الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة سر الشريعة ظاهرا وباطنا وأىّ اسم إلهى أوجدها | |
|
وهي التي قلنا فيها النار ناران نار كلها لهب *** ونار معنى على الأرواح تطلع وهي التي ما لها سفع ولا لهب *** لكن لها ألم في القلب ينطبع [من نعيم جنات الاختصاص]وكذلك أهل الجنة يعطيهم الله من الأماني والنعيم المتوهم فوق ما هم عليه فما هو إلا أن الشخص منهم يتوهم ذلك أو يتمناه فيكون فيه بحسب ما يتوهمه إن تمناه معنى كان معنى أو توهمه حسا كان محسوسا أي ذلك كان وذلك النعيم من جنات الاختصاص ونعيمها وهو جزاء لمن كان يتوهم هنا ويتمنى أن لو قدر وتمكن أن يكون ممن لا يعصي الله طرفة عين وأن يكون من أهل طاعته وأن يلحق بالصالحين من عباده ولكن قصرت به العناية في الدنيا فيعطي هذا التمني في الجنة فيكون له ما تمناه وتوهمه وأراحه الله في الدنيا من تلك الأعمال الشاقة ولحق في الآخرة بأصحاب تلك الأعمال في الدرجات العلى وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي لا قوة له ولا مال له فيرى رب المال الموفق يتصدق ويعطي في فك الرقاب ويوسع على الناس ويصل الرحم ويبني المساجد ويعمل أعمالا لا يمكن أن يصل إليها إلا رب المال ويرى أيضا من هو أجلد منه على العبادات التي ليس في قوة جسمه أن يقوم بها ويتمنى أنه لو كان له مثل صاحبه من المال والقوة لعمل مثل عمله قال صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء ومعنى ذلك أنه يعطي في الجنة مثل ذلك التمني من النعيم الذي أنتجته تلك الأعمال فيكون له ما تمنى وهو أقوى في اللذة والتنعم مما لو وجده في الجنة قبل هذا التمني فلما انفعل عن تمنيه كان النعيم به أعلى فمن جنات الاختصاص ما يخلق الله له من همته وتمنيه فهو اختصاص عن عمل معقول متوهم وتمن لم يكن له وجود ثمرة في الدنيا وهو الذي عنينا بالاختصاص في قولنا مراتب الجنة مقسومة *** ما بين أعمال وبين اختصاص فيا أولي الألباب سبقا على *** نجب من أعمالكم لا مناص إن بلي لم تعط أطفالنا *** من أثر الأعمال غير الخلاص لأنه لم يك شرعا لهم *** فهو اختصاص ما لديه انتقاص فأردنا بالاختصاص الثاني ما لا يكون عن تمن ولا توهم وأردنا بالاختصاص الأول ما يكون عن تمن وتوهم الذي هو جزاء عن تمن وتوهم في الدنيا [الأماني المذمومة]وأما الأماني المذمومة فهي التي لا يكون لها ثمرة ولكن صاحبها يتنعم بها في الحال كما قيل أماني إن تحصل تكن أحسن المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا ولكن تكون حسرة في المال وفيها قال الله تعالى وغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ الله وفيها يقال أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأَحْسَنُ مَقِيلًا لأنه لا مفاضلة بين الخير والشر فما كان خير أصحاب الجنة أفضل وأحسن إلا من كونه واقعا وجوديا محسوسا فهو أفضل من الخير الذي كان الكافر يتوهمه في الدنيا ويظن أنه يصل إليه بكفره لجهله فلهذا قال فيه خير وأحسن الله فأتى بنية المفاضلة وهي أفعل من كذا فافهم هذا المعنى والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (الباب السادس والستون في معرفة سر الشريعة ظاهرا وباطنا وأي اسم إلهي أوجدها)طلب الجليل من الجليل جلالا *** فأبى الجليل يشاهد الإجلالا لما رأى عز الإله وجوده *** عبد الإله يصاحب الإدلالا وقد اطمأن بنفسه متعززا *** متجبرا متكبرا مختالا أنهى إليه شريعة معصومة *** فأذله سلطانها إذلالا نادى العبيد بفاقة وبذلة *** يا من تبارك جده وتعالى [الأسماء الإلهية لسان حال تعطيها الحقائق]قال الله عز وجل قُلْ لَوْ كانَ في الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ من السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا وقال تعالى وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فاعلم إن الأسماء الإلهية لسان حال تعطيها الحقائق فاجعل بالك لما تسمع ولا تتوهم الكثرة ولا الاجتماع الوجودي وإنما أورد في هذا الباب ترتيب حقائق معقولة كثيرة من جهة النسب لا من جهة وجود عيني فإن ذات الحق واحدة من حيث ما هي ذات ثم إنه لما علمنا من وجودنا وافتقارنا وإمكاننا أنه لا بد لنا من مرجح نستند إليه وأن ذلك المستند لا بد أن يطلب وجودنا منه نسبا مختلفة كنى الشارع عنها بالأسماء الحسنى فسمى بها من كونه متكلما في مرتبة وجوبية وجوده الإلهي الذي لا يصح أن يشارك فيه فإنه إله واحد لا إله غيره [اجتماع الأسماء في حضرة المسمى وظهور أحكامها]فأقول بعد هذا التقرير في ابتداء هذا الأمر والتأثير والترجيح في العالم الممكن إن الأسماء اجتمعت بحضرة المسمى ونظرت في حقائقها ومعانيها فطلبت ظهور أحكامها حتى تتميز أعيانها بآثارها فإن الخالق الذي هو المقدر والعالم والمدبر والمفصل والباري والمصور والرزاق والمحيي والمميت والوارث والشكور وجميع الأسماء الإلهية نظروا في ذواتهم ولم يروا مخلوقا ولا مدبرا ولا مفصلا ولا مصورا ولا مرزوقا فقالوا كيف العمل حتى تظهر هذه الأعيان التي تظهر أحكامنا فيها فيظهر سلطاننا فلجأت الأسماء الإلهية التي تطلبها بعض حقائق العالم بعد ظهور عينه إلى الاسم الباري فقالوا له عسى توجد هذه الأعيان لتظهر أحكامنا ويثبت سلطاننا إذ الحضرة التي نحن فيها لا تقبل تأثيرنا فقال الباري ذلك راجع إلى الاسم القادر فإني تحت حيطته [الممكنات في حال عدمها وكيفية ظهور أعيانها]وكان أصل هذا أن الممكنات في حال عدمها سألت الأسماء الإلهية سؤال حال ذلة وافتقار وقالت لها إن العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضا وعن معرفة ما يجب لكم من الحق علينا فلو أنكم أظهرتم أعياننا وكسوتمونا حلة الوجود أنعمتم علينا بذلك وقمنا بما ينبغي لكم من الإجلال والتعظيم وأنتم أيضا كانت السلطنة تصح لكم في ظهورنا بالفعل واليوم أنتم علينا سلاطين بالقوة والصلاحية فهذا الذي نطلبه منكم هو في حقكم أكثر منه في حقنا فقالت الأسماء إن هذا الذي ذكرته الممكنات صحيح فتحركوا في طلب ذلك فلما لجئوا إلى الاسم القادر قال القادر أنا تحت حيطة المريد فلا أوجد عينا منكم إلا باختصاصه ولا يمكنني الممكن من نفسه إلا أن يأتيه أمر الآمر من ربه فإذا أمره بالتكوين وقال له كن مكنني من نفسه وتعلقت بإيجاده فكونته من حينه فالجئوا إلى الاسم المريد عسى أنه يرجح ويخصص جانب الوجود على جانب العدم فحينئذ نجتمع أنا والآمر والمتكلم ونوجدكم فلجئوا إلى الاسم المريد فقالوا له إن الاسم القادر سألناه في إيجاد أعياننا فأوقف أمر ذلك عليك فما ترسم فقال المريد صدق القادر ولكن ما عندي خبر ما حكم الاسم العالم فيكم هل سبق علمه بإيجادكم فنخصص أو لم يسبق فإنا تحت حيطة الاسم العالم فسيروا إليه واذكروا له قضيتكم فساروا إلى الاسم العالم وذكروا ما قاله الاسم المريد فقال العالم صدق المريد وقد سبق علمي بإيجادكم ولكن الأدب أولى فإن لنا حضرة مهيمنة علينا وهي الاسم الله فلا بد من حضورنا عنده فإنها حضرة الجمع فاجتمعت الأسماء كلها في حضرة الله فقال ما بالكم فذكروا له الخبر فقال أنا اسم جامع لحقائقكم وإني دليل على مسمى وهو ذات مقدسة له نعوت الكمال والتنزيه فقفوا حتى أدخل على مدلولي فدخل على مدلوله فقال له ما قالته الممكنات وما تحاورت فيه الأسماء فقال اخرج وقل لكل واحد من الأسماء يتعلق بما تقتضيه حقيقته في الممكنات فإني الواحد لنفسي من حيث نفسي والممكنات إنما تطلب مرتبتي وتطلبها مرتبتي والأسماء إلهية كلها للمرتبة لا لي إلا الواحد خاصة فهو اسم خصيص بي لا يشاركني في حقيقته من كل وجه أحد لا من والأسماء ولا من المراتب ولا من الممكنات [الميزان المعلوم والحد المرسوم والإمام المعصوم]فخرج الاسم الله ومعه الاسم المتكلم يترجم عنه للممكنات والأسماء فذكر لهم ما ذكره المسمى فتعلق العالم والمريد والقائل والقادر فظهر الممكن الأول من الممكنات بتخصيص المريد وحكم العالم فلما ظهرت الأعيان والآثار في الأكوان وتسلط بعضها على بعض وقهر بعضها بعضا بحسب ما تستند إليه من الأسماء فادى إلى منازعة وخصام فقالوا إنا نخاف علينا أن يفسد نظامنا ونلحق بالعدم الذي كنا فيه فنبهت الممكنات الأسماء بما ألقى إليها الاسم العليم والمدبر وقالوا أنتم أيها الأسماء لو كان حكمكم على ميزان معلوم وحد مرسوم بإمام ترجعون إليه يحفظ علينا وجودنا ونحفظ عليكم تأثيراتكم فينا لكان أصلح لنا ولكم فالجئوا إلى الله عسى يقدم من يحد لكم حدا تقفون عنده وإلا هلكنا وتعطلتم فقالوا هذا عين المصلحة وعين الرأي ففعلوا ذلك فقالوا إن الاسم المدبر هو ينهي أمركم فانهوا إلى المدبر الأمر فقال أنا لها فدخل وخرج بأمر الحق إلى الاسم الرب وقال له افعل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان هذه الممكنات فاتخذ وزيرين يعينانه على ما أمر به الوزير الواحد الاسم المدبر والوزير الآخر المفصل قال تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ الذي هو الإمام فانظر ما أحكم كلام الله تعالى حيث جاء بلفظ مطابق للحال الذي ينبغي أن يكون الأمر عليه [السياسة الحكمية والنواميس الوضعية]فحد الاسم الرب لهم الحدود ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة وليبلوهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وجعل الله ذلك على قسمين قسم يسمى سياسة حكمية ألقاها في فطر نفوس الأكابر من الناس فحدوا حدودا ووضعوا نواميس بقوة وجدوها في نفوسهم كل مدينة وجهة وإقليم بحسب ما يقتضيه مزاج تلك الناحية وطباعهم لعلمهم بما تعطيه الحكمة فانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم وسموها نواميس ومعناها أسباب خير لأن الناموس في العرف الاصطلاحي هو الذي يأتي بالخير والجاسوس يستعمل في الشر فهذه هي النواميس الحكمية التي وضعها العقلاء عن إلهام من الله من حيث لا يشعرون لمصالح العالم ونظمه وارتباطه في مواضع لم يكن عندهم شرع إلهي منزل ولا علم لواضع هذه النواميس بأن هذه الأمور مقربة إلى الله ولا تورث جنة ولا نارا ولا شيئا من أسباب الآخرة ولا علموا أن ثم آخرة وبعثا محسوسا بعد الموت في أجسام طبيعية ودارا فيها أكل وشرب ولباس ونكاح وفرح ودارا فيها عذاب وآلام فإن وجود ذلك ممكن وعدمه ممكن ولا دليل لهم في ترجيح أحد الممكنين بل رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها فلهذا كان مبني نواميسهم ومصالحهم على إبقاء الصلاح في هذه الدار ثم انفردوا في نفوسهم بالعلوم الإلهية من توحيد الله وما ينبغي لجلاله من التعظيم والتقديس وصفات التنزيه وعدم المثل والتشبيه ونبه من يدري ومن علم ذلك من لا يدري وحرضوا الناس على النظر الصحيح وأعلموهم أن للعقول من حيث أفكارها حدا تقف عنده لا تتجاوزه وأن لله على قلوب بعض عباده فيضا إلهيا يعلمهم فيه من لدنه علما ولم يبعد ذلك عندهم وإن الله قد أودع في العالم العلوي أمورا استدلوا عليها بوجود آثارها في العالم العنصري وهو قوله تعالى وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فبحثوا عن حقائق نفوسهم لما رأوا أن الصورة الجسدية إذا ماتت ما نقص من أعضائها شيء فعلموا أن المدرك والمحرك لهذا الجسد إنما هو أمر آخر زائد عليه فبحثوا عن ذلك الأمر الزائد فعرفوا نفوسهم ثم رأوا أنه يعلم بعد ما كان يجهل فعلموا أنها وإن كانت أشرف من أجسادها فإن الفقر والفاقة يصحبها فاعتلوا بالنظر من شيء إلى شيء وكلما وصلوا إلى شيء رأوه مفتقرا إلى شيء آخر حتى انتهى بهم النظر إلى شيء لا يفتقر إلى شيء ولا مثله شيء ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء فوقفوا عنده وقالوا هذا هو الأول وينبغي أن يكون واحدا لذاته من حيث ذاته وأن أوليته لا تقبل الثاني ولا أحديته لأنه لا شبه له ولا مناسب فوحدوه توحيد وجود ثم لما رأوا أن الممكنات لأنفسها لا تترجح لذاتها علموا أن هذا الواحد أفادها الوجود فافتقرت إليه وعظمته بأن سلبت عنه جميع ما تصف ذواتها به فهذا حد العقل [السياسة الشرعية والنواميس الإلهية]فبينا هم كذلك إذ قام شخص من جنسهم لم يكن عندهم من المكانة في العلم بحيث أن يعتقدوا فيه أنه ذو فكر صحيح ونظر صائب فقال لهم أنا رسول الله إليكم فقالوا الإنصاف أولى انظروا في نفس دعواه هل ادعى ما هو ممكن أو ادعى ما هو محال فقالوا إنه قد ثبت عندنا بالدليل أن لله فيضا إلهيا يجوز أن يمنحه من يشاء كما أفاض ذلك على أرواح هذه الأفلاك وهذه العقول والكل قد اشتركوا في الإمكان وليس بعض الممكنات بأولى من بعض فيما هو ممكن فما بقي لنا نظر إلا في صدق هذا المدعي أو كذبه ولا نقدم على شيء من هذين الحكمين بغير دليل فإنه سوء أدب مع علمنا فقالوا هل لك دليل على صدق ما تدعيه فجاءهم بالدلائل فنظروا في دلالته وفي أدلته ونظروا أن هذا الشخص ما عنده خبر مما تنتجه الأفكار ولا عرف منه فعلموا إن الذي أوحى في كل سماء أمرها كان مما أوحاه في كل سماء وجود هذا الشخص وما جاء به فأسرعوا إليه بالإيمان به وصدقوه وعلموا أن الله قد أطلعه على ما أودعه في العالم العلوي من المعارف ما لم تصل إليه أفكارهم ثم أعطاه من المعرفة بالله ما لم يكن عندهم ورأوا نزوله في المعارف بالله إلى العامي الضعيف الرأي بما يصلح لعقله من ذلك وإلى الكبير العقل الصحيح النظر بما يصلح لعقله من ذلك فعلموا أن الرجل عنده من الفيض الإلهي ما هو وراء طور العقل وأن الله قد أعطاه من العلم به والقدرة عليه ما لم يعطه إياهم فقالوا بفضله وتقدمه عليهم وآمنوا به وصدقوه واتبعوه فعين لهم الأفعال المقربة إلى الله تعالى وأعلمهم بما خلق الله من الممكنات فيما غاب عنهم وما يكون منه سبحانه فيهم في المستقبل وجاءهم بالبعث والنشور والحشر والجنة والنار [أصل وضع الشريعة الإلهية في العالم]ثم إنه تتابعت الرسل على اختلاف الأزمان واختلاف الأحوال وكل واحد منهم يصدق صاحبه ما اختلفوا قط في الأصول التي استندوا إليها وعبروا عنها وإن اختلفت الأحكام فتنزلت الشرائع ونزلت الأحكام وكان الحكم بحسب الزمان والحال كما قال تعالى |


