنا شرط وجوب والطهارة عندنا عبادة مستقلة وقد تكون شرطا في عبادة أخرى شرط صحة أو شرط وجوب وقد تكون مستحبة وسنة في عبادة أخرى‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

طهارة القلب شرط في مناجاة الحق أو مشاهدته شرط وجوب وشرط صحة معا وسبب ذلك إننا في موطن التكليف ويطلب الايمان منا بالله وبما جاء من عنده وبالرسول والرسل وهذه إشارة أن الأمر ليس بمقصور إلا أنه عال وأعلى وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يرفع درجات من يشاء

[الإيمان طهارة للقلب من الحجاب والعلم طهارة للعقل من الجهل‏]

وتارة يكون العلم شرطا في صحة الايمان وشرط وجوب فيه وتارة يكون الايمان شرطا في صحة علم الكشف وشرط وجوب فيه إلا أن الايمان فيه طهارة للقلب من الحجاب والعلم طهارة للقلب من الجهل والشك والنفاق فطهر قلبك بالطهارتين تسم بذلك في العالمين وتحوز به علم القبضتين فإن الله قد أوجب الايمان علينا بنفسه ومن نفسه أسماؤه ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُسُلِهِ مع علمنا بأن الله فضل بعضهم على بعض رسلا وأنبياء ثم نهانا أن نفضل بين الأنبياء قياسا أو نظرا فإن العبد لا يحكم على الله بشي‏ء

(باب الطهارة لصلاة الجنائز ولسجود التلاوة)

اختلف أهل العلم رضي الله عنهم في الطهارة للصلاة على الجنائز ولسجود التلاوة فمن قائل إنها شرط من شروطها ومن قائل ليست بشرط وبه أقول‏

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

أما حكم الباطن في ذلك كله فإنا نقول كل عمل مشروع لا تتقدمه طهارة الايمان لا يصح ذلك العمل بفقده فيجب وجود الايمان في كل عمل مشروع فمن قال لا يجب الوضوء لصلاة الجنازة وسجود التلاوة لم ير استحضار للموتى والسجود للتلاوة لا في الايمان في الدعاء واكتفى بالإيمان إلا صلى عن استحضاره عند الشروع في الفعل وهذا سبب عدم الإجابة ومن رأى أن الطهارة شرط كانت الإجابة ولا بد فيما يدعونيه‏

(باب الطهارة لمس المصحف)

[هل الطهارة شرط في مس المصحف‏]

اختلف أهل العلم في الطهارة هل هي شرط في مس المصحف أم لا فأوجبها قوم ومنعها قوم وبالمنع أقول إلا أن فعلها بالطهارة أفضل أعني مس المصحف‏

(وصل في حكم الباطن في ذلك)

هل يحترم الدليل لاحترام المدلول فعندنا نعم يحترم الدليل لاحترام المدلول وعند غيرنا لا يلزم فإن الدليل يضاد المدلول فلا يجتمعان فإن احترم الدليل فلأمر آخر لا لكونه دليلا على محترم والمصحف دليل على كلام الله وقد أمرنا باحترامه ومسه على الطهارة من احترامه‏

[قد يؤخذ العالم دليلا على الله‏]

فاعلم إنا قد نأخذ العالم دليلا على الله ونذهل عما يتضمن مسمى العالم من محمود ومذموم وقد نأخذ فرعون وأمثاله من المتكبرين دليلا على وجود الصانع لأنه صنعة واتفق أن عينته في الدلالة على الخصوص ولا يجب احترامه بل يجب مقته وعدم حرمته وقد نأخذ موسى عليه السلام من حيث إنه صنعته دليلا على وجود الصانع واتفق أن عينته في الدلالة على الخصوص وقد وجب علينا احترامه وتعظيمه من وجه آخر لا من وجه كونه دليلا فلهذا عظمنا المصحف لكون الشارع أمرنا باحترامه وتعظيمه لا لكونه دليلا ثم له حرمة أخرى لكونه دليلا وبه نعلل احترامه في وقت ما فإنه نقول فيه إنه كلام الله وإن كنا نحن الكاتبين له بأيدينا

(باب إيجاب الوضوء على الجنب عند إرادة النوم أو معاودة الجماع أو الأكل أو الشرب)

اختلف علماء الشريعة فيما ذكرناه في هذه الترجمة فمن قائل بإيجابه ومن قائل باستحبابه وبه أقول‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

وأما حكم الباطن في ذلك إحضار النية للذي انتقضت طهارته الشرعية لشهوة أغفلته عن رؤية الحق عند استحكامها فإذا أراد أن ينام نوى في النوم إعطاء حق العين فتلك طهارة الجنب إذا أراد أن ينام فإن الجنابة نقضت طهارته وهي الغربة عن موطن الايمان الذي كان يجب عليه الحضور معه لو لا استحكام سلطان الشهوة الذي أفناه عن نفسه وعن كل ما سواه وكذلك إذا أراد أن يعاود الجماع ينوي الولد المؤمن لكثرة أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليكثر الذاكرين الله بهذا الجماع وكذلك إذا أراد أن يأكل أو يشرب ينوي إعطاء النفس حقها وهذه النية فيما ذكرناه هي طهارة لكل ذلك‏

(باب الوضوء للطواف)

اعلم أن الوضوء للطواف اشترطه قوم ولم يشترطه قوم وبه أقول وإن كان الطواف بالطهارة أفضل‏

(وصل حكم الباطن في ذلك)

وذلك أنه من رأى أن الطواف بالبيت لكونه منسوبا إلى الله كالعرش المنسوب إلى استواء الرحمن ورأى الملائكة حافين به وهم المطهرون الكرام البررة اشترط الوضوء في الطواف بكعبة قلبه الذي وسع الحق جل جلاله‏

يقول تعالى ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي‏

وهو نزوله في تجليه تعالى إلى قلب عبده وقد بيناه في مواقع النجوم في منزل التنزل الذاتي من فلك القلب‏

[الحق لأنه مطلق لا بشرط شي‏ء لا يتقيد بما أضاف إليه من شي‏ء]

ومن رأى أن الحق لا يتقيد بما أضاف إليه وإنما قصد بذلك التشريف منفعة المكلف لم يشترط الطهارة للطواف وأما في القلب فعدم اشتراط الطهارة في وقت نظر العقل في إثبات الشرع في المعرفة الأولى إما ابتداء وإما إذا نزل إليها بالتعليم لمن أراد أن يعرف الله بالأدلة النظرية

(باب الوضوء لقراءة القرآن)

اختلف العلماء في الوضوء لقراءة القرآن فمن قائل إنه تجوز قراءة القرآن لمن هو على غير طهارة وبه أقول ومن قائل لا يجوز أن يقرأ القرآن إلا على وضوء وهو الأفضل بلا خلاف وكذلك كل ما ذكرناه مما يجوز فعله عندنا وعند غيرنا على غير وضوء إن الأفضل أن لا يفعل شيئا من ذلك إلا على وضوء

(وصل حكم الباطن في ذلك)

أما حكم الباطن في ذلك فإن قارئ القرآن نائب الحق سبحانه في الترجمة عنه بكلامه ومن صفاته سبحانه القدوس ومعناه الطاهر فينبغي للعبد إذا ناب مناب الحق في كلامه بتلاوته أن يكون مقدسا أي طاهرا في ظاهره بالوضوء المشروع وفي باطنه بالإيمان والحضور والتدبر وشبه ذلك وأن يقدم تلاوة الحق عليه ابتداء ثم يتلوه مترجما عن الحق ما تلاه عليه وكلمه به‏

[ألوان من تلاوة القرآن‏]

فأما يترجم في تلاوته تلك للحاضر عنده ليذكره وإما أن يترجم بلسانه ليسمعه فيحصل الآخر للسمع كما لو كان المصحف بيده يتلو فيه أخذ البصر حقه من النظر إلى كلام الله من حيث ما هو مكتوب كما أخذه السمع من حيث ما هو اللسان ناطق به مصوت وكذلك لو ألقى المصحف في حجره ومشى بيده على الحروف لأخذت هذه الأعضاء حظها من ذلك وهكذا كان يتلو شيخنا أبو عبد الله ابن المجاهد وأبو عبد الله ابن قيسوم وأبو الحجاج الشربلى لم أر من أشياخنا من يحافظ على مثل هذه التلاوة إلا هؤلاء الثلاثة

(أبواب الاغتسال‏

أحكام طهارة الغسل‏ )

[تعميم الطهارة بالماء لجميع ظاهر البدن‏]

هذا الغسل المشروع في هذا الباب هو تعميم الطهارة بالماء لجميع ظاهر البدن بغير خلاف وفيما يمكن إيصال الماء إليه من البدن وإن لم يكن ظاهرا بخلاف كداخل الفم وما أشبهه وسيأتي ذكره وذكر أسباب هذه الطهارة ومنها واجب وسنة ومستحب‏

[طهارة النفس في الباطن‏]

(الاعتبار في ذلك) فأما اعتبار هذه الطهارة تعميم طهارة النفس من كل ما أمرت بالطهارة منه وبه من الأعمال ظاهرا مما يتعلق بالأعضاء وباطنا بما يتعلق بالنفس من مصارف صفاتها لا من صفاتها وإنما قلنا من مصارف صفاتها فإن صفاتها لازمة لها في أصل خلقتها لا تنفك عنها حتى إن بعض أصحابنا قد جعلها عين ذاتها وأنها صفات نفسية لها كالحرص والبخل والنميمة وكل وصف مذموم‏

[متعلق الذم أمرنا بالطهارة عنه‏]

فمتعلق الذم الذي أمرنا بالطهارة منه ما هو عين الصفة وإنما هو عين المصرف فالإنسان لا يتطهر من الحرص وإنما يتطهر من صرف الحرص على جمع حطام الدنيا وحرامها فيتطهر بالحرص عينه على حكم ما تطهر منه بالمصرف أيضا وهو أن يتطهر بالحرص على طلب العلم وتحصيل أسباب الخير

والأعمال الصالحة والحرص على جمع أسباب سعادته فإن عين الحرص ما يتمكن زواله فالحرص بوجه تكون سعادة الحريص بالحرص وبوجه تكون شقاوة الحريص فلهذا قلنا بالمصرف لا بعين الصفة وعلى هذا نأخذ جميع الصفات التي علق الذم بها إنما علق الذم بمصارفها لا بأعيانها

[طهارة الباطن والظاهر في الاغتسال‏]

فعموم طهارة الباطن والظاهر في هذا الاغتسال إنما متعلقة مصارف الصفات ولا يعلم مصارف الصفات إلا من يعلم مكارم الأخلاق فيتطهر بها ويعلم سفساف الأخلاق فيتطهر منها وما خفي منها مما لا يدركه يتلقاه من الشارع وهو كل عمل يرضي الله فيتطهر به من كل عمل لا يرضيه فيتطهر منه قال الله تعالى ولا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ولهذا سقنا في هذا الكتاب أبوابا متقابلة كالتوبة وتركها والورع وتركه والزهد وتركه مما سيأتي أبوابه إن شاء الله تعالى وهي كثيرة

[أحكام الطهارة في الظاهر والباطن‏]

وهذه الطهارة أيضا واجبة كالتطهير بإيتاء الزكاة مثلا فهو غسل واجب وكإعطائها للفقراء من ذوي الأرحام وهو مندوب إليه وكتخصيص أهل الدين منهم دون غيرهم من ذوي الأرحام وهو مستحب وهكذا يسرى حكم هذه الطهارة في جميع باطن الإنسان وظاهره من العلم والجهل والكفر والايمان والشرك والتوحيد والإثبات والتعطيل وهكذا في الأعمال كلها المشروعة يطهرها بالموافقة من المخالفة فهذا معنى الاغتسال الواجب منه وغير الواجب وسأورد من تفصيل مسائل هذه الطهارة ما يجري مجرى الأمهات على حسب ما يذكر منها في ظاهر حكم الشرع في الاغتسال بالماء وإنما تفريع هذه الطهارة لا يحصى ولا يسعه كتاب لو ذكرناها مسألة مسألة وقد أعطينا فيها وبينا طريقة الأخذ بها فخذها على ذلك الأنموذج إن أردت أن تكون من عباد الله الذين اختصهم لخدمته واصطنعهم لنفسه ورضي عنهم فرضوا عنه جعلنا الله من العلماء العمال ولا حال بيننا وبين الاستعمال بما يرضيه سبحانه من الأعمال في الأقوال والأفعال والأحوال‏

[الاغتسالات المشروعة المتفق عليها والمختلف فيها]

فأما الاغتسالات المشروعة فمنها ما اتفق على وجوبه ومنها ما اختلف في وجوبه ومنها ما اتفق على استحبابه وهي اغتسالات كثيرة كالغسل من التقاء الختانين والغسل من إنزال الماء الدافق على علم والغسل من إنزاله على غير علم كالذي يجد الماء ولا يذكر احتلاما والغسل من إنزال الماء الدافق على غير وجه الالتذاذ والغسل من الحيض وغسل المستحاضة عند الصلوات وغسل يوم الجمعة والغسل لصلاة الجمعة والغسل عند الإسلام والغسل للإحرام والاغتسال لدخول مكة والاغتسال للوقوف بعرفة والاغتسال من غسل الميت وأما الاعتبارات في هذه الأغسال فأنا أذكرها قبل ذكر تفصيل أمهات المسائل المشروعة في الاغتسال بالماء واعتباراتها فمن ذلك‏

(باب الاغتسال من غسل الميت)

لما كان الميت شرع غسله وهو لا فعل له إذ كان غيره المكلف بغسله تنبيها لغاسله أن يكون بين يدي ربه في تطهيره بتوفيقه واستعماله في طاعته وما يجري عليه من أفعال خالقه به وفيه كالميت بين يدي غاسله فلا يرى غسله بهذا الاعتبار بغسله للميت وإنما يرى أن الله هو مطهره ويرى نفسه كالآلة يفعل بها الله ذلك الفعل كما يرى الغاسل الماء آلة في تحصيل غسل الميت إذ لو لا الماء ما صح اسم الغاسل لهذا الذي يغسله والماء لا يتصور منه الدعوى في أنه غسل الميت فإن الماء ما تحرك إليه ولا قصد غسله وإنما قصد بالماء غسل الميت غاسله كذلك الغاسل لا يرى في قصده أنه قصد غسل الميت بالماء وإنما يرى نفسه مع الماء آلتين قصد الله بهما غسل هذا الميت فالله المطهر لا هو ولا الماء ولكن الله طهر الميت بالغاسل وبالماء فمثل هذا لا يغتسل من غسل الميت فهذا اعتبار من يرى أنه لا يجب الغسل من غسل الميت‏

[اعتبار من يرى وجوب الغسل من غسل الميت‏]

وأما من غسل ميتا وغاب في غسله عن أن الله هو مطهره وادعى ذلك الفعل لنفسه وأضافه إليها ورأى أنه لولاه ما طهر هذا الميت وجب عليه أن يغتسل ويتطهر من هذه الدعوى بالتوجه والحضور مع الله في المستأنف والتذكر لما غفل عنه من تطهير الله هذا الميت على يده فمن اعتبر هذا أوجب الاغتسال من غسل الميت‏

[حكم الاغتسال من غسل الميت في ظاهر حكم الشرع‏]

وأما حكم الاغتسال من غسل الميت بالماء في ظاهر حكم الشرع فليس مذهبي القول بوجوبه ولكن إن اغتسل من ذلك فهو أولى وأفضل بلا خلاف‏

(باب الاغتسال للوقوف بعرفة)

[الوقوف بعرفة بصفة الذل والافتقار والدعاء والابتهال‏]

لما كان الوقوف بعرفة بصفة الذل والافتقار والدعاء والابتهال بالتعري من لباس المخيط والموضع الذي يقف فيه الحاج‏

يسمى عرفة علمنا اعتبار أن ذلك موقف العلماء العارفين بالله فإن الله يقول إِنَّما يَخْشَى الله من عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقال تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ من الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا من الْحَقِّ وسيأتي الكلام إن شاء الله على هذا النوع في باب الحج من هذا الكتاب‏

[معرفة الله عن طريق النظر الفكري وعن طريق الوهب الرباني‏]

ولما رأى هذا المعتبر العالم تجرده عن المخيط اعتبر في تأليف الأدلة وتركيبها لحصول المعرفة بالله من طريق النظر الفكري بتركيب المقدمات وتأليفها فتظهر من ذلك صورة المعرفة بربه كالخائط الذي يؤلف قطع القميص بعضها إلى بعض فتظهر صورة القميص قيل له بتجريده المخيط حصل المعرفة بربك أو العلم بالله من التجلي الإلهي أو الرباني واطرح عنك في هذا الموقف وهذا اليوم النظر العقلي بتأليف المقدمات واشتغل اليوم بتحصيل المعرفة بربك من الامتنان الإلهي والوهب الرباني من الواهب الذي يعطي لينعم فإنه الذي يقذف في نفسك العلم به على كل حال سواء نظرت في تأليف المقدمات أو لم تنظر فعامله سبحانه بالتجريد فإنه أولى بك ولا تلتفت إلى تأليفك المقدمات النظرية في العلم بالله فإن ذلك ظلمة في المعرفة لا يراها إلا البصير إذ لا مناسبة بين ما تؤلفه من ذلك وبين ما تستحقه ذاته جل وتعالى علوا كبيرا

[تطهر القلب عن التعلق في معرفة الرب بغير الرب‏]

ومن كان يطلب منه هذه الحالة في ذلك الموقف الكريم والمشهد الخطير العظيم كيف لا يغتسل ويتطهر في باطنه وقلبه عن التعلق في معرفته بربه بغيره فيزيل عنه قذر مشاهدة الأغيار ودرنها بعلم الحق بالحق دون علمه بنفسه إذ لا دليل عليه إلا هو لأن المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد وأنت في عرفة والعلم يتعدى إلى مفعولين ولهذا يحصل لصاحب هذا المشهد عند العلمين إذا خرج من عرفة يريد المزدلفة وهي جمع يحصل له علم آخر يكون معلومه الله كما كان معلومه في عرفات الرب تعالى وهذا المفعول الواحد الحاصل لك في هذا اليوم هو علمك بربك لا بنفسك فتعرف الحق بالحق فيكون الحق الذي اغتسلت به يعطي تلك المعرفة به ويكون المغتسل منه اسم مفعول عين نفسك في دعواها في معرفة ربها بنفسها من طريق التعمل في تحصيلها وأين الدليل من الدليل هيهات وعزته ما تعرفه إن عرفته إلا به فافهم فهذا غسلك للوقوف بعرفة إن وفقت له والله المؤيد والملهم‏

(باب الاغتسال لدخول مكة زادها الله تشريفا)

اعلم أن دخول مكة هو القدوم على الله في حضرته فلا بد من تجديد طهارة لقلبك مما اكتسبه من الغفلات من زمان إحرامك من الميقات ظاهرا بالماء وباطنا بالعلم والحضور فطهارة الظاهر الاغتسال بالماء عبادة وتنظيفا وطهارة الباطن وهو القلب بالتبري طلبا للولاء فإنه لا ولاء للحق إلا بالبراءة من الخلق حيث كان نظرك إليهم بنفسك لا بالله‏

[الحضور الدائم مع الله والاغتسال لدخول مكة]

فمن كان حاله الحضور الدائم مع الله لم يغتسل لدخول مكة إلا الغسل الظاهر بالماء لإقامة السنة وأما لباطن فلا إلا عند رؤية البيت فإنه يتطهر باطنا بحياء خاص لمشاهدة بيته الخاص كذا والطواف به الذين هم الطائفون كالحافين من حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إذ كان بيت الله بلا واسطة منذ خلق الله الدنيا ما جرت عليه يد مخلوق بكسب‏

[الاسم الإلهي الذي يتطهر به الطائف حول الكعبة]

وليكن الاسم الإلهي الذي يتطهر به الاسم الأول من الأسماء الحسنى فإنه من نعوت البيت فتحصل المناسبة قال تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً أي جعلت فيه البركة لعبادي والهدى فمن رأى البيت ولم يجد عنده زيادة إلهية فما نال من بركة البيت شيئا لأن البركة الزيادة فما أضافه الحق فدل على أن قصده غير صحيح فإن تعجيل الطعام للضيف سنة

[البركة والهدى في بيت الله الحرام‏]

فليجعل اغتساله أولا لا يجعله ثانيا لما تقدمه من غسل الإحرام فإنه طهارة خاص تليق بمشاهدة البيت والطواف به لا مناسبة بينه وبين الاغتسال للإحرام إلا من وجه ما فإذا زعم أنه تطهر بهذا الطهر وفرغ من طوافه يتفقد باطنه فإن الله ما جعل البركة فيه والهدى وهو البيان أي يتبين له ذلك الذي زاده ربه من العلم به فما جعلت البركة في البيت إلا أن يكون يعطي خازنه للطائف به القادم عليه من خلع البركة والقرب والعناية والبيان الذي هو الهدى في الأمور المشكلة في الأحوال والمسائل المبهمات الإلهية في العلم بالله ما يليق بمثل ذلك البيت المصطفى محل يمين الحق المبايع المقبل المسجود عليه‏

[بيت الله خزانة كنوزه في الأرض‏]

فإن هذا البيت خزانة الله من البركات والهدى وقد نبه الشارع إشارة بذكر الكنز الذي فيه وأي كنز أعظم مما ذكر الله من البركة والهدى حيث جعلهما عين البيت فكنزه من أضيف إليه وهو الله‏

[ثمرات الطواف في القلب الطائف في أقدس مطاف‏]

فلينظر الطائف القادم إذا فرغ من طوافه إلى قلبه فإن وجد زيادة من معرفة ربه وبيانا في معرفته لم تكن عنده فيعلم عند ذلك صحة اغتساله لدخول مكة وإن لم يجد شيئا من ذلك فيعلم أنه‏

ما تطهر وما قدم على ربه ولا طاف ببيته فإنه من المحال أن ينزل أحد على كريم غني ويدخل بيته ولا يضيفه فإذا لم يجد الزيادة فما زاد على غسله بالماء وقدومه على الأحجار المبنية فهو صاحب عناء وخيبة في قلبه وما له سوى أجر الأعمال الظاهرة في الآخرة في الجنان وهو الحاصل لعامة المؤمنين فإن جاور جاور الأحجار لا العين وإن رجع إلى بلده رجع بخفي حنين جعلنا الله من أصحاب القلوب أهل الله وخاصته آمين بعزته فإن اعترف المصاب بعدم الزيادة وما رزئ به كان له أجر المصاب من الأجور في الآخرة وحرم المعرفة في العاجل‏

(باب الاغتسال للإحرام)

[تطهير الجوارح وتطهير الباطن‏]

اعتباره تطهير الجوارح مما لا يجوز للمحرم أن يفعله وتطهير الباطن من كل ما خلف وراءه فكما تركه حسا من أهل ومال وولد وقدم على بيت الله بظاهره فلا يلتفت بقلبه إلا إلى ما توجه إليه ويمنع أن يدخل قلبه أو يخطر له شي‏ء مما خلفه وراءه بالتوبة والرجوع إلى الله ولهذا سمي غسل الإحرام لما يحرم عليه ظاهرا وباطنا فإن لم تكن هذه حالته فليس بمحرم باطنا

[إذا نام البواب بقي حافظ الباب‏]

فإن البواب قد نام وغفل وبقي الباب بلا حافظ فلم تجد خواطر النفوس ولا خواطر الشياطين من يمنعها من الدخول إلى قلبه فهو يقول لبيك بلسانه ويتخيل أنه يجيب نداء ربه بالقدوم عليه وهو يجيب نداء خاطر نفسه أو شيطانه الذي يناديه في قلبه يا فلان فيقول لبيك فيقول له الخاطر بحسب ما بعثه به صاحبه من نفس أو شيطان وما جاءه به من غير ما شرع له من الإقبال عليه في تلك الحالة فيقول له صاحب ذلك الخاطر عند قوله لبيك اللهم لبيك أهلا وسهلا لبيت من يعطيك الحرمان والخيبة والخسران المبين ويفرح بأن جعله إلها ولباه فلو لا فضل الله ورحمته بلسان الباطن والحال وما تقدم من النية لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ من وجودكم بقلوبكم إلى ما خلفتموه حسا وراء ظهوركم عَذابٌ عَظِيمٌ فيغفر الله لهم ما حدثوا به أنفسهم وما أخطر لهم الشيطان في تلك الحالة بعناية التلبية الظاهرة لا غير وما أعطاهم في قلوبهم ما أعطاه لأهل الاغتسال الباطن من المحرمين‏

(باب الاغتسال عند الإسلام وهو سنة بل فرض)

الاغتسال عند الإسلام مشروع وقد ورد به الخبر النبوي وأما اعتباره في الباطن فإن الإسلام الانقياد فإذا أظهر الإنسان انقياد الظاهر كان مسلما ظاهرا فيجب عليه الانقياد بباطنه حتى يكون مسلما باطنا كما كان ظاهرا فهو هنا تطهير الباطن عند الإسلام بالإيمان قال تعالى في حق طائفة قالت آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ في قُلُوبِكُمْ وهو الطهارة الباطنة النافعة المنجية من التخليد في النار

(باب الاغتسال لصلاة الجمعة)

اعتباره في الباطن طهارة القلب لاجتماعه بربه واجتماع همته عليه لمناجاته برفع الحجاب عن قلبه ولهذا قال من يرى أن الجمعة تصح بالاثنين وتقام وبه أقول‏

يقول تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‏

الحديث وما ذكر ثالثا يقول العبد كذا فأقول له كذا فلا بد من طلب منه هذه الحالة أن يتطهر لها طهرا خاصا بل أقول إن لكل حالة للعبد مع الله تعالى طهارة خاصة فإنه مقام وصلة ولهذا شرعت الجمعة ركعتين فالأولى من العبد لله بما يقول والثانية من الله للعبد بما يخبر به في إجابته قول عبده أو يخبر به الملأ الأعلى بحسب ما يفوه به العبد في صلاته غير أنه في صلاة الجمعة بمقتضى ما شرع له أن يجهر بالقراءة ولا بد فيقول الله للملإ الأعلى حمدني عبدي أو ما قال من إجابة وثناء وتفويض وتمجيد

(باب الاغتسال ليوم الجمعة)

[الطهارة لصلاة الجمعة طهارة حال وليومها طهارة زمان‏]

الاعتبار الطهارة بالأزل للزمان اليومي من السبعة الأيام التي هي أيام الجمعة فإن الله قد شرع حقا واجبا على كل عبد أن يغتسل في كل سبعة أيام فغسل يوم الجمعة لليوم لا للصلاة فكانت الطهارة لصلاة الجمعة طهارة الحال وهذه طهارة الزمان‏

[غسل الجمعة هل هو ليومها أو لصلاتها]

فإن العلماء اختلفوا فمن قائل إن الغسل إنما هو ليوم الجمعة وهو مذهبنا فإن أوقعه قبل صلاة الجمعة ونوى أيضا الاغتسال لصلاة الجمعة فهو أفضل ومن قائل إنه لصلاة الجمعة في يوم الجمعة وهو الأفضل بلا خلاف حتى لو تركه قبل الصلاة وجب عليه أن يغتسل ما لم تغرب الشمس‏

[يوم الجمعة يوم جمع العبد على الحق‏]

ولما قلنا إن جمع العبد على الحق في هذا اليوم الزماني كانت نسبة هذا اليوم‏

إلى جناب الحق ما يدخل الأزل من التقديرات الزمانية فيه بتعيين توجهات الحق لإيجاد الكائنات في الأزمان المختلفات التي يصحبها القبل والبعد والآن لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ فاعلم ذلك فإنه دقيق جدا

[الاغتسال لصلاة الجمعة جمع بين طهارتى الحال والزمان‏]

فمن اغتسل لصلاة الجمعة فقد جمع بين الغسل للحال والزمان ومن اغتسل ليوم الجمعة بعد الصلاة فقد أفرد وهو قدح في مسمى الجمعة فالأظهر أنه مشروع في يوم الجمعة ولصلاة الجمعة وهو الأوجه وما يبعد أن يكون مقصود الشارع به ذلك‏

(باب غسل المستحاضة وسيرد ونبين فيه مذهبنا)

وأما اعتباره فالاستحاضة مرض والعبد مأمور بتصحيح عبادته لا يدخلها شي‏ء من المرض فمهما اعتل في عبادة ما من عباداته تطهر من تلك العلة وأزالها حتى يعبد الله عبدا خالصا محضا لا تشوبه علة ولا مرض في عبادته ولا عبودته‏

(باب الاغتسال من الحيض)

[الحيض ركضة شيطان فيجب الاغتسال منه‏]

الحيض ركضة شيطان فيجب الاغتسال منه قال تعالى إنه رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطانِ فيجب تطهير القلب من لمة الشيطان إذا نزلت به ومسه في باطنه وتطهيرها بلمة الملك والقصة البيضاء هي العلامة أو من بعض العلامات على عناية الله بهذا القلب حيث طرد عنه وأزال ركضة الشيطان فيستعمل لمة الملك عند ذلك وهو تطهير القلب وإن كنيت عن ذلك بالإصبعين وكلاهما رحمة فإنه أضافهما إلى الرحمن فلو لا رحم الله عبده بتلك اللمة الشيطانية ما حصل له ثواب مخالفته بالتبديل في العدول عنه إلى العمل بلمة الملك فله أجران فلهذا قلنا إنه أضافهما إلى الاسم الرحمن‏

[الندم معظم أركان التوبة]

فإذا أزاغه جاهد نفسه أن لا يفعل ما أماله إليه فجوزي أجر المجاهد فإن عمل وتاب أثر الفعل بعد مجاهدة فساعد الشيطان عليه القدر السابق بالفعل فوقع منه الفعل ورأى أن ذلك من الشيطان مؤمنا بذلك مصدقا كما قال موسى عليه السلام هذا من عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ وتاب عقيب وقوع الفعل وأعني بالتوبة هنا الندم فإنه معظم أركان التوبة وقد ورد أن الندم توبة كان له أجر شهيد لوقوع الفعل منه والشهيد حي ليس بميت‏

[و أي حياة أعظم أو أكمل من حياة القلوب مع الله‏]

وأي حياة أعظم أو أكمل من حياة القلوب مع الله في أي فعل كان فإن الحضور مع الايمان عند وقوع المخالفة يرد ذلك العمل حيا بحياة الحضور يستغفر له إلى يوم القيامة فهذا من عناية الاسم الرحمن الذي أضاف الإصبعين إليه فالشيطان يسعى في تضعيف الخير للعبد وهو لا يشعر فإن الحرص أعماه ويحور الوبال وإثم تلك المعصية عليه وهذا من مكر الله تعالى بإبليس‏

[صورة من مكر الله في حق إبليس‏]

فإنه لو علم أن الله يسعد العبد بتلك اللمة من الشيطان سعادة خاصة ما ألقى إليه شيئا من ذلك وهذا المكر الإلهي الذي مكر به في حق إبليس ما رأيت أحدا نبه عليه ولو لا علمي بإبليس ومعرفتي بجهله وحرصه على التحريض على المخالفة ما نبهت على هذا لعلمي بأنه لو لا هذا المانع لاجتنب لمة المخالفة فهذا هو الذي حملني على ذكرها لأن الشيطان لا يقف عندها لحجابه بحرصه على شقاوة العبد وجهله بأن الله يتوب على هذا العبد الخاص فإن كل ممكور به إنما يمكر الله به من حيث لا يشعر وقد يشعر بذلك الكر غير الممكور به‏

(باب الاغتسال من المني الخارج على غير وجه اللذة)

اختلف فيه فمن قائل بوجوبه ومن قائل لا يجب عليه غسل وبه أقول‏

(وصل حكم الباطن فيه)

اعتبار الجنابة الغربة والغربة لا تكون إلا بمفارقة الوطن وموطن الإنسان عبوديته فإذا فارق موطنه ودخل في حدود الربوبية فاتصف بوصف من أوصاف السيادة على أبناء موطنه وأمثاله ولم يجد لذة لذلك فما وفى صفة السيادة حقها فإن الكامل لذة كماله لا تقارنها لذة أصلا والابتهاج الكمالي لا يشبهه ابتهاج فلما لم يوف الصفة حقها تعين عليه الاغتسال وهو الاعتراف بما قصر به في حق تلك الصفة الإلهية فمن هنا أوجب الغسل من أوجبه على من خرج منه المني في اليقظة من غير التذاذ ومن رأى أن صفة الكمال التي تنبغي للواجب الوجود بنفسه إذا اتصف بها العبد في غربته لم يكن لها حكم فيه لأنه ليس بمحل لها لم يوجب عليه غسلا

(باب الاغتسال من الماء يجده النائم إذا هو استيقظ ولا يذكر احتلاما)

[إنما الماء من الماء]

في مثل هذا بقي حكم‏

قوله صلى الله عليه وسلم إنما الماء من الماء

فهو مخصص ما هو منسوخ كما يراه بعضهم‏

(وصل اعتباره في الباطن)

العارف يجد قبضا أو بسطا في حال من الأحوال لا يعرف سببه وهو أمر خطر عند أهل الطريق فيعلم أن ذلك لغفلة منه عن مراقبة قلبه في وارداته وقلة نفوذ بصيرته في مناسبة حاله مع الأمر الذي أورثه تلك الصفة فيتعين عليه التسليم لموارد القضاء حتى يرى ما ينتج له ذلك في المستقبل‏

[الحضور التام مع الحق في علم المناسبات‏]

فإذا عرفه وجب عليه الاغتسال بالحضور التام مع الحق في علم المناسبات حتى لا يجهل ما يرد عليه من الحق من واردات التقديس وما الاسم الذي جاءه بذلك وما الاسم الذي جي‏ء به من عنده وما الاسم الإلهي الذي هو في الحال حاكم عليه وهو الذي استدعى ذلك الوارد فهذه ثلاثة الاسم المستدعي والاسم المستدعى منه والاسم الوارد به فإن الحق من حيث ذاته لا سبيل لمناسبة تربطنا به أو تربطه بنا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فبأسمائه نتعلق وبها نتخلق وبها نتحقق والله الموفق‏

(باب الاغتسال من التقاء الختانين من غير إنزال)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختان الختان فقد وجب الغسل‏

واختلف العلماء في هذه المسألة فمن قائل بأنه يجب الغسل من التقاء الختانين ومن قائل بأنه لا يجب الغسل من التقاء الختانين وبه أقول‏

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

إذا جاوز العبد حده ودخل في حدود الربوبية وأدخل ربه في الحد معه بما وصفه به مما هو من صفات الممكنات فقد وجب عليه الطهر من ذلك فإن تنزيه العبد أن لا يخرج عن إمكانه ولا يدخل الواجب لنفسه في إمكانه فلا يقول يجوز أن يفعل الله كذا أو يجوز أن لا يفعله فإن ذلك يطلب المرجح والحق له الوجوب على الإطلاق والذي ينبغي أن يقال يجوز أن توجد الحركة من المتحرك ويجوز أن لا توجد فيفتقر إلى المرجح فإذا كان العالم بالله تعالى بهذه المثابة وجب عليه الاغتسال وهو الطهر من هذا العلم بالعلم الذي لا يدخله تحت الجواز وسترد هذه المسألة إن شاء الله‏

(باب الاغتسال من الجنابة على وجه اللذة)

[الجنابة هي غربة العبد عن موطنه‏]

قد قررنا إن الجنابة هي الغربة وهي هنا غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه وليس إلا العبودية أو تغريب صفة ربانية عن موطنها فيتصف بها أو يصف بها ممكنا من الممكنات فيجب الطهر في هذه المسألة بلا خلاف‏

[الأحوال مائة والخمسين التي يجب الاغتسال لكل حال منها]

واعلم أن هذا الغسل الواحد المذكور في هذا الباب يتفرع منه مائة وخمسون حالا يجب الاغتسال على العبد في قلبه من كل حال منها ونحن نذكر لك أعيانها كلها إن شاء الله تعالى في عشرة فصول كل فصل منها يتضمن خمسة عشر حالا لتعرف كيف تلقاها إذا وردت على قلب العبد لأنه لا بد من ورودها على كل قلب من العوام والخصوص والله المؤيد والملهم لا قوة إلا به فمن ذلك‏

(الفصل الأول)

الجبروت والألوهية والعزة والمهيمنية والايمان والقيام والشوق والولاء والظلمة والسحر وعموم الرحمة وخصوصها والسلامة والطهارة والملك‏

(الفصل الثاني)

الكبرياء والستر والصورة والخلق والبراءة والإخلاص والإقرار والبر والنصيحة والحب والقهر والهبة والرزق والفتوح والعلم‏

(الفصل الثالث)

البسط والقبض والإعزاز ورفع الدرج وخفض الميزان والشرك والإنصاف والطاعة والرضي والقناعة والإذلال والأصوات والرؤية والقضاء والعدالة

(الفصل الرابع)

اللطف والاختبار ورفع الستور والعظمة والحلم والشكر والاعتلاء والمحافظة والتقدير والزيادة والحدود والهوى والمنازعة والولاية والتمليك‏

(الفصل الخامس)

الرحم وإدخال السرور والقطيعة والخداع والاستدراج والحسبان والجلالة والكرم والمراقبة والإجابة والاتساع والحكمة والوداد والبعث والشرف‏

(الفصل السادس)

الشهادة والحق المحلوف به والوكالة والقوة والصلابة في كل شي‏ء والنصرة والثناء والإحصاء والابتداء والإعادة والصدقة والقول والعفو والأمر والنهي‏

(الفصل السابع)

الأخلاق والمال والجاه والزيادة والايمان والحياة والموت والأحياء والقيومية والوجدان والاستشراف والوحدة والصمداني والقدرة والاقتدار

(الفصل الثامن)

التقديم والتأخير والدار الأولى والآخرة والاختفاء وإشالة الحجب والإحسان والرجوع والانتقام والصفح والحجر والنكاح والرياء والاختلاق والبهت‏

(الفصل التاسع)

الرأفة وملك الملك والكرامات والآجال والتعالي والمغالطة والجمع والاستغناء والتعدي والكفاية والسخاء والكذب والتكذيب والسياسة والنواميس‏

(الفصل العاشر)

المنع والهداية والانتفاع والضرر والنور والابتداع والبقاء والتوارث والرشد والإيناس والأذى والامتنان والحماسة والمقاومة والجاسوس‏

[المتطهر من كل حال يحتاج إلى علم غزير]

اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أن جميع ما ذكرنا في هذه الفصول وما تتضمنه كل حالة منها مما لم نذكره مخافة التطويل يجب على الإنسان طهارة باطنه وقلبه منه في مذهب أهل الله وخاصته من أهل الكشف بلا خلاف بين أهل الأذواق في ذلك ولكن يحتاج المتطهر من أكثرها إلى علم غزير في كيفية الطهارة مما ذكرنا وقد يكون بعضها طهور البعض ثم نرجع إلى مقصودنا من إيراد الأحكام المشروعة في هذه الطهارة التي هي الاغتسال بالماء واعتباراتها وأحكامها في الباطن فأقول قد ذكرنا في الوضوء على من تجب طهارته ومتى يكون وجوبها فلا نحتاج إلى ذكر ما يشترك فيه الطهارتان‏

(باب التدلك باليد في الغسل في جميع البدن)

اختلف الناس من علماء الشريعة في التدلك باليد في جميع الجسد فمن قائل إن ذلك شرط في كمال الطهارة ومن قائل ليس بشرط وأما مذهبنا فإيصال الماء إلى الجسد حتى يعمه بأي شي‏ء كان يمكن إيصاله‏

(وصل) حكم ذلك في الباطن‏

الاستقصاء في طهارة الباطن لما فيها من الخفاء الذي تضمره النفوس من حب المحمدة عند الناس بما يظهر عنها من الخير فبأي وجه أمكن إزالة هذه الصفة وكل مانع يمنع من عموم طهارة الباطن فلم تحصل الطهارة

(باب النية في الغسل)

اختلف العلماء في شرط النية في الغسل فمن العلماء من اشترطها وبه أقول ومنهم من لم يشترطها

(وصل اعتبارها في الباطن)

لا بد من شرطها في طهارة الباطن فإنها روح العمل وحياته والنية من عمل الباطن فلا بد منها وقد تقدم الكلام عليها في أول الباب ظاهرا وباطنا

(باب المضمضة والاستنشاق في الغسل)

اختلف العلماء علماء الشريعة في المضمضة والاستنشاق في الغسل فمن قائل بوجوبها ومن قائل بعدم وجوبها والذي نذهب إليه في ذلك أن الغسل لما كان يتضمن الوضوء كان حكمها من حيث إنه متوضئ في اغتساله لا من حيث إنه مغتسل فإنه ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تمضمض ولا استنشق في غسله إلا في الوضوء فيه وما رأيت أحدا نبه على مثل هذا في اختلافهم في ذلك فالحكم فيها عندي راجع إلى حكم الوضوء والوضوء عندنا لا بد منه في الاغتسال من الجنابة وعندنا في هذه المسألة نظر في حالتين الحالة الواحدة فيمن جامع ولم ينزل فعليه وضوءان في اغتساله فإن جامع وأنزل فعليه وضوء واحد إلا أن مذهبنا أن التقاء الختانين دون إنزال لا يوجب الغسل ويوجب الوضوء وبه قال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة والأعمش وقد تقدم الكلام في شرط الترتيب والفور في الوضوء واعتباره‏

(باب في ناقض هذه الطهارة التي هي الغسل)

فناقضها الجنابة والحيض والاستحاضة والتقاء الختانين فالحيض بلا خلاف وكذلك إنزال الماء على وجه اللذة في اليقظة بلا خلاف وما عدا هذين بخلاف فإن بعض الناس من المتقدمين لا يرى على المرأة غسلا إذا وجدت الماء من الاحتلام مع وجود اللذة

(باب في إيجاب الطهر من الوطء)

فمن قائل بوجوبه أنزل أو لم ينزل إذا التقى الختانان ومن قائل بوجوبه مع إنزال الماء وبه أقول وبإنزال الماء من غير وطء وبه قال جماعة من أهل الظاهر إنه يجب الطهر من الإنزال فقط

(وصل في اعتباره في الباطن)

الوطء توجه‏

المؤثر على المؤثر فيه بضرب من الوهب فلا يخلو المؤثر فيه أن يكون حاضرا عارفا بخصوص ذلك المؤثر من الأسماء الإلهية فلا يجب عليه الطهر أو لا يكون فيجب عليه الطهر وقد يعطي ذلك المؤثر نومة القلب ثم لا يخلو هذا الاسم الإلهي أن يؤثر علم كون من الأكوان أو علما يتعلق بالله وعلى الحالتين فإن رأى نفسه موطئا ولم يأخذ بالله كالصدقة تقع بيد الرحمن وإن أخذها السائل والله المعطي فيكون سبحانه المعطي والآخذ فلا طهارة عليه في الباطن‏

[بالحق تكون طهارة الأشياء]

فإن بالحق تكون طهارة الأشياء فإن غاب عن هذا الشهود ورأى نفسه أنه هو الآخذ ما أنزله الله على قلبه من العلوم وجبت عليه الطهارة من رؤية نفسه وكذلك إذا وطئ غيره بمسألة يعلمه إياها بالحال أو بالقول فإن كان عن حضور فلا طهارة عليه فإنه ما زال على طهارته وإن رأى نفسه في تعليمه غيره بالحال أو بالقول وجبت عليه الطهارة من رؤية نفسه لا بد من ذلك فإن رجال الله في هذه الطريق بالله يتحركون وبه يسكنون عن مشاهدة وكشف وعامتهم عن حضور اعتقاد وإيمان بما ورد بأن الأمر بيده وأن نواصي عباده وكل دابة بيده‏

(باب في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للاغتسال)

اختلفت العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للاغتسال فمن قائل باعتبار اللذة ومن قائل بنفس الخروج سواء كان عن لذة أو بغير لذة

(وصل) الاعتبار في هذا الباب‏

اللذة من الملتذ بها إما أن تكون نفسية أو إلهية فإن كانت نفسية طبيعية فقد وجب الغسل وإن كانت غير نفسية فلا يخلو ذلك العلم الذي هو بمنزلة الجنابة إما أن يتعلق بالله أو يتعلق بكون من الأكوان فإن تعلق بالله ولذته غير نفسية فلا طهر عليه وإن تعلق بالأكوان فعليه الطهر سواء التذ أو لم يلتذ ومعنى قولنا اللذة الإلهية أعني لذة الكمال لا لذة الوارد ولذة الكمال في العبد أن يكون عبدا محضا لا يتصف بالغربة عن موطنه في باطنه ولو خلع عليه الحق من صفات السيادة ما شاء من حضرته لا يخرجه ذلك عن موطنه وإذا كان كذلك فما هو ذو جنابة إذ لا غربة عنده فإنه ما برح في موطنه وهو غاية الكمال والطهارة معرفة للنقص‏

(باب في دخول الجنب المسجد)

فمن قائل بالمنع بإطلاق ومن قائل بالمنع إلا لعابر فيه غير مقيم ومن قائل بإباحة ذلك للجميع وبه أقول‏

(وصل) الاعتبار في ذلك‏

العارف من كونه عارفا لا يبرح عند الله دائما في الحديث جعلت لي الأرض كلها مسجدا ولا ينفك الجنب أن يكون في الأرض وإذا كان في الأرض فهو في المسجد العام المشروع الذي لا يتقيد بشروط المساجد المعلومة بالعرف‏

[العالم كله عابر مع الأنفاس أبدا]

ثم إن العارف بل العالم كله علوه وسفله لا تصح في حاله الإقامة له فهو عابر أبدا مع الأنفاس فالعلماء بالله يشاهدون هذا العبور وغير العلماء بالله يتخيلون أنهم مقيمون والوجود على خلاف ذلك فإن الإله الموجد في كل نفس موجد يفعل فلا يعطل نفسا واحدا تتصف منه بالإقامة كما قال كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وقال تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وقال بيده الميزان يخفض ويرفع‏

[المتخلق مهما فنى عن التخلق فليس بمتخلق‏]

ومن قال بالمنع من ذلك غلب عليه رؤية نفسه إنه ليس بمحل طاهر حيث لم يتخلق بالأسماء الإلهية ولو تخلق بها ولم يفن عن تخلقه عنده فما تخلق بها وعندنا إن المتخلق بالأسماء مهما فنى عن تخلقه بها فليس بمتخلق فإن المعنى بكونه متخلقا بها أي تقوم به كما يقوم الخلوق بالمتخلق به وقد يخلقه غيره فيكون عند ذلك مخلقا بالأخلاق الإلهية وذلك أن العبد مأمور والحق لا يأمر نفسه فالتخلق امتثال أمر الله بقوة الله وعونه‏

[من الأدب أن يرى المتخلق كونه متخلقا مكلفا]

فمن الأدب أن يرى المتخلق كونه متخلقا مكلفا وإن كان الحق سمعه وبصره أ ليس الحق قد أثبت عين عبده بالضمير في سمعه وبصره فأين يذهب هذا العبد والعين موجودة وغايته إن يكون صورة في هيولى الوجود المطلق مقيدة وليس له بعد هذا مرتبة إلا العدم والعدم لا يقبل الصورة فافهم انتهى الجزء الثالث والثلاثون‏

(باب مس الجنب المصحف)

(بسم الله الرحمن الرحيم) اختلف علماء الشريعة في مس الجنب المصحف فذهب قوم إلى إجازة مس الجنب المصحف ومنع قوم من ذلك‏

(وصل في اعتبار ذلك)

العالم كله كلمات الله في الوجود قال الله تعالى في حق عيسى عليه السلام وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وقال تعالى ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والكلم جمع كلمة ويقول تعالى للشي‏ء إذا أراده كُنْ فيكسو ذلك الشي‏ء التكوين فَيَكُونُ فالوجود فيه رق منشور والعالم فيه كتاب مسطور بل هو مرقوم لأن له وجهين وجه يطلب العلو والأسماء الإلهية ووجه يطلب السفل وهو الطبيعة فلهذا رجحنا اسم المرقوم على المسطور فكل وجه من المرقوم مسطور وفي ذلك أقول‏

إن الكيان عجيب في تقلبه *** فيه لناظره نقش وتحبير

انظر إليه ترى ما فيه من بدع *** إذ كل وجه من المرقوم مسطور

أن الوجود لسر حار ناظره *** الكون مرتقم والرق منشور

[الأعيان في الوجود كتاب مسطور]

فالأمر كما قلنا رق منشور والأعيان فيه كتاب مسطور فهو كلمات الله التي لا تنفد فبيته معمور وسقفه مرفوع وحرمه ممنوع وأمره مسموع فأين يذهب هذا العبد وهو من جملة حروف هذا المصحف أَ غَيْرَ الله تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ هل تدعون الشريك لعينه لا والله إلا لكونه في اعتقادكم إلها فالله دعوتم لا تلك الصورة ولهذا أجيب دعاؤكم والصورة لا تضر ولا تنفع‏

[و قضى ربك أي حكم لا أمر]

انظر في قوله قُلْ سَمُّوهُمْ فإن سموهم بهم فهم عينهم فلا يقولون في معبودهم حجر ولا شجر ولا كوكب ينحته بيده ثم يعبده فما عبد جوهره والصورة من عمله وإن سموهم بالإله عرفت أن الإله عبدوا هذا تحقيق الأمر في نفسه وقد أشارت الآية الواردة في القرآن إلى ما ذهبنا إليه بقوله تعالى وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فهو عندنا بمعنى حكم وعند من لا علم له من علماء الرسوم بالحقائق بمعنى أمر وبين المعنيين في التحقيق بون بعيد

[أعبد الله كأنك تراه هذا تقريب من هؤلاء الذين عبدوه‏]

وفي‏

قول محمد صلى الله عليه وسلم معلما لنا أعبد الله كأنك تراه‏

وفي حديث جبريل معه صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الإحسان بحضور جماعة من الصحابة ما هو فقال صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه‏

فجاء بكأن وقد علمت إن الخيال خزانة المحسوسات وأن الحق ليس بمحسوس لنا وما نعقل منه إلا وجوده فجاء بكان لندخله تحت قوة البصر فنلحقه بالوهم بالمحسوسات فقربنا من هؤلاء الذين عبدوه فيما نحتوه‏

[شرف حرف التمثيل الذي هو كأن‏]

فتدبر ما أشرنا إليه فإن الأمر لا يكون إلا كما قرره الشارع فقرر في موضع ما أنكره في موضع آخر فالعالم منا أن يقرر ما قرره الحق في الموضع الذي قرره الحق ولينكر ما أنكره الحق في الموضع الذي أنكره الحق فما ثم إلا الايمان الصرف فلا تأخذ من سلطان عقلك إلا القبول فانظر ما أشرف حرف التمثيل الذي هو كان‏

كان سلطاننا فانظر له خبرا *** فإنه خبر عنها مع الخبر

كان حرف له في الكون سلطنة *** إن كنت تعلم أن العلم في النظر

هو الإمام الذي فيه نصرفه *** ولا يقاومه خلق من البشر

[القلب مصحف يحوي على كلام الله‏]

ولا شك أن أهل الله جعلوا القلب كالمصحف الذي يحوي على كلام الله كما إن القلب قد وسع الحق جل جلاله حين ضاق عنه السماء والأرض فكما أمرنا بتنزيه القلب عن إن يكون فيه دنس من دخول الأغيار فيه ورأينا أن المصحف قد حوى على كلام الله وهو صفته والصفة لا تفارق الموصوف فمن نزه الصفة نزه الموصوف ومن راعى الدليل على أمر ما فقد راعى المدلول الذي هو ذلك الأمر فعلى كلا المذهبين ينبغي أن ينزه المصحف أن يمسه جنب‏

[النهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو]

وقد نهينا أن نسافر بالقرآن إلى أرض العدو فسمى المصحف قرآنا لظهوره فيه وما نهى حملة القرآن عن السفر إلى أرض العدو وإن كان القرآن في أجوافهم محفوظا مثل ما هو في المصحف وذلك لبطونه فيهم أ لا ترى النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شي‏ء عن قراءة القرآن ليس الجنابة لظهور القرآن عند القراءة بالحروف التي ينطق بها التي أخبرنا الحق أنها كلامه تعالى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فتلاه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[الجنب لا يمس المصحف ولا يقرأه‏]

فلا ينبغي للجنب وهو الغريب عما يستحقه الحق فإن البعد بالحقائق والحدود ما يكون فيه قرب أبدا وبعد المسافة قد يقرب صاحبها من صاحبها الذي يريد قربه فكما لا يكون الرب عبدا كذلك لا يكون العبد ربا لأنه لنفسه هو عبد كما إن الرب‏

لذاته هو رب فلا يتصف العبد بشي‏ء من صفات الحق بالمعنى الذي اتصف بها الحق ولا الحق يتصف بما هو حقيقة للعبد فالجنب لا يمس المصحف أبدا بهذا الاعتبار ولا ينبغي أن يقرأه في هذه الحال‏

[العبد ينبغي أن لا تظهر عليه إلا العبادة المحضة]

وينبغي للعبد أن لا تظهر عليه إلا العبادة المحضة فإنه جنب كله فلا يمس المصحف فإن تخلق فحينئذ تكون يد الحق تمس المصحف فإنه قال عن نفسه في العبد إذا أحبه أنه يده التي يبطش بها فانظر في هذا القرب المفرط وهذا الاتحاد أين هو من بعد الحقائق والله ما عرف الله إلا الله فلا تتعب نفسك يا صاحب النظر ودر مع الحق كيفما دار وخذ منه ما يعرفك به من نفسه ولا تقس فتفتلس لا بل تبتئس وتعلم أن يد الحق طاهرة على أصلها مقدسة كطهارة الماء المستعمل في العبادة فتنبه لما عرفتك به في هذا الفصل‏

(باب قراءة القرآن للجنب)

[آراء العلماء في قراءة الجنب القرآن‏]

اختلف علماء الشريعة في ذلك فمن الناس من منع قراءة القرآن للجنب بحد وبغير حد ومن الناس من أجاز ذلك وأما الوارث عندي فلا يقرأ القرآن جنبا اقتداء بمن ورثه لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ولم يكن يحجزه عن قراءة القرآن شي‏ء ليس الجنابة ولكن الغالب عندي من قرينة الحال أنه كره أن يذكر الله تاليا إلا على طهارة كاملة فإنه تيمم لرد السلام وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال على طهارة

ومن الناس من أجاز للجنب قراءة القرآن بحد وبغير حد وبه أقول بغير حد أيضا ولكن أكرهه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم‏

(وصل الاعتبار في ذلك)

المقتدى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع من قراءة القرآن في الجنابة بغير حد وقد أعلمناك أن الجنابة هي الغربة والغربة نزوح الشخص عن موطنه الذي ربي فيه وولد فيه فمن اغترب عن موطنه حرم عليه الاتصاف بالأسماء الإلهية في حال غربته قال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ كما كان عند نفسه في زعمه فإنه تغرب عن موطنه فهو صاحب دعوى‏

[القرآن ما سمي قرآنا إلا لحقيقة الجمعية التي فيه‏]

والذي أقول في هذه المسألة لأهل التحقيق أن القرآن ما سمي قرآنا إلا لحقيقة الجمعية التي فيه فإنه يجمع ما أخبر الحق به عن نفسه وما أخبر به عن مخلوقاته وعباده مما حكاه عنهم فلا يخلو هذا الجنب في تلاوته إذا أراد أن يتلو إما أن ينظر ويحضر في أن الحق يترجم لنا بكلامه ما قال عباده أو ينظر فيه من حيث المترجم عنه فإن نظر من حيث المترجم عنه فيتلو وبالأول فلا يتلو حتى يتطهر في باطنه وصورة طهارة باطنه أن يكون الحق لسانه الذي يتكلم به كما كان الحق يده في مس المصحف فيكون الحق إذ ذاك هو يتلو كلامه لا العبد الجنب‏

[القرآن محدث من حيث إتيانه قديم من حيث نزوله‏]

ثم إنه للعارف فيما يتلوه الحق عليه من صفات ذاته مما لا يخبر به عن أحد من خلقه ومن كونه كلم عبده بهذا القرآن فليس المقصود من ذلك التعريف إلا قبوله وقبوله لا يكون إلا بالقلب فإذا قبله الايمان لم يمتنع من التلفظ به فإن القرآن في حقنا نزل ولهذا هو محدث الإتيان والنزول قديم من كونه صفة المتكلم به وهو الله‏

[كان الرسول لا يحجزه شي‏ء عن قراءة القرآن ليس الجنابة]

وإنما قول من‏

قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يحجزه عن قراءة القرآن شي‏ء

ليس الجنابة فما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول الراوي وما هو معه في كل أحيانه فالحاصل منه أن يقول ما سمعته يقرأ القرآن في حال جنابته أي ما جهر به ولا يلزم قارئ القرآن الجهر به إلا فيما شرع الجهر به كتلقين المتعلم وكصلاة الجهر والنهي ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما ورد والخير لا يمنع منه‏

(باب الحكم في الدماء)

[الدماء الثلاثة المخصوصة بالمرأة]

اعلم أن الدماء ثلاثة دم حيض ودم استحاضة ودم نفاس وهذه كلها مخصوصة بالمرأة لا حكم للرجل فيها فليكن الاعتبار في ذلك للنفس فإن الغالب عليها التأنيث فإن الله قال فيها النفس اللوامة والمطمئنة فأنثها ولا حظ للقلب في هذه الدماء ولا للروح‏

[الكذب حيض النفوس‏]

فنقول إن أهل الطريق من المتقدمين وجماعة من غيرهم ممن اشترك مع أهل الله في الرياضات والمجاهدات من العقلاء قد أجمعوا على أن الكذب حيض النفوس فليكن الصدق على هذا طهارة النفس من هذا الحيض‏

[اعتبار دم الحيض‏]

فدم الحيض ما خرج على وجه الصحة ودم الاستحاضة ما خرج على وجه المرض فإنه خرج لعلة ولهذا حكم فاعتباره أن حيض النفس وهو الكذب وهو كما قلنا دم يخرج على وجه الصحة فهو الكذب على الله الذي يقول الله تعالى فيه ومن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى الله كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ولَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار

فقوله متعمدا هو خروجه على وجه الصحة

[اعتبار دم الاستحاضة]

وأما صاحب الشبهة فلا فهذا يكذب‏

ويعرف أنه يكذب وصاحب الشبهة يقول إنه صادق عند نفسه وهو كاذب في نفس الأمر وأما اعتبار دم الاستحاضة وهو الكذب لعلة فلا يمنع من الصلاة ولا من الوطء وهذا يدلك على أنه ليس بأذى فإن الحيض هو أذى فيتأذى الرجل بالنكاح في دم الحيض ولا يتأذى به في دم الاستحاضة وإن كان عن مرض فإن هذا الكذب وإن كان يدل على الباطل وهو العدم فإن له رتبة في الوجود وهو التلفظ به وكان المراد به دفع مضرة عما ينبغي دفعها بذلك الكذب أو استجلاب منفعة مشروعة مما ينبغي أن يظهر مثل هذا فيها وبسببها فيكون قربة إلى الله حتى لو صدق في هذا الموطن كان بعدا عن الله أ لا ترى المستحاضة لا تمتنع من الصلاة مع سيلان دمها

[اعتبار دم النفاس‏]

وأما دم النفاس فهو عين دم الحيض فإذا زاد على قدر زمان الحيض أو خرج عن تلك الصفة التي لدم الحيض خرج عن حكم الحيض والعناية بدم النفاس أوجه من العناية بدم الحيض من غير نفاس فإن الله ما أمسكه في الرحم ثم أرسله إلا ليزلق به سبيل خروج الولد رفقا بأمه فيسهل على المرأة به خروج الولد وخروج الولد هو النش‏ء الطاهر الخارج على فطرة الله والإقرار بربوبيته التي كانت له في قبض الذر فكان الدم النفاس بهذا القصد خصوص وصف كالمعين لبقاء ذكر الله بإبقاء الذاكر من جهة وصف خاص ولدم النفاس زمان ومدة في الشرع كما لدم الحيض ودم الاستحاضة ما له مدة يوقف عندها

(باب في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر)

اختلف العلماء في هذا فمن قائل أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما ومن قائل أكثرها عشرة أيام ومن قائل أكثر أيام الحيض سبعة عشر يوما وأما أقل أيام الحيض فمن قائل لا حد له في الأيام وبه أقول فإن أقل الحيض عندنا دفعة ومن قائل أقله يوم وليلة ومن قائل أقله ثلاثة أيام وأما أقل أيام الطهر فمن قائل عشرة أيام ومن قائل ثمانية أيام ومن قائل خمسة عشر ومن قائل سبعة عشر ومن قائل ساعة وبه أقول ولا حد لأكثره‏

(وصل اعتبار هذا الباب)

زمان كذب النفس النية فيمتد بامتداد ما نوته حتى يطهر بالتوبة من ذلك فلا حد لأكثره ولا لأقله وكذلك زمان الطهر لا حد له جملة واحدة فإنه لا حد للصدق غير أنه تحكم عليه المواطن الشرعية بالحمد والذم وأصله الحمد كما أن الكذب تحكم عليه المواطن بالحمد والذم وأصله الذم فالواجب عليه أن يصدق دائما إلا أن يحكم الحال والواجب عليه ترك الكذب دائما إلا أن يحكم عليه حال ما وهو الكذب للعلة فأشبه دم الاستحاضة

(باب في دم النفاس في أقله وأكثره)

اختلف العلماء في هذه المسألة فمن قائل لا حد لأقله وبه أقول ومن قائل حده خمسة وعشرون يوما ومن قائل حده أحد عشر يوما ومن قائل عشرون يوما وأما أكثر زمانه فمن قائل ستون يوما ومن قائل سبعة عشر يوما ومن قائل أربعون يوما ومن قائل للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أربعون يوما والأولى أن يرجع في ذلك إلى أحوال النساء فإنه ما ثبتت فيه سنة يرجع إليها

(وصل اعتباره في الباطن)

لا حد للنية من الزمان كما قلنا في اعتبار دم الحيض فإن دم الحيض هو عين دم النفاس وقد اعتبرناه‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحائض أ نفست‏

بهذا اللفظ

(باب في الدم تراه الحامل)

اختلف فيه هل هو دم حيض أو هو دم استحاضة وحكم كل قائل فيه بحكم ما ذهب إليه‏

(وصل اعتبار حكمه في الباطن)

الحامل صفة النفس إذا امتلأت بالأمر الذي تجده فتبديه على غير وجهه وهو الكذب وقد يكون ذلك عن عادة اعتادها كما قال بعضهم‏

لا يكذب المرء إلا من مهانته *** أو عادة السوء أو من قلة الأدب‏

أما قوله من مهانته فإن الملوك لا تكذب وقوله من قلة الأدب لما جاء في الخبر أن الشخص إذا كذب الكذبة تباعد منه الملك ثلاثين ميلا من نتن ما جاء به فالكاذب فيما لا يجوز له الكذب فيه أساء الأدب مع الملك فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم والإنسان يتأذى بالنتن كذلك الملك لقرب الشبه بين نش‏ء الملك ونش‏ء روح الإنسان‏

(باب في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم ليست بحيض)

اختلف العلماء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا فمن قائل إنها حيض في أيام الحيض ومن قائل لا تكون حيضا إلا بأثر الدم ومن قائل ليست حيضا وبه أقول‏

(وصل اعتباره في الباطن)

الكذب بشبهة ليس صاحبه ممن تعمد الكذب والأولى تركه إذا عرف أن ذلك شبهة فإنها ما سميت شبهة إلا لكونها تشبه الحق من وجه وتشبه الباطل من وجه فالأولى ترك مثل هذا إلا أن يقترن معها دفع مضرة أو حصول منفعة دينية أو دنياوية بخلاف الكذب المحض الذي هو لعينه وهذا لا يقع فيه عاقل أصلا وأما الكذب الذي هو بمنزلة دم الاستحاضة فيعتبر فيه صلاح الدين لصلاح الدنيا

(باب فيما يمنع دم الحيض في زمانه)

اعلم أن الحيض في زمانه يمنع من الصلاة والصيام والوطء والطواف‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

الكذب في المناجاة وهو أن تكون في الصلاة بظاهرك وتكون مع غير الله في باطنك من محرم وغيره اعتباره في الصوم فالصوم هو الإمساك وأنت ما مسكت نفسك عن الكذب كالحائض لا تمسك عن الأكل والشرب وهو الكذب الواجب إتيانه شرعا وهو محمود واعتباره في الطواف بالبيت وهو المشبه بأفضل الأشكال وهو الدور فهو كذب إلى غير نهاية فهو الإصرار على الكذب واعتباره في الجماع أما الجماع فقصد المؤمن به كون الولد والمقدمات إذا كانت كاذبة خرجت النتيجة عن أصل فاسد وقد تصدق النتيجة وقد تكون مثل مقدماتها فالأذى يعود على فاعل الجماع يقول في زمان الكذب لا تحضر الله تعالى بخاطرك فإنه سوء أدب مع الله وقلة حياء منه وجراءة عليه وكيف ينبغي للعبد أن يجرأ على سيده ولا يستحيي منه مع علمه وتحققه أنه يراه قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏

(باب في مباشرة الحائض)

اختلف العلماء في صورة مباشرة الحائض فقال قوم يستباح من الحائض ما فوق الإزار وقال قوم لا يجتنب من الحائض إلا موضع الدم خاصة وبه أقول‏

(وصل اعتباره في الباطن)

قلنا إن الحيض كذب النفوس‏

قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أ يزني المؤمن قال نعم قيل أ يشرب المؤمن قال نعم قيل أ يسرق المؤمن قال نعم قيل له أ يكذب المؤمن قال لا

فإذا رأت نفسك نفسا أخرى تفعل ما لا ينبغي فأكد أن تجتنب من أفعالها الكذب على الله وعلى رسوله والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه‏

[الكذب على الناس مدرجة الكذب على الله‏]

ومن عود نفسه الكذب على الناس يستدرجه الطبع حتى يكذب على الله فإن الطبع يسرقه يقول تعالى ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فتوعد عباده أشد الوعيد إذا هم افتروا على الله الكذب وهذا الحكم سار في كل من كذب على الله وقد ورد فيمن يكذب في حلمه أنه يكلف أن يعقد بين شعيرتين من نار لمناسبة ما جاء به من تأليف ما لا يصح ائتلافه فلم يأتلف في نفس الأمر وكذلك لا يقدر أن يعقد تلك الشعيرتين أبدا وهذا تكليف ما لا يطاق فما عذبه الله يوم القيامة إلا بفعله لا بغير ذلك‏

(باب وطء الحائض قبل الاغتسال وبعد الطهر المحقق)

قال تعالى ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ بسكون الطاء وضم الهاء مخففا وقرئ بفتح الطاء والهاء مشددا فمن قائل بجوازه على قراءة من خفف ومن قائل بعدم جوازه على قراءة من شدد وهو محتمل وبالأول أقول ومن قائل إن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر أمد الحيض في مذهبه ومن قائل إن ذلك جائز إذا غسلت فرجها بالماء وبه أقول أيضا

(وصل) اعتباره في الباطن‏

ما يلقيه المعلم من العلم في نفس المتعلم إذا كان حديث عهد بصفة الدعوى الكاذبة لرعونة نفسه فله أن يلقي إليه من العلم المتعلق بالتكوين ما يؤديه إلى استعمال غسل واحد فرد بنيتين فيكون له الأجر مرتين وإن لم يتب من تلك الدعوى إلا أنه غير قائل بها في الحال فهو طاهر المحل بالغفلة في ذلك الوقت فإن خطر له خاطر الرجوع عن تلك الدعوى فهو بمنزلة المرأة تغسل فرجها بعد رؤية الطهر وإن لم تغتسل فإن تاب من الدعوى بالعمل بذلك الخاطر كان كالاغتسال للمرأة بعد الطهر

(باب من أتى امرأته وهي حائض هل يكفر)

فمن قائل لا كفارة عليه وبه أقول ومن قائل عليه الكفارة

(وصل) اعتباره في الباطن‏

العالم يعطي الحكمة غير

أهلها فلا شك أنه قد ظلمها فمن رأى أن لهذا الفعل كفارة فكفارته أن ينظر من فيه أهلية لعلم من العلوم النافعة عند الله الدينية وهو متعطش لذلك فيبادر من نفسه إلى تعليمه وتبريد غلة عطشه فيضع في محلها وعند أهلها فيكون ذلك كفارة لما فرط في الأول ومن لم ير لذلك كفارة قال يتوب ويستغفر الله وليس عليه طلب تعليم غيره على جهة الكفارة

(باب حكم طهارة المستحاضة)

اختلف علماء الشريعة في طهر المستحاضة ما حكمها فمن قائل ليس عليها سوى طهر واحد إذا عرفت أن حيضتها انقضت ولا شي‏ء عليها لا وضوء ولا غسل وحكمها حكم غير المستحاضة وبه أقول وقسم آخر ممن يقول إنه ما عليها سوى طهر واحد إن عليها الوضوء لكل صلاة وهو أحوط ومن قائل إنها تغتسل لكل صلاة ومن قائل إنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

في مذهبنا أنه ليس على المستحاضة من كونها مستحاضة طهر كذلك النفس إذا كذبت لمصلحة مشروعة أوجب الشرع عليها فيها الكذب أو أباحه لا بل يكون عاصيا إن صدق في تلك الحالة فلا توبة عليها من تلك الكذبة فكما أن دم الاستحاضة ليس عين دم الحيض وإن اشتركا في الدمية والمحل كذلك الكذب المشروع إباحته الحلال ليس عين الكذب المحرم وقوعه منه وإن اشتركا في كونه كذبا وهو الأخبار بما ليس الأمر عليه في نفسه فمن رأى التوبة من كون إطلاق اسم الكذب عليه بالحقيقة وإن كان مباحا أو واجبا كحبيب العجمي في حديثه مع الحسن البصري لما طلبه الحجاج للقتل والحكاية مشهورة قال بالتوبة منه كما قال بغسل المستحاضة للاشتراك في اسم الحيض فإن الاستحاضة استفعال من الحيض‏

(باب في وطء المستحاضة)

اختلف علماء الشريعة فيه على ثلاثة أقوال قول بجوازه وبه أقول وقول بعدم جوازه وقول بعدم جوازه إلا أن يطول ذلك بها

(وصل) اعتباره في الباطن‏

لا يمتنع تعليم من تعلم منه أنه لا يكذب إلا لسبب مشروع وعلة مشروعة فإن ذلك لا يقدح في عدالته بل هو نص في عدالته وقد وقع مثل هذا من الأكابر الكمل من الرجال‏

(أبواب التيمم)

[المعنى اللغوي والشرعي للتيمم‏]

التيمم القصد إلى الأرض الطيبة كان ذلك الأرض ما كان مما يسمى أرضا ترابا كان أو رملا أو حجرا أو زرنيخا فإن فارق الأرض شي‏ء من هذا كله وأمثاله لم يجز التيمم بما فارق الأرض من ذلك إلا التراب خاصة لورود النص فيه وفي الأرض سواء فارق الأرض أو لم يفارق‏

(وصل) اعتباره في الباطن‏

القصد إلى الأرض من كونها ذلولا وهو القصد إلى العبودية مطلقا لأن العبودية هي الذلة والعبادة منها فطهارة العبد إنما تكون باستيفاء ما يجب أن يكون العبد عليه من الذلة والافتقار والوقوف عند مراسم سيده وحدوده وامتثال أوامره فإن فارق النظر من كونه أرضا فلا يتيمم إلا بالتراب من ذلك لأنه من تراب خلق من نحن أبناؤه وبما بقي فيه من الفقر والفاقة من قول العرب تربت يد الرجل إذا افتقر ثم أن التراب أسفل العناصر فوقوف العبد مع حقيقته من حيث نشأته طهوره من كل حدث يخرجه من هذا المقام وهذا لا يكون إلا بعدم وجدان الماء والماء العلم فإن بالعلم حياة القلوب كما بالماء حياة الأرض فكأنه حالة المقلد في العلم بالله والمقلد عندنا في العلم بالله هو الذي قلد عقله في نظره في معرفته بالله من حيث الفكر فكما أنه إذا وجد المتيمم الماء أو قدر على استعماله بطل التيمم كذلك إذا جاء الشرع بأمر ما من العلم الإلهي بطل تقليد العقل لنظره في العلم بالله في تلك المسألة ولا سيما إذا لم يوافقه في دليله كان الرجوع بدليل العقل إلى الشرع فهو ذو شرع وعقل معا في هذه المسألة فاعلم ذلك‏

(باب كون التيمم بدلا من الوضوء باتفاق ومن الكبرى بخلاف)

[آراء الفقهاء في كون التيمم بدلا أم لا عن الماء]

اتفق العلماء بالشريعة أن التيمم بدل من الطهارة الصغرى واختلفوا في الكبرى ونحن لا نقول فيها إنها بدل من شي‏ء وإنما نقول إنها طهارة مشروعة مخصوصة بشروط اعتبرها الشرع فإنه ما ورد شرع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الكتاب العزيز أن التيمم بدل فلا فرق بين التيمم وبين كل طهارة مشروعة وإنما قلنا مشروعة لأنها ليست بطهارة لغوية وسيأتي‏

التفصيل في فصول هذا الباب إن شاء الله تعالى فمن قائل إن هذه الطهارة أعني طهارة التراب بدل من الكبرى ومن قائل إنها لا تكون بدلا من الكبرى وإنما نسب لفظة الصغرى والكبرى للطهارة لعموم الطهارة في الاغتسال لجميع البدن وخصوصها ببعض الأعضاء في الوضوء فالحدث الأصغر هو الموجب للوضوء والحدث الأكبر هو كل حدث يوجب الاغتسال‏

(وصل) اعتباره في الباطن‏

أن كل حدث يقدح في الايمان يجب منه الاغتسال بالماء الذي هو تجديد الايمان بالعلم إن كان من أهل النظر في الأدلة العقلية فيؤمن عن دليل عقلي فهو كواجد الماء القادر على استعماله وإن لم يكن من أهل النظر في الأدلة وكان مقلد ألزمته الطهارة بالإيمان من ذلك الحدث الذي أزال عنه الايمان بالسيف أو حسن لظن فهو المتيمم بالتراب عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعمال الماء

[التقليد في الإيمان‏]

وهذا على مذهب من يرى أن التيمم بدل أيضا من الطهارة الكبرى فيرى التيمم للجنب وأما على مذهب من يرى أن الجنب لا يتيمم كابن مسعود وغيره هو الذي لا يرى التقليد في الايمان بل لا بد من معرفة الله وما يجب له ويجوز ويستحيل بالدليل النظري وقال به جماعة من المتكلمين‏

[القياس في الأحكام الشرعية]

وأما كونه أعني التيمم بدلا من الطهارة الصغرى فهو أن يقدح له حدث في مسألة معينة لا في الايمان لعدم النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع في ذلك فكما جاز له التيمم في هذه الطهارة الصغرى على البدل جاز له القياس في الحكم في تلك المسألة لعلة جامعة بين هذه المسألة التي لا حكم فيها منطوقا به وبين مسألة أخرى منطوق الحكم فيها من كتاب أو سنة أو إجماع‏

[الفقه في الدين ليس هو القياس في الأحكام‏]

ومذهبنا في قولنا إن التيمم ليس بدلا بل هو طهارة مشروعة مخصوصة معينة لحال مخصوص شرعها الذي شرع استعمال الماء لهذه العبادة المخصوصة وهو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فما هي بدل وإنما هو عن استخراج الحكم في تلك المسألة من نص ورد في الكتاب أو في السنة يدخل الحكم في هذه المسألة في مجمل ذلك الكلام وهو الفقه في الدين قال تعالى لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولا يحتاج إلى قياس في ذلك مثال ذلك رجل ضرب أباه بعضا أو بما كان فقال أهل القياس لا نص عندنا في هذه المسألة ولكن لما قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما قلنا فإذا ورد النهي عن التأفيف وهو قليل فالضرب بالعصا أشد فكان تنبيها من الشارع بالأدنى على الأعلى فلا بد من القياس عليه فإن التأفيف والضرب بالعصا يجمعهما الأذى فقسنا الضرب بالعصا المسكوت عنه على التأفيف المنطوق به وقلنا نحن ليس لنا التحكم على الشارع في شي‏ء مما يجوز أن يكلف به ولا التحكم ولا سيما في مثل هذا لو لم يرد في نطق الشرع غير هذا لم يلزمنا هذا القياس ولا قلنا به ولا ألحقناه بالتأفيف وإنما حكمنا بما ورد وهو قوله تعالى وبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فأجمل الخطاب فاستخرجنا من هذا المجمل الحكم في كل ما ليس بإحسان والضرب بالعصا ما هو من الإحسان المأمور به من الشرع في معاملتنا لآبائنا فما حكمنا إلا بالنص وما احتجنا إلى قياس‏

[الدين قد كمل فلا يجوز الزيادة فيه بقياس كما لم يجز النقص منه بتعطيل‏]

فإن الدين قد كمل ولا تجوز الزيادة فيه كما لم يجز النقص منه فمن ضرب أباه بالعصا فما أحسن إليه ومن لم يحسن لأبيه فقد عصى ما أمره الله به أن يعامل به أبويه ومن رد كلام أبويه وفعل ما لا يرضي أبويه مما هو مباح له تركه فقد عقهما وقد ثبت أن عقوق الوالدين من الكبائر فلهذا قلنا إن الطهارة بالتراب وهو التيمم ليس بدلا بل هي مشروعة كما شرع الماء ولها وصف خاص في العمل فإنه بين أنا لا نعمل به إلا في الوجوه ولا يدي والوضوء والغسل ليسا كذلك وينبغي للبدل أن يحل محل المبدل منه وهذا ما حل محل المبدل منه في الفعل والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(باب فيمن تجوز له هذه الطهارة)

[التيمم للمريض والمسافر إذا عدما الماء]

اتفق علماء الشريعة على أن التيمم يجوز للمريض والمسافر إذا عدما الماء وعندنا أو عدم استعمال الماء مع وجوده لمرض قام به يخاف أن يزيد به المرض أو يموت لورود النص في ذلك‏

(وصل اعتباره في الباطن)

المسافر صاحب النظر في الدليل فإنه مسافر بفكره في منازل مقدماته وطريق ترتيبها حتى ينتج له الحكم في المسألة المطلوبة والمريض هو الذي لا تعطي فطرته لنظر في الأدلة لما يعلم من سوء فطرته وقصوره عن بلوغ المقصود من النظر بل الواجب أن يزجر عن النظر ويؤمر بالإيمان تقليدا

[المقلد وصاحب النظر وصاحب الكشف‏]

وقد قلنا فيما قبل إن المقلد في الايمان كالمتيمم بالتراب لأن التراب لا يكون في الطهارة أعني النظافة مثل الماء ولكن نسميه طهورا شرعا أعني التراب خاصة بخلاف الماء فإني أسميه طهورا شرعا وعقلا فصاحب‏

النظر وإن آمن أو لا تقليدا فإنه يريد البحث عن الأدلة والنظر فيما آمن به لا على الشك ليحصل له العلم بالدليل الذي نظر فيه فيخرج من التقليد إلى العلم أو يعمل على ما قلد فيه فينتج له ذلك العمل بالله فيفرق به بين الحق والباطل عن بصيرة صحيحة لا تقليد فيها وهو علم الكشف قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وهو عين ما قلناه وقال واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله وقال الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وقال آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً

[سفر العقل بنظره الفكري وسفر العامل بعمله‏]

وقد ورد أن العلماء ورثة الأنبياء

فسماهم علماء وأن الأنبياء ما ورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم‏

والأخذ للعلم بالمجاهدة والأعمال أيضا سفر فكما سافر العقل بنظره الفكري في العالم سافر العامل بعمله واجتمعا في النتيجة وزاد صاحب العمل أنه على بصيرة فيما علم لا يدخله شبهة وصاحب النظر ما يخلو عن شبهة تدخل عليه في دليله فصاحب العمل أولى باسم العالم من صاحب النظر وسيأتي الكلام فيما يجوز من السفر وفيما لا يجوز في صلاة المسافر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏

(باب في المريض يجد الماء ويخاف من استعماله)

اختلف العلماء بالشريعة في المريض يجد الماء ويخاف من استعماله فمن قائل بجواز التيمم له وبه أقول ولا إعادة عليه ومن قائل لا يتيمم مع وجود الماء سواء في ذلك المريض والخائف ومن قائل في حقهما يتيمم ويعيد الصلاة إذا وجد الماء ومن قائل يتيمم وإن وجد الماء قبل خروج الوقت توضأ وأعاد وإن وجده بعد خروج الوقت لا إعادة عليه‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

المريض هو الذي لا تعطي فطرته النظر وأنه مرض مزمن مع وجود الأدلة إلا أنه يخاف عليه من الهلاك والخروج عن الدين إن نظر فيها لقصوره وقد رأينا جماعة منهم خرجوا عن الدين بالنظر لما كانت فطرتهم معلولة وهم يزعمون أنهم في ذلك على علم صحيح فهم كما قال الله وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فيأخذ مثل هذا إن أراد النجاة العقائد تقليدا كما أخذ الأحكام وليقلد أهل الحديث دون غيرهم وهذا تقليد الحديث النبوي في الله على علم الله فيه من غير تأويل فيه بتنزيه معين ولا تشبيه وعلى هذا أكثر العامة وهم لا يشعرون فهذا هو المريض الذي يجد الماء ويخاف من استعماله في الاعتبار

(باب الحاضر يعدم الماء ما حكمه)

فمن قائل بجواز التيمم له وبه أقول ومن قائل لا يجوز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

الحاضر هو المقيم على عقده الذي ربط عليه من آبائه ومربيه ثم عقل ورجع إلى نفسه واستقل هل يبقى على عقده ذلك أو ينظر في الدليل حتى يعرف الحق فمن قائل يكفيه ما رباه عليه أبواه أو مربيه ويشتغل بالعمل فإن النظر قد يخرجه إلى الحيرة فلا يؤمن عليه فهو الذي قال بالتيمم عند عدم الماء وقد قدمنا أن الماء هو العلم للاشتراك في الحياة به فإن هذا الحاضر الدليل معدوم عنده على الحقيقة فإنه لا يرى مناسبة بين الله وبين خلقه فلا يكون الخلق دليلا ساد على معرفة ذات الحق فبقاؤه عنده على تقليده أولى‏

[عدم التقليد في العقد وعدم النظر في الدليل‏]

ومن قال لا يجوز له التيمم وإن عدم الماء يقول لا يقلد وإن لم ينظر في الدليل فإن الايمان إذا خالط بشاشة القلوب لزمته واستحال رجوعها عنه ولا يدري كيف حصل ولا كيف هو فهو علم ضروري عنده فقد خرج عن حكم ما يعطيه التقليد مع كونه ليس بناظر ولا صاحب دليل وعلى هذا أكثر الناس في عقائدهم فعدم الماء في حق هذا الحاضر هو عدم الأمان على نفسه أن يوقعه النظر في شبهة تخرجه عن الايمان‏

(باب في الذي يجد الماء ويمنعه من الخروج إليه خوف عدو)

اختلف العلماء فيمن هذه حالته فمن قائل يجوز له التيمم وبه أقول ومن قائل لا يتيمم‏

(وصل اعتباره في الباطن)

الخوف من البحث عن الدليل لينظر فيه ليؤديه إلى العلم بالمدلول جهل بعين الدليل أنه دليل فلا بد من أحد الأمرين إما أن يقلد أحدا في أن هذا دليل على أمر ما يعينه له أو يفتقر إلى نظر وفكر فيما ينبغي أن يتخذه دليلا على معرفة الله فإن كان الأول فليبق على تقليده في معرفة الله وهو الذي يقال له تيمم ومن قال لا يجوز له التيمم قال إن هذا الخوف لا يلزمه أن لا ينظر فلينظر لا ولا بد

(باب الخائف من البرد في استعمال الماء)

اختلف العلماء فيمن هذه حاله فمن قائل بجواز التيمم إذا غلب على ظنه أنه يمرض إن استعمل الماء ومن قائل لا يجوز له التيمم وبالأول أقول‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

الصوفي ابن وقته فإن كان وقته الصحة فهو غير مريض أو غير شديد المرض فلا يتيمم فإن الوهم لا ينبغي أن يقضي على العلم والخوف هنا قد يكون وهما فلا يبقى مع تقليده ولينظر في الأدلة ولا بد ومن قال لا يجوز له التيمم وإن كان وقته الخوف فليس بصحيح فإن الخوف علة ومرض فليبق على تقليده ولا بد

(باب النية في طهارة التيمم)

اختلف العلماء في النية في طهارة التيمم فمن قائل إنها تحتاج إلى نية ومن قائل لا تحتاج إلى نية وبالأول أقول فإن الله قال لنا وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ والتيمم عبادة والإخلاص عين النية

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

إذا كان العقد عن علم ضروري أو عن حسن ظن بعالم أو بوالد فلا يحتاج إلى نية فإن شرط النية أن توجد منه عند الشروع في الفعل مقارنة للشروع ومن كانت عقيدته بهذه المثابة فما هو صاحب فعل حتى يفتقر إلى نية فإن إرادة الحق تعالى الذي هو الخالق لذلك الفعل كافية في الباب فإنه لا يوجد شيئا إلا عن تعلق إرادة منه سبحانه لإيجاده ولا يكونه إلا بها قال تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وهذا فعل يوجده في العبد فلا بد من حكم ما ذكر فيه فكان مذهب زفر في هذه المسألة أوجه في باطن الأمر من مذهب الجماعة إلا أن يكون كافر أسلم فهذا يفتقر إلى نية لأنه ما استصحبه شي‏ء من القربة إلى الله بهذا الشرع الخاص المسمى إسلاما ولا كان عنده قبل إسلامه بل كان يرى أن ذلك كفر والدخول فيه يبعد عن الله‏

(باب من لم يجد الماء هل يشترط فيه الطلب أم لا يشترط)

اختلف العلماء فيمن هذه صفته فمن قائل يشترط الطلب ولا بد ومن قائل لا يشترط الطلب وبه أقول‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

لا يلزم المقلد البحث عن دليل من قلد في الفروع ولا في الأصل وإنما الذي يتعين على المقلد إذا لم يعلم السؤال عن الحكم في الواقعة لمن يعلم أنه يعلم من أهل الذكر فيفتيه قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ومن رأى أنه يشترط طلب الماء فهو الذي يطلب من المسئول دليله على ما أفتاه به في مسألته هل هو من الكتاب أو السنة أو يطلب منه أن يقول له هذا حكم الله أو حكم رسوله أخذ به وإن قال له هذا رأيى كما يقول أصحاب الرأي في كتبهم فإنه يحرم عليه اتباعه فيه فإن الله ما تعبده إلا بما شرع له في كتاب أو سنة وما تعبد الله أحدا برأي أحد

(باب اشتراط دخول الوقت في هذه الطهارة)

اختلف أهل العلم رضي الله عنهم في اشتراط دخول الوقت في هذه الطهارة فمن قائل به وبه أقول ومن قائل بعدم هذا الشرط فيها

(وصل اعتباره في الباطن)

الوقت هو عندنا إذا تعين تعلق خطاب الشرع بالمكلف فيما كلفه به ظاهرا وباطنا فهو في الباطن تجل إلهي يرد على القلب فجأة يسمى الهجوم في الطريق‏

(باب في حد الأيدي التي ذكر الله عز وجل في هذه الطهارة)

فإن الله يقول فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فاختلف أهل العلم رضوان الله عليهم في حد الأيدي في هذه الطهارة فمن قائل حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل هو مسح الكف فقط ومن قائل إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان ومن قائل إن الفرض إلى المناكب والذي أقول به إن أقل ما يسمى يدا في لغة العرب يجب فما زاد على أقل مسمى اليد إلى غايته فذلك له وهو مستحب عندي‏

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

لما كان التراب والأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته ثم عرض له عارض الدعوى بكون الرسول قال فيه صلى الله عليه وسلم إنه مخلوق على الصورة وذلك عندنا لاستعداده الذي خلقه الله عليه من قبوله للتخلق بالأسماء الإلهية على ما تعطيه حقيقته فإن في مفهوم الصورة والضمير خلافا فما هو نص في الباب فاعتز لهذه النسبة وعلا وتكبر

فأمر بطهارة نفسه من هذا التكبر بالأرض وبالتراب وهو حقيقة عبوديته فتطهر بنظره في أصل خلقه مم خلق كما قال تعالى فيمن هذه صفته في معرض الدواء لهذا الخاطر الذي أورثه التكبر فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ وهم البنون خُلِقَ من ماءٍ دافِقٍ وهو الماء المهين فإنه من جملة ما ادعاه الاقتدار والعطاء وهو مجبول على العجز والبخل وهذه الصفات من صفات الأيدي فقيل له عند هذه الدعوى ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه والجود والكرم والعطاء طهر نفسك من هذه الصفات بنظرك ما جبلت عليه من الضعف والبخل يقول تعالى ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وقال وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وإذا نظر في هذا الأصل زكت نفسه وتطهر من الدعوى‏

(باب في عدد الضربات على الصعيد للمتيمم)

اختلف العلماء رضي الله عنهم في عدد الضربات على الصعيد للمتيمم فمن قائل واحدة ومن قائل اثنتين والذين قالوا اثنتين منهم من قال ضربة للوجه وضربة لليدين ومنهم من قال ضربتان لليدين وضربتان للوجه ومذهبنا من ضرب واحدة أجزأت عنه ومن ضرب اثنتين لا جناح عليه وحديث الضربة الواحدة أثبت فهو أحب إلي‏

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

التوجه إلى ما تكون به هذه الطهارة فمن غلب التوحيد في الأفعال قال بالضربة الواحدة ومن غلب حكمة السبب الذي وضعه الله ونسب سبحانه الفعل إليه مع تعريته عنه مثل قوله والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فأثبت ونفى قال بالضربتين ومن رأى ذلك في كل فعل قال بالضربتين لكل عضو والله أعلم‏

(باب في إيصال التراب إلى أعضاء المتيمم)

اختلف العلماء رضي الله عنهم في ذلك فمن قائل بوجوبه ومن قائل بأنه لا يجب وإنما يجب إيصال اليد إلى عضو المتيمم بعد ضربة الأرض بيده أو التراب والظاهر الإيصال لقوله منه‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

إذا قلنا بتطهير النفس بالذلة التي هي أصلها من العزة التي ادعتها حين اكتسبتها لم يجب الإيصال فإن الذلة لو نقلناها إلى محل العزة لامتنع حصول الذلة في ذلك المحل لأن الذي في المحل أقوى في الدفع من الذي جاء يذهبه ولو شاركه في المحل لاجتمع الضدان ولم يكن أحدهما أولى بالإزالة من الآخر

[النفس مصروفة الوجه إلى حضرة العز]

وإنما الصحيح في ذلك أن النفس مصروفة الوجه إلى حضرة العز فاكتست من نور العزة ما أداها إلى ما ادعته فقيل لها اصرف وجهك إلى ذلتك وضعفك الذي خلقت منه فإن بقيت عليك أنوار هذه العزة فأنت أنت فقام عندها إنه ربما يبقى عليها ذلك فلما صرفت وجهها إلى ذلتها وضعفها زالت عنها أنوار العزة بالذات فافتقرت إلى بارئها وذلت تحت سلطانه فلهذا قال من قال إنه لا يجب إيصال التراب إلى عضو التيمم ومن قال إن كلمة من هنا للتبعيض وأنه لا بد من إيصال التراب إلى العضو قال إن الصفة لا تقوم بنفسها فلا بد لها ممن تقوم به وليس إلا حقيقة الإنسان فلا بد أن تكون صفته الذلة وحينئذ تصح طهارته وهو قول من يقول بوجوب إيصال التراب إلى عضو التيمم‏

(باب فيما يصنع به هذه الطهارة)

اختلف العلماء فيما عدا التراب فمن قائل لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص ومن قائل يجوز بكل ما صعد على وجه الأرض من رمل وحصى وتراب ومن قائل بمثل هذا وزاد وما تولد من الأرض من نورة وزرنيخ وجص وطين ورخام ومن قائل باشتراط كون التراب على وجه الأرض ومن قائل بغبار الثوب واللبن وأما مذهبنا فإنه يجوز التيمم بكل ما يكون في الأرض مما ينطلق عليه اسم الأرض فإذا فارق الأرض لم يجز من ذلك إلا لتراب خاصة

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

قد تقدم أنه قد زال عنه بالانتقال اسم الأرض وسمي زرنيخا أو حجرا أو رملا أو ترابا ولما ورد النص باسم التراب في التيمم فوجدنا هذا الاسم يستصحبه مع الأرض ومع مفارقة الأرض ولم نجد غيره كذلك أوجبنا التيمم بالتراب سواء فارق الأرض أو لم يفارق والأحكام الشرعية تابعة للأسماء والأحوال وينتقل الحكم بانتقال الاسم أو الحال‏

(باب في ناقض هذه الطهارة)

اتفق العلماء رضي الله عنهم أنه ينقضها كل ما ينقض الوضوء والطهر واختلفوا في أمرين الأمر الواحد إذا أراد المتيمم صلاة مفروضة بالتيمم الذي صلى به غيرها فمن قائل إن إرادة لصلاة الثانية تنقضها ومن قائل لا تنقضها وبه أقول والأولى عندي إن يتيمم ولا بد لأن مذهبنا أن التيمم ليس بدلا من الوضوء وإنما هو طهارة أخرى عينها الشارع بشرط خاص لا على وجه البدل وقد قلنا إن الحكم يتبع الحال وينتقل الحكم بانتقال الأحوال والأسماء

(وصل) اعتبار ذلك في الباطن‏

كما لا يتكرر التجلي كذلك لا نتكرر هذه الطهارة بل لكل تجل طهارة فلكل صلاة تيمم ومن نظر إلى التجلي نفسه من حيث ما هو تجل لا من حيث ما هو تجل في كذا قال يصلي بالتيمم الواحد ما شاء كالمتوضئ لا فرق وهو قولنا

حتى بدت للعين سبحة وجهه *** وإلى هلم فلم تكن إلا هي‏

(باب في وجود الماء لمن حاله التيمم)

فمن قائل إن وجود الماء ينقضها ومن قائل إن الناقض لها هو الحدث‏

(وصل) اعتبار ذلك في الباطن‏

قلنا المقلد يقوم له دليل في مسألة خاصة من الإلهيات يناقض ما أعطاه تقليده للشرع فلا يخرجه ذلك الدليل عن تقليده وإنما يخرجه عن تقليده دليل العقل الذي ثبت به الشرع عنده لا هذا الدليل الخاص فإذا ظهر له نفس الحدث فيما كان يعتقده في تقليده في تلك المسألة يعلم لذلك إن الشارع لم يكن مقصوده هذا الظاهر في هذه المسألة وقد نبهه على ذلك وجود هذا الدليل الطارئ الذي هو بمنزلة وجود الماء فهكذا هي المسألة إذا حققتها

(باب في أن جميع ما يفعل بالوضوء يستباح بهذه الطهارة)

اختلف العلماء رضي الله عنهم هل يستباح بها أكثر من صلاة واحدة فقط فمن قائل يستباح وهو مذهبنا والأولى عندنا له لا يستباح ومن قائل لا يستباح على خلاف يتفرع في ذلك‏

(وصل) اعتبار ذلك في الباطن‏

قد تقدم في تكرار التجلي وقد انتهى الكلام في أمهات مسائل التيمم على الإيجاز والاختصار وما ذهبت العلماء في ذلك والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(انتهى النصف الأول من الجزء الأول من الفتوحات المكية ويليه النصف الثاني أوله أبواب الطهارة من النجس)

الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق والدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي قدس الله روحه ونور ضريحه آمين بقية الجزء الأول‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏

(أبواب الطهارة من النجس)

[آراء الفقهاء في الطهارة من النجس‏]

اعلم أن الطهارة طهارتان طهارة غير معقولة المعنى وهي الطهارة من الحدث المانع من الصلاة وطهارة من النجس وهي معقولة المعنى فإن معناها النظافة وهل هي شرط في صحة الصلاة كطهارة المحدث من الحدث أم هي غير شرط فمن قائل إن الطهارة من النجس فرض مطلق وليست شرطا في صحة الصلاة ومن قائل إنها واجبة كالطهارة من الحدث التي هي شرط في صحة الصلاة ومن قائل إنها سنة مؤكدة ومن قائل إن إزالتها فرض مع الذكر ساقط مع لنسيان‏

(وصل اعتبار ذلك في الباطن)

اعلم أن الطهارة في طريقنا طهارتان طهارة غير معقولة المعنى وهي الطهارة من الحدث والحدث وصف نفسي للعبد فكيف يمكن أن يتطهر الشي‏ء من حقيقته فإنه لو تطهر من حقيقته انتفت عينه وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفا بالعبادة وما ثم إلا الله فلهذا قلنا إن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى فصورة الطهارة من الحدث عندنا أن يكون الحق سمعك وبصرك وكلك في جميع عباداتك فأثبتك ونفاك فتكون أنت من حيث ذاتك ويكون هو من حيث تصرفاتك وإدراكاتك‏

[التكليف للعبد والفعل للرب‏]

فأنت مكلف من حيث وجود عينك محل للخطاب وهو العامل بك من حيث إنه لا فعل لك إذ الحدث لا أثر له في عين الفعل ولكن له حكم في الفعل إذ كان ما كلفه الحق من حركة وسكون لا يعمله الحق إلا بوجود المتحرك والساكن إذ ليس إذا لم يكن العبد موجودا لا لحق والحق تعالى عن الحركة والسكون أو يكون محلا لتأثيره في نفسه فلا بد من حدوث العبد حتى يكون محلا لأثر الحق‏

[حدوث الخلق وأثر الحق‏]

فمن كونه حدثا وجبت الطهارة على العبد منه فإن الصلاة التي هي عين الفعل الظاهر فيه لا يصح أن تكون منه لأنه لا أثر له بل هو سبب من حيث عينيته لظهور الأثر الإلهي فيه فبالطهارة من نظر الفعل لحدثه صحت الأفعال أنها لغيره مع وجود العين لصحة الفعل الذي لا تقبله ذات الحق‏

[الطهارة من النجاسات هي الطهارة بمكارم الأخلاق‏]

وليست هكذا الطهارة من النجس فإن النجس هو سفساف الأخلاق وهي معقولة المعنى فإنها النظافة فالطهارة من النجاسات هي الطهارة بمكارم الأخلاق وإزالة سفسافها من النفوس فهي طهارة النفوس وسواء قصدت بذلك العبادة أو لم تقصد فإن قصدت العبادة ففضل على فضل ونور على نور وإن لم تقصد ففضل لا غير فإن مكارم الأخلاق مطلوبة لذاتها وأعلى منزلتها استعمالها عبادة بالطهارة من النجاسات وإزالة النجاسات من النفوس التي قلنا هي الأخلاق أ فرض عندنا ما هي شرط في صحة العبادة فإن الله قد جعلها عبادة مستقلة مطلوبة لذاتها فهي كسائر الواجبات فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان فمتى ما تذكرها وجبت كالصلاة المفروضة قال تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ثم نذكر الكلام في الأحكام المتعلقة بأعيانها فنقول‏

(باب في تعداد أنواع النجاسات)

اتفق العلماء رضي الله عنهم من أعيانها على أربع على ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو من الميت إذا كان‏

مسفوحا أعني كثيرا وبول ابن آدم ورجيعه إلا لرضيع واختلفوا في غير ذلك‏

(وصل اعتبار الباطن في ميتة الحيوان ذي الدم البري)

اعلم أن الموت موتان موت أصلي لا عن حياة متقدمة في الموصوف بالموت وهو قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فهذا هو الموت الأصلي وهو العدم الذي للممكن إذ كان معلوم العين لله ولا وجود له في نفسه ثم قال تعالى فَأَحْياكُمْ وموت عارض وهو الذي يطرأ على الحي فيزيل حياته وهو قوله تعالى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏

[الموت العارض الذي يطرأ على الحي‏]

وهذا الموت العارض هو المطلوب في هذه المسألة ثم زاد وصفا آخر فقال ذي الدم الذي له دم سائل يقول أي الحيوان الذي له روح سائل أي سار في جميع أجزائه لا يريد من هي حياته عين نفسه التي هي لجميع الموجودات ثم زاد وصفا آخر فقال الذي ليس بمائي يريد الحيوان البري أي الذي في البر ما هو حيوان البحر إذ البحر عبارة عن العلم فيقول لا أريد بالحيوان الموجود في علم الله فإن في ذلك يقع الخلاف وإنما أريد الحيوان الذي ظهرت عينه وكانت حياته بالهواء فبهذه الشروط كلها ثبتت نجاسته بلا خلاف فإذا زال شرط منها لم يكن المطلوب بالاتفاق‏

[حياة العبد عارضة لا ذاتية]

فإذا كانت حياة العبد عارضة لا ذاتية فينبغي إن لا يزهو بها ولا يدعي فلما ادعى وقال أنا وغاب عن شهود من أحياه عرض له الموت العارض أي هذا أصلك فرده إلى أصله ولكن غير طاهر بسبب الدعوى ونسيان من أحياه ثم إنا نظرنا في السبب الموجب لهذه الدعوى قال كونه بريا فقلنا ما معنى كونه بريا فقال حياته من الهواء فعلمنا إن الهوى هو الذي أراده كما قال تعالى ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فكل متردد بين هواءين لا بد من هلاكه كما قال صاحبنا أبو زيد عبد الرحمن الفازازى رحمه الله‏

هوى صحيح وهواء عليل *** صلاح حالي بهما مستحيل‏

أنشدنيها لنفسه بتلمسان سنة تسعين وخمسمائة فكل عبد اجتمعت فيه هذه الشروط اتفق العلماء على أنه نجس‏

[الصفة الخنزيرية: أو التولع بالقاذورات‏]

وأما اعتبار لحم الخنزير فإن لحمه مسرى الحياة الدمية فإن اللحم دم جامد وصفة الخنزيرية وهي التولع بالقاذورات التي تستخبثها النفوس وهي مذام الأخلاق إذا ذهبت الحياة من ذلك للحم كان نجسا وذلك إذا اتفق أن يكون صاحب الخلق المذموم يغيب عن حكم الشرع فيه الذي هو روحه كان في حقه ميتة

[ترك الجزاء على السيئة من مكارم الأخلاق‏]

قال تعالى وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فقال مثلها ولم يقيد من وجه كذا فألحقها بمذام الأخلاق ثم قال فيمن لم يفعلها فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ فنبه على إن ترك الجزاء على السيئة من مكارم الأخلاق ولهذا قلنا بأي شي‏ء ذهبت حياته إذ كانت التذكية لا تؤثر فيه طهارة

[جزاء السيئة سيئة فالعفو خير]

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي طلب القصاص من قاتل من هو وليه فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه أو يقبل الدية فأبى فقال خذه فأخذه فلما قفى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه إن قتله كان مثله يريد قوله تعالى وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فبلغ ذلك القول الرجل فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخلى عن قتله‏

ويبتني على هذا مسألة القبح والحسن وهي مسألة كبيرة خاض الناس فيها وليس هذا الباب موضع الكشف عن حقيقة ذلك وإن كنا قد ذكرناها في هذا الكتاب‏

[الحيوان البري هو العين الموجودة لنفسها لا بنفسها]

والثالث من النجاسات المتفق عليها الدم نفسه من الحيوان البري إذا انفصل عن الحي أو عن الميت وكان كثيرا أعني بحيث أن يتفاحش فقد أعلمناك أن الحيوان البري هو لعين الموجودة لنفسها ما هي الموجود في علم الله كحيوان البحر وأن حياتها بالهواء وأن الدم هو الأصل الذي يخرج من حرارته ذلك البخار الذي تكون منه حياة ذلك الحيوان وهو الروح الحيواني فلما كان الدم أصلا في هذه النجاسة كان هو أولى بحكم النجاسة مما تولد عنه‏

[نجاسة الإنسان إذا كثرت منه الغفلة]

فالذي أورث العبد الدعوى هو العزة التي فطر الإنسان عليها حيث كان مجموع العالم ومضاهيا لجميع الموجودات على الإطلاق فلما غاب عن العناية الإلهية به في ذلك والموت الأصلي الذي نبه الله عليه في قوله وكُنْتُمْ أَمْواتاً وقوله تعالى وقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً وقوله لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً لذلك اتفق العلماء على نجاسته إذا تفاحش أي كثرت منه الغفلة عن هذا المقام فإن لم يتفاحش لم يقع عليه الاتفاق في هذا الحكم‏

[الإنسان الكامل نائب الحق في الأرض ومعلم الملك في السماء]

الرابع بول ابن آدم ورجيعه اعتباره اعلم أنه من شرفت مرتبته وعلت منزلته كبرت صغيرته ومن كان وضيع المنزلة خسيس المرتبة صغرت كبيرته والإنسان شريف المنزلة رفيع المرتبة نائب الحق ومعلم الملائكة فينبغي إن يطهر من عاشره ويقدس من خالطه فلما غفل عن حقيقته اشتغل بطبيعته فصاحبته الأشياء الطاهرة من المشارب والمطاعم أخذ طيبها بطبيعته لا بحقيقته وأخرج خبيثها بطبيعته‏

لا بحقيقته فكان طيبها نجسا وهو الدم وكان خبيثها نجسا وهو البول والرجيع وكان الأولى أن لا يكسبه خبث الروائح فإنه من عالم الأنفاس فكانت نجاسته من حيث طبيعته وكذلك هي من كل حيوان غير أن حقائق الحيوانات وأرواحها ليست في علو الشرف والمنزلة مثل حقيقة الإنسان فكانت زلته كبيرة فاتفقوا بلا خلاف على نجاسته من مثل هذا واختلفوا في سائر أبوال الحيوانات ورجيعها وإن كان الكل من الطبيعة فمن راعى الطبيعة قال بنجاسة الكل ومن راعى منزلة الشرف والانحطاط قال بنجاسة بول الإنسان ورجيعه ولم يعف عنه لعظم منزلته وعفا عمن هو دونه من الحيوانات فقد أبنت لك عن سبب الاتفاق والاختلاف والحمد لله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(باب في ميتة الحيوان الذي لا دم له وفي ميتة الحيوان البحري)

اختلف العلماء في هاتين الميتتين فمن قائل إنها طاهرة وبه أقول ومن قائل بطهارة ميتة البحر ونجاسة ميتة البر التي لا دم لها إلا ما وقع الاتفاق على طهارتها لكونها ليست ميتة كدود الخل وما يتولد في المطعومات ومن قائل بنجاسة ميتة البر والبحر إلا ما لا دم له‏

(وصل اعتباره في الباطن)

قد أعلمناك فيما تقدم آنفا من هذه الطهارة اعتبار الدم فمن قائل بطهارة ميتة الحيوان الذي لآدم له فهو البراءة من الدعوى لأن الحياة المتولدة من الدم فيها تقع الدعوى لا في الحياة التي لجميع الموجودات التي يكون بها التسبيح لله بحمده فإن تلك الحياة طاهرة على الأصل لأنها عن الله من غير سبب يحجبها عن الله ومن قال بطهارة ميتة البحر وإن كان ذا دم فإنه في علم الله ولا حكم على الأشياء في علم الله وإنما تتعلق بها الأحكام إذا ظهرت في أعيانها وهو بروزها من العلم إلى الوجود الحسي وعلى مثل هذا تعتبر بقية ما اختلفوا فيه من ذلك في هذه المسألة انتهى الجزء الرابع والثلاثون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(باب الحكم في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة)

اختلف العلماء رضي الله عنهم في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة مع اتفاقهم على إن اللحم من أجزاء الميتة ميتة وقد بينا اعتبار اللحم في لحم الخنزير واختلفوا في العظام والشعر فمن قائل إنهما ميتة ومن قائل إنهما ليستا بميتة وبه أقول ومن قائل إن العظم ميتة وأن الشعر ليس بميتة

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

لما كان الموت المعتبر في هذه المسألة هو الطارئ المزيل للحياة التي كانت في هذا المحل نظرنا إلى مسمى الحياة فمن جعل الحياة النمو قال إنهما ميتة ومن جعل الحياة الإحساس قال إنهما ليستا بميتة ومن فرق قال إن العظم يحس فهو ميتة والشعر لا يحس فليس بميتة فمن رأى نموه بالغذاء وحسه بالروح الحيواني فهما ميتة سواء عبر بالحياة عن النمو أو عن الحس ومن كان يرى نموه بربه لا بالغذاء وإدراكه المحسوسات بربه لا بالحواس لم يلتفت إلى الواسطة لفنائه بشهود الأصل الذي هو خالقه وإن رأى أن الحق سمعه وبصره وهو عين حسه لم يصح عنده أنه ميتة أصلا وسواء كانت الحياة عبارة عن النمو أو عن الحس‏

(باب الانتفاع بجلود الميتة)

فمن قائل بالانتفاع بها أصلا دبغت أم لم تدبغ ومن قائل بالفرق بين أن تدبغ وبين أن لا تدبغ وفي طهارتها خلاف فمن قائل إن الدباغ مطهر لها ومن قائل إن الدباغ لا يطهرها ولكن تستعمل في اليابسات ثم إن الذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة يعني المباح الأكل من الحيوان واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة فمن قائل إن الدباغ لا يطهر إلا ما تعمل فيه الذكاة فقط وأن الدباغ بدل من الذكاة في إفادة الطهارة ومن قائل إن الدباغ يعمل في طهارة ميتات الحيوانات ما عدا الخنزير ومن قائل بأن الدباغ يطهر جميع ميتات الحيوان الخنزير وغيره‏

[مذهب الشيخ الأكبر في الانتفاع بجلود الميتات وتطهيرها بالدباغ‏]

والذي أذهب إليه وأقول به إن الانتفاع جائز بجلود الميتات كلها وأن الدباغ يطهرها كلها لا أحاشي شيئا من ميتات الحيوان‏

(وصل الاعتبار في ذلك في الباطن)

قد عرفناك مسمى الميتة فالانتفاع لا يحرم بجلدها وهو استعمال الظاهر فمن أخذ في الأحكام بالظاهر من غير تأويل ولا عدول عن ظاهر الحكم الذي يدل عليه اللفظ فلا مانع له من ذلك ولا حجة علينا لمن يقول بما يدل عليه‏

بعض الألفاظ من التشبيه فنقول ما وقفت مع الظاهر فإنه ما جاء الظاهر بالتشبيه لأن المثل وكاف الصفة ليستا في الظاهر فما ذلك الخطاء في المسألة إلا من التأويل واللفظ إذا كان بهذه النسبة مع اللفظ الصريح الذي لا يحتمل التأويل كان إذا قرنته به بمنزلة الميتة من الحي فلما لم نجد من الشارع مانعا من الانتفاع بقينا على الأصل وهو قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ولم يفصل طاهرا من غير طاهر فلا نحكم بطهارته وإن انتفعنا به لا إذا دبغ فهو إذ ذاك طاهر

[اللفظ المحتمل يحكم بظاهره ولا يقطع به‏]

واعتباره أن اللفظ الوارد من الشارع المحتمل فنحكم بظاهره ولا نقطع به إن ذلك هو المراد فإذا اتفق أن نجد نصا آخر في ذلك المحكوم به يرفع الاحتمال الذي أعطاه ذلك اللفظ الآخر طهر ذلك اللفظ الأول من ذلك الاحتمال وكان له هذا الخبر الثاني كالدباغ لهذا الجلد فجمعنا بين الطهارة له في نفسه وهو صرفه بالخبر الثاني إلى أحد محتملاته على القطع وانتفعنا به مثل ما كنا ننتفع به قبل أن يكون طاهرا من حيث انتفاعنا به لا من حيث انتفاعنا به من وجه خاص فإنه قد يكون ذلك الخبر يصرفه عن الظاهر الذي كنا نستعمله فيه إلى أمر آخر من محتملاته فلهذا قلنا من حيث ما هو منتفع به لا من حيث ما هو منتفع به في وجه خاص إذ كان غيرنا لا يرى الانتفاع به أصلا

(باب في دم الحيوان البحري وفي القليل من دم الحيوان البري)

[أقوال الفقهاء في دم الحيوان البحري والبري‏]

اختلف العلماء رضي الله عنهم في دم الحيوان البحري وفي القليل من دم الحيوان البري فمن قائل دم السمك طاهر ومن قائل إنه نجس على أصل الدماء ومن قائل إن القليل من الدماء والكثير واحد في الحكم ومن قائل إن القليل معفو عنه‏

[مذهب الشيخ الأكبر في الدماء]

والذي أذهب إليه أن التحريم ينسحب على كل دم مسفوح من أي حيوان كان ويحرم أكله وأما كونه نجاسة فلا أحكم بنجاسة المحرمات إلا أن ينص الشارع على نجاستها على الإطلاق أو يقف على القدر الذي نص على نجاسته وليس النص بالاجتناب نصا في كل حال فيفتقر إلى قرينة ولا بد فما كل محرم نجس وإن اجتنبناه فما اجتنبناه لنجاسته فإن كونه نجاسة حكم شرعي وقد يكون غير مستقذر عقلا ولا مستخبث‏

(وصل اعتباره في الباطن)

الحكم على الشي‏ء الذي يقتضيه لنفسه لا يشترط فيه وجود عينه ولا تقدير وجود عينه فسواء كان معدوم العين أو موجودا الحكم فيه على السواء سواء كان بطهارته أو عدم طهارته فلا يؤثر كونه في علم الله أو كونه موجودا في عينه أ لا ترى إلى الممكن قد رجح المرجح وجوده على عدمه أو عدمه على وجوده ومع ذلك ما زال عن حكم الإمكان عليه وأن الإمكان واجب له لذاته كما إن الإحالة للمحال واجبة له لذاته كما إن الوجوب للواجب واجب له لذاته فينسحب معقول الوجوب على الواجب لنفسه وكذلك حكم الممكن والمحال لا يتغير حكمه وإن اختلفت المراتب‏

(باب حكم أبوال الحيوانات كلها وبول الرضيع من الإنسان)

[اقوال العلماء في أبوال الحيوانات‏]

اختلف أهل العلم في أبوال الحيوانات كلها وأرواثها ما عدا الإنسان إلا بول الرضيع فمن قائل إنها كلها نجسة ومن قائل بطهارتها كلها على الإطلاق ومن قائل إن حكمها حكم لحومها فما كان منها أكله حلالا كان بوله وروثه طاهرا وما كان منها أكله حراما كان بوله وروثه نجسا وما كان منها لحمه مكروها أكله كان بوله وروثه مكروها

(وصل اعتباره في الباطن)

الطهارة في الأشياء أصل والنجاسة أمر عارض فنحن مع الأصل ما لم يأت ذلك العارض وهذا مذهبنا فالعبد طاهر الأصل في عبوديته لأنه مخلوق على الفطرة وهي الإقرار بالعبودية للرب سبحانه قال الله تعالى وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية إن الله لما خلق آدم قبض على ظهره فاستخرج منه كأمثال الذر ف أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ‏

[باسمه القدوس خلق العالم كله‏]

وكذلك العلم طاهر في تعلقه بمعلومه فمهما عرض تحجير من الحق في أمر ما وعلم ما وقفنا عنده وكذلك الحياة لذاتها طاهرة مطهرة وكل ما سوى الله حي فكل ما سوى الله طاهر بالأصل فباسمه القدوس خلق العالم كله‏

[ما من شي‏ء إلا وهو يسبح بحمد الله‏]

وإنما قلنا كل ما سوى الله حي فإنه ما من شي‏ء والشي‏ء أنكر النكرات إلا وهو يسبح بحمد الله ولا يكون التسبيح إلا من حي وإن كان الله قد أخذ بأسماعنا عن تسبيح الجمادات والنبات والحيوان الذي لا يعقل كما أخذ بأبصارنا عن إدراك حياة الجماد والنبات إلا لمن خرق الله له العادة كرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر من أصحابه حين أسمعهم الله تسبيح الحصى فما كان خرق‏

العادة في تسبيح الحصى وإنما انخرقت العادة في تعلق أسماعهم به وقد سمعنا بحمد الله في بدء أمرنا تسبيح حجر ونطقه بذكر الله‏

[الإنسان حي بثلاثة أنواع من الحياة]

فمن الموجودات ما هو حي بحياتين حياة مدركة بالحس وحياة غير مدركة بالحس ومنها ما هو حي بحياة واحدة غير مدركة بالحس عادة ومنها ما هو حي بثلاثة أنواع من الحياة وهو الإنسان خاصة فإنه حي بالحياة الأصلية التي لا يدركها بالحس عادة وهو أيضا حي بحياة روحه الحيواني وهو الذي يكون به الحس وهو حي أيضا بنفسه الناطقة

[النجاسة في الأشياء عوارض نسب ونسب أمور عدمية]

فالعالم كله طاهر فإن عرض له عارض إلهي يقال له نجاسة حكمنا بنجاسة ذلك المحل على الحد المقدر شرعا خاصة في عين تلك النسبة الخاصة فالنجاسة في الأشياء عوارض نسب وأعظم النجاسات الشرك بالله قال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا فالمشرك نجس العين فإذا آمن فهو طاهر العين أي عين الشرك وعين الايمان فافهم‏

[ما يصدر عن القدوس إلا مقدس‏]

فإنه ما يصدر عن القدوس إلا مقدس ولذا قلنا في النجاسة إنها عوارض نسب والنسب أمور عدمية فلا أصل للنجاسة في العين إذ الأعيان طاهرة بالأصل الظاهرة منه وهنا أسرار لا يمكن ذكرها إلا شفاها لأهلها فإن الكتاب يقع في يد أهله وغير أهله فمن فهم ما أشرنا إليه فقد حصل على كنز عظيم ينفق منه ما بقيت الدنيا والآخرة أي إلى ما لا يتناهى وجوده والله المؤيد معلم الإنسان البيان‏

(باب حكم قليل النجاسات)

اختلف أهل العلم في قليل النجاسات فمن قائل إن قليلها وكثيرها سواء ومن قائل إن قليلها معفو عنه وهؤلاء اختلفوا في حد القليل ومن قائل إن القليل والكثير سواء إلا الدم وقد تقدم الكلام في الدم‏

[مذهب الشيخ الأكبر في حكم النجاسات‏]

وعندنا إن القليل والكثير سواء إلا ما لا يمكن الانفكاك عنه ولا يعتبر في ذلك منع وقوع الصلاة بها أو وقوعها فإن ذلك حكم آخر والتفصيل في ذلك قد ورد في الشرع فيوقف عنده ولا يتعدى فإنه لا يلزم من كونه نجاسة عدم صحة الصلاة بها فقد يعفو الشرع عن بعض ذلك في موضع وقد لا يعفو في موضع وللأحوال في ذلك تأثير

فقد أزال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة من دم حلمة أصاب نعله ولم يبطل صلاته ولا أعاد ما صلى به‏

(وصل اعتباره في الباطن)

أما اعتباره في الباطن فمذام الأخلاق والجهالات وإساءة الظنون في بعض المواطن قليل ذلك وكثيره سواء وفي ذلك حكايات وأقوال لأهل الله والتفصيل الوارد في الخلاف في الطاهر يعتبر بحسبه فإنه قد تقدم في الفصول قبل هذا كيف تؤخذ وجوه الاعتبار فيه في الباطن‏

(باب حكم المني)

اختلف علماء الشريعة في المني هل هو طاهر أو نجس فمن قائل بطهارته ومن قائل بنجاسته‏

(وصل اعتباره في الباطن)

التكوين منه طبيعي ومنه غير طبيعي وبينهما فرقان إن شئنا اعتبرنا وإن شئنا لم نعتبره فإن التكوين الطبيعي لا فرق عندنا بينه وبين التكوين غير الطبيعي فإن التكوين الطبيعي من حيث الوجه الخاص المعلوم عند أهل الله المنصوص عليه في القرآن صادر عن حضرة التقديس والاسم القدوس ومن غير ذلك الوجه الخاص فهو صادر عن مثله وهو الذي أيضا نقول فيه عالم الخلق وعالم الأمر

[عالم الخلق وعالم الأمر]

فكل موجود عند سبب مخلوق مما سوى الله هو عالم الخلق وكل ما لم يوجد عند سبب مخلوق فهو عالم الأمر والكل على الحقيقة عالم الأمر إلا إنا لا يمكننا رفع الأسباب من العالم فإن الله قد وضعها ولا سبيل إلى رفع ما وضعه الله‏

[المحتجب بنفسه عن ربه ليس بطاهر]

فأقول إنه من احتجب بنفسه عن ربه فليس بطاهر ولما كان خروج المني غالبا يستغرق لذته الإنسان بل الحيوان كله حتى يفنى عن ربه إلا عن حكم الخارج منه وهو المني كان المني غير طاهر ولهذا أمرنا بالتطهير منه أي التطهير العام لجميع أجزاء البدن لأنه يَخْرُجُ من بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ ومن راعى أن الحق ما تولى التكوين الطبيعي إلا به حكم بطهارته لأن الحال اختلف عليه فإنه دم مقصور قصرته المثانة فتغير عن الدمية فتغير الحكم وهو أولى فالمني عندنا طاهر إلا أن يخالطه شي‏ء نجس لا يتمكن تخليصه منه وحينئذ نحكم به أنه نجس بما طرأ عليه كما كان أصله وعينه دما فلو بقي على صورته في أصله من الدمية إذا خرج حكمنا بنجاسته شرعا

(باب في المحال التي تزال عنها النجاسة)

أما المحال التي تزال عنها النجاسة شرعا فهي ثلاثة الثياب والأبدان أبدان المكلفين والمساجد

(وصل اعتباره في الباطن)

فالثياب الباطنة الصفات فإن لباس الباطن صفاته يقول إمرؤ القيس لعنيزة

وإن كنت قد ساءتك مني خليقة *** فسلي ثيابي من ثيابك تنسل‏

أراد ما لبسه من ثياب مودتها في قلبه يقول الله ولِباسُ التَّقْوى‏ ذلِكَ خَيْرٌ وهو موجه عندي لقرائن الأحوال مثل قوله تعالى فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ سواء إن تفطنت لما أراد هنا بالتقوى واعتبار الأبدان القلوب والأرواح فاعلم واعتبار المساجد مواطن المناجاة وأحوالها الإلهية

(باب في ذكر ما تزال به هذه النجاسات من هذه المحال)

اتفق العلماء بالشريعة على إن الماء الطاهر المطهر يزيلها من هذه المحال الثلاثة وعندنا كل ما يزيل عينها فهو مزيل من تراب وحجر ومائع ويعتبر اللون في بقاء عينها إن كانت ذات لون يدركه البصر ولا يعتبر بقاء الرائحة مع ذهاب العين لعلم عندنا آخر

(وصل الاعتبار في ذلك)

إن العلم الذي أنتجته التقوى في قوله تعالى واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله وقوله إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فذلك العلم هو المزيل المطهر هذه المحال الثلاثة التي ذكرناها وهي في الباطن الصفات والقلوب والأحوال التي قلنا إنها الثياب والأبدان والمساجد

[النسبة بين الحجارة والقلوب‏]

واتفق العلماء أيضا أن الحجارة تزيلها من المخرجين وهو المعبر عنه في الشرع بالاستجمار ولا يصح عندي الاستجمار بحجر واحد فإنه نقيض ما سمي به الاستجمار فإن الجمرة الجماعة وأقل الجماعة اثنان والاعتبار هنا في محل الاتفاق إن الحجارة لما أوقع الله النسبة بينها وبين القلوب في أمور منها ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ من بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً والقسوة مما ينبغي أن يتطهر منها كانت ما كانت فإنها من نجاسات القلوب المأخوذ بها والمعفو عنها

[الأحجار التي يتفجر منها الأنهار]

وإِنَّ من الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وهي من القلوب العلوم الغزيرة الواسعة المحيطة بأكثر المعلومات وتفجرها خروجها على ألسنة العلماء للتعليم في الفنون المختلفة

[الأحجار التي تشقق فيخرج منها الماء]

وإن من الحجارة لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وهي القلوب التي تغلب عليها الأحوال فتخرج في الظاهر على ألسنة أصحابها بقدر ما يشقق منها وبقدر العلم الذي فيها فينتفع بها الناس‏

[الأحجار التي تهبط من خشية الله‏]

وإن من الحجارة لَما يَهْبِطُ من خَشْيَةِ الله وهبوط القلوب المشبهة بالحجارة في هبوطها هو نزولها من عزتها إلى عبوديتها ونظرها في عجزها وقصورها بالأصالة وقد قلنا إن الماء هو المطهر المزيل للنجاسات من هذه المحال فالأحجار التي هي منابع هذا الماء حكمها في إزالة النجاسة من المخرجين حكم ما خرج منها وهو العلم في الاعتبار كما إن الخشية مما يتطهر بها فإن الخشية من خصائص العلماء بالله المرضيين عنهم المطلوب منهم الرضي عن الله قال تعالى إِنَّما يَخْشَى الله من عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقال رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏

[العلم الطاهر المطهر]

والعلم طاهر مطهر ولا سيما العلم الذي هو تنتجه التقوى فإن غيره من العلوم وإن كان طاهرا مطهرا فما هو في القوة مثل هذا العلم الذي نشير إليه فالخشية المنعوت بها الأحجار هي التي أدتها إلى الهبوط وهو التواضع من الرفعة التي أعطاها الله فإنه لما وصفها بالهبوط علمنا إن الأحجار التي في الجبال يريد والجبال الأوتاد التي سكن الله بها ميد الأرض فلما جعلها أوتادا أورثها ذلك فخر العلو منصبها فنزلت هذه الأحجار هابطة من خشية الله لما سمعت الله يقول تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ ولا فَساداً والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والإرادة من صفات القلوب فنزلت من علوها وإن كان بربها هابطة من خشية الله حذرا أن لا يكون لها حظ في الدار الآخرة التي تنتقل إليها وأعني بالدار الآخرة هنا دار سعادتها فإن في الآخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة فكانت لهذا طاهرة مطهرة

[تجليات الحق على القلوب‏]

وأما اختصاص تطهيرها المخرجين واعتبر المخرجين اللذين هما مخرج الكثيف وهو الرجيع واللطيف وهو البول فاعلم إن للحق سبحانه في القلوب تجليين التجلي الأول في الكثائف وهو تجليه في الصور التي تدركها الأبصار والخيال مثل رؤية الحق في النوم فأراه في صورة تشبه الصور المدركة بالحس وقد قال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فيزيل هذا العلم من قلبك تقيد الحق بهذه الصور التي تجلى لك فيها في حال نومك أو في حال تخيلك في عبادتك إذ قال لك رسوله صلى الله عليه وسلم عنه تعالى لا عن هواه فإنه صلى الله عليه وسلم ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏

اعبد الله كأنك تراه‏

فجاء بكان وهي تعطي الحقائق‏

[تجلى الخيال‏]

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لمن قال أنا مؤمن حقا فما حقيقة إيمانك فقال كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا فأتى بكان والرؤية وقال له رسول الله صلى الله عليه‏

وسلم عرفت فالزم‏

فشهد له بالمعرفة وهذا هو التجلي الآخر فإن تجلى الخيال ألطف من تجلى الحس بما لا يتقارب ولهذا يسرع إليه التقلب من حال إلى حال كما هو باطن الإنسان هنا كذلك يكون ظاهره في النشأة الآخرة

[سوق مجلى الصورة في الجنة]

وقد ورد أن في الجنة سوقا لا يباع فيه ولا يشترى لكنه مجلى الصور فمن اشتهى صورة دخل فيها كالذي هو باطن الإنسان اليوم‏

[علم الخشية طهر القلب من التشبيه والتقييد]

فإذا جعل العابد معبوده بحيث يراه كأنه أنزله من قلبه منزلة من يراه ببصره من غير أن يكون هناك صورة من خارج كما كانت في تجلى المنام فإذا حدده هذا التخيل والحق لا حد له سبحانه يتقيد به فطهره علم الخشية وهو الحجر الذي ذكرناه من تقييد الحدود فطهر القلب إنما هو بالخشية من مثل هذا التشبيه والتقييد إذ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ

[المائعات والجامدات المزيلة للنجاسات‏]

فهذا اعتبار اتفاق العلماء بأن الحجارة تطهر المخرجين واختلفوا فيما عدا ما ذكرناه من الاتفاق عليه من المائعات والجامدات التي تزيل النجاسات من المحال التي ذكرناها فمن قائل إن كل مائع وجامد في أي موضع كان إذا كان طاهرا فإنه يزيل عين النجاسة وبه أقول ومن قائل بالمنع على الإطلاق إلا ما وقع عليه الاتفاق من الماء والاستجمار وقد ذكرناهما

(باب منه) اختلفوا في الاستجمار بالعظم والروث اليابس‏

[أقوال الفقهاء في الاستجمار بالعظم والروث ونحوهما]

فمنع من ذلك قوم وأجازوا الاستجمار بغير ذلك مما ينقى واستثني من ذلك قوم ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز وقد جاء في العظم أنه طعام إخواننا من الجن واستئنت طائفة أن لا يستجمر بما في استعماله سرف كالذهب والياقوت أما تقييدهم بأن في ذلك سرفا فليس بشي‏ء فلو عللوه بأمر آخر يعقل كان أحسن ولكن ينبغي أن ينظر في مثل هذا فإن كان الذهب مسكوكا وعليه اسم الله أو اسم من الأسماء المجهولة عنده من طريق لسان أصحابها خوفا من أن يكون ذلك من أسماء الله بذلك اللسان أو يكون عليه صورة فيجتنب الاستجمار به لأجل هذا لا لكونه ذهبا ولا ياقوتا وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط وقوم أجازوا الاستجمار بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم ومن قائل بجواز الاستجمار بكل طاهر ونجس انفرد به الطبري دون الجماعة

(وصل في اعتبار ما ذكرناه في الباطن)

إذا صح الإنقاء من الأخلاق المذمومة والجهالات بأي شي‏ء صح بخلق حسن أو بخلق آخر سفساف وبعلم شريف لشرف معلومه أو بعلم دون ذلك مما لا أثر له في المحل إلا الإنقاء جاز استعماله في إزالة هذه النجاسة وإلى هذا منزع الطبري فيما شذ فيه دون الجماعة ومن راعى في الإزالة ما يزال به لا ما يزال وتتبع الشرع وما فصله في ذلك المشرع فهو على حسب ما يفهم من الشارع في تفقهه في دين الله فإن فطر الناس مختلفة في الفهم عن الله وهو محل الاجتهاد فلا يزيل عين النجاسة إلا بالذي يغلب على فهمه من مقصود الشارع ما هو وهو الأولى وهذا يسرى في الحكم الظاهر والباطن سواء فأغنى عن التفصيل‏

(باب في الصفة التي بها تزال هذه النجاسات)

[تعدد كيفية استعمال الماء في التطهير]

وهي غسل ومسح ونضح وصب وهو صب الماء على النجاسة كما

ورد في الحديث لما بال الأعرابي في المسجد فصاح به الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزرموه حتى إذا فرغ من بوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دعا بذنوب من ماء فصبه عليه‏

فهذه حالة لا تسمى غسلا ولا مسحا ولا نضحا فلهذا زدنا الصب ولم يأت بهذه اللفظة العلماء وأدخلوا هذا الفعل تحت الغسل فاكتفوا بلفظ الغسل عن الصب فرأينا إن الإفصاح به بلفظ الصب أولى لأن الراوي ذكره بلفظ الصب ولم يسمه غسلا

[تعدد كيفيات التطهير بالماء لاختلاف النجاسات‏]

واعلم أنه ما اختلفت هذه المراتب إلا لاختلاف النجاسات تخفيفا عن هذه الأمة فإن المقصود زوال عينها الموجود المعين أو المتوهم فبأي شي‏ء زال الوهم أو العين من هذه الصفات استعملت في إزالته واستعمال الأعم منها يدخل فيه الأخص فيغني عن استعمال الأخص إن فهمت كالغسل فإنه أعمها فيغني عن الكل والشارع قد صب وغسل ومسح ونضح وهو الرش وقد وردت في ذلك كله أخبار محلها كتب الفقه‏

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

إن الخلق المذموم إن وجدنا صفة إذا استعملناها أزالت جميع الأخلاق المذمومة استعملناها فهي كالغسل الذي يعم جميع الصفات المزيلة لأعيان النجاسات وتوهمها وهو الأولى والأيسر وإن تعذر ذلك فينظر في كل خلق مذموم وينظر إلى الصفة المزيلة لعينه فيستعملها في إزالة ذلك الخلق لا غير هذا هو ربط هذا الباب‏

[حكمة الشرع في النشأتين وفي الصورتين‏]

وفي هذا الباب‏

اختلاف كثير في المسح والنضح والعدد ليس هذا موضعه إلا إن فتح الله ويؤخر في الأجل فنعمل كتابا في اعتبارات أحكام الشرع كلها في جميع الصور واختلاف العلماء فيه ليجمع بين الطريقتين ونظهر حكمة الشرع في النشأتين والصورتين أعني الظاهر والباطن ليكون كتابا جامعا لأهل الظاهر وأهل الاعتبار في الباطن والموازين الباحثين عن النسب والله المؤيد لا رب غيره‏

(باب في آداب الاستنجاء ودخول الخلأ)

[الآثار النبوية في الاستنجاء ودخول الخلاء]

وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة وأوامر مثل النهي عن الاستنجاء باليمين ومس الذكر باليمين عند البول وعدم الكلام على الحاجة والتعوذ عند دخول الخلأ وهي كثيرة جدا فمن قائل بأنها كلها محمولة على الندب وعليه جماعة الفقهاء

[قانون الباطن وقانون الظاهر في السير والسلوك‏]

وأما في الاعتبار فهي كلها واجبة فإن الباطن ما حكمه في أوامر الحق حكم الظاهر فإن الله ما ينظر من الإنسان إلا إلى قلبه فيجب على العبد أن لا يزال قلبه طاهرا أبدا لأنه محل نظر الله منه والشرع ينظر إلى ظاهر الإنسان ويراعيه في الدار الدنيا دار التكليف أكثر من باطنه‏

[الدار الآخرة فيها تبلى السرائر]

وفي الآخرة بالعكس هنالك تُبْلَى السَّرائِرُ وهنا يراعي الشرع أيضا الباطن في أفعال مخصوصة أوجب الشرع عليه فعلها وأفعال مخصوصة ندبه الشرع إليها وأفعال مخصوصة خيره الشرع بين فعلها وتركها وأفعال مخصوصة حرم الشرع عليه فعلها وأفعال مخصوصة كره الشرع له فعلها والحكم في الترك كذلك‏

[أقوال الفقهاء في آداب الاستنجاء ودخول الخلاء]

واختلفوا من هذه الآداب في استقبال القبلة بالغائط والبول واستدبارها فكانوا فيها على ثلاثة مذاهب فمن قائل إلى أنه لا يجوز استقبال القبلة الغائط أو بول أصلا في أي موضع كان ومن قائل إنه يجوز ذلك بإطلاق وبه أقول والتنزه عن ذلك أولى وأفضل ومن قائل إنه يجوز ذلك في الكنف المبنية ولا يجوز في الصحاري ولكل قائل حجة من خبر يستند إليه ذكر ذلك علماء الشريعة في كتبهم‏

(وصل اعتبار الباطن في ذلك)

[الله في قبلة المصلي‏]

لما

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في قبلة المصلي وأن العبد إذا صلى واجه ربه‏

فمن فهم من ذلك أن لقبلة المعلومة إليها نسب كون الله أو نسب إليها في حال صلاة المصلي خاصة فمن فهم إن المراد القبلة بتلك النسبة لم يجز استقبال القبلة عند الحاجة لسوء الأدب ومن فهم أن المراد حال المصلي أجاز استقبال القبلة عند الحاجة فإنه غير مصل الصلاة المخصوصة بالصفة المعلومة

[روح الصلاة هو الحضور مع الله‏]

ومن رأى روح الصلاة وهو الحضور مع الله دائما ومناجاته كانت جميع أفعاله صلاة فلم يقل بالمنع من استقبال القبلة عند الحاجة فإنه في روح الصلاة لا ينفك دائما وهم أهل الحضور مع الله على الدوام والمشار إليهم بقوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ اعتبارا فأما من لم يخطر له خاطر الحضور مع الله إلا في وقت الحاجة فذلك خاطر شيطاني لا يعول عليه ويجتنب استقبال القبلة ولا بد عندنا من هذه حالته فإنه من عمل الشيطان وقد أمرنا باجتناب عمل الشيطان في قوله إنه رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ‏

[البناء والمدن حال الجمعية شبيه بجمعية الأسماء الإلهية]

وأما من يرى الاستقبال في الكنف المبنية دون الصحاري فإن الكنف المبنية والمدن حال الجمعية فتشبه جمعية الأسماء الإلهية فما من شي‏ء إلا وهو مرتبط بحقيقة إلهية به كانت معقوليته فإن المعدوم مرتبط بالتنزيه فلا يخلو صاحب هذا الحال عن مشاهدة ربه من حيث تلك الحقيقة فإن البناء والمدن دلتاه على ذلك فجاز له أن يستقبل القبلة وأن يكون بحكم الوطن‏

[الاختيار من العبد تقييد لرؤية الحقيقة الإلهية]

وأما في الصحراء فهو وحده فلا مانع له من ترك استقبال القبلة بالحاجة فيتأدب ولا يستقبل احتراما لقول الشارع فإنه ما في الصحراء حالة تقيده لرؤية حقيقة إلهية إلا اختياره ولا ينبغي للعبد أن يكون له اختيار مع سيده قال تعالى ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ فما اختار المدن والكنف المبنية ما كان لهم الخيرة فيما لم يختره لهم فليس لهم أن يختاروا بل يقفون عند المراسم الشرعية فإن الشارع هو الله تعالى فيستعمل بهذا النظر جميع الأخبار الواردة في استقبال القبلة بالحاجة واستدبارها والنهي عن ذينك‏

[القول الجامع في الطهارات‏]

فقد أثبتنا في هذا الباب من فصول الطهارة ما يجري مجرى الأصول والقول الجامع في الطهارة هو أن نقول الطهارة من الإنسان المعقولة المعنى بما يزيلها أي شي‏ء كان من البراهين جدلية كانت أو وجودية فإن الغرض إزالتها لا بما تزال ما لم يكن الذي تزال به يؤثر نجاسة في المحل فاذن ما زالت النجاسة وأما التي هي غير معقولة المعنى فطهارتها موقوفة على ما ينص الله تعالى في ذلك أو رسوله فيزيلها بذلك فإن شاء الحق عرفك بمعناه ونسبته فتكون إزالتها في حقك عن علم محقق وإذ لم يكن ذلك فهو المسمى بالتعبد وهو المعنى المطلق‏



Bazı içeriklerin Arapçadan Yarı Otomatik olarak çevrildiğini lütfen unutmayın!