الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة منزل الصفات القائمة المنقوشة بالقلم الإلهى فى اللوح المحفوظ الإنسانى من الحضرة الإجمالية الموسوية والمحمدية وهما من أسنى الحضرات | |
|
من الله أن يعطيه كتابه بعتقه من النار فجعل الناس وأصحابه يلومونه ويعرفونه أن فلانا مزح معك وهو لا يصدقهم بل بقي مستمرا على حاله فبينا هو كذلك إذ سقطت عليه ورقة من الجو من جهة الميزاب فيها مكتوب عتقه من النار فسر بها وأوقف الناس عليها وكان من آية ذلك الكتاب أنه يقرأ من كل ناحية على السواء لا يتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها فعلم الناس أنه من عند الله وأما في زماننا فاتفق لامرأة أنها رأت في المنام كأن القيامة قد قامت وأعطاها الله ورقة شجرة فيها مكتوب عتقها من النار فمسكتها في يدها واتفق أنها استيقظت من نومها والورقة قد انقبضت عليها يدها ولا نقدر على فتح يدها وتحس بالورقة في كفها واشتد قبض يدها عليها بحيث إنه كان يؤلمها فاجتمع الناس عليها وطمعوا أن يقدروا على فتح يدها فما استطاع أحد على فتح يدها من أشد ما يمكن من الرجال فسألوا عن ذلك أهل طريقنا فما منهم من عرف سر ذلك وأما علماء الرسم من الفقهاء فلا علم لهم بذلك وأما الأطباء فجعلوا ذلك لخلط قوى أنصب إلى ذلك العضو فأثر فيه ما أثر فقال بعض الناس لو سألنا فلانا يريدون إياي بذلك ربما وجدنا عنده علما بذلك فجاءوني بالمرأة وكانت عجوزا ويدها مقبوضة قبضا يؤلمها فسألتها عن رؤياها فأخبرتني كما أخبرت الناس فعرفت السبب الموجب لقبض يدها عليها فجئت إلى أذنها وساررتها فقلت لها قربى يدك من فمك وانوي مع الله إنك تبتلعين تلك الورقة التي تحسين بها في كفك فإنك إذا نويت ذلك وعلم الله صدقك في ذلك فإن يدك تنفتح فقربت المرأة يدها من فيها وألزقته وفتحت فاها ونوت مع الله ابتلاع الورقة فانفتحت يدها وحصلت الورقة في فمها فابتلعتها وانفتح يدها فتعجب الحاضرون من ذلك فسألوني عن علم ذلك فقلت لهم إن مالك بن أنس إمام دار الهجرة اتفق في زمانه وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان يقرأ الفقه على شيوخه وكان ذا فطنة وذكاء فاتفق في ذلك الزمان أن امرأة غسلت ميتة فلما وصلت إلى فرجها ضربت بيدها على فرج الميتة وقالت يا فرج ما كان أزناك فالتصقت يدها بالفرج والتحمت به فما استطاع أحد على إزالة يدها فسئل فقهاء المدينة ما الحكم في ذلك فمن قائل يقطع يدها ومن قائل يقطع من بدن الميتة قدر ما مسكت عليه اليد وطال النزاع في ذلك بين الفقهاء أي حرمة أوجب علينا حرمة الميت فلا نقطع منه شيئا أو حرمة الحي فلا يقطع فقال لهم مالك أرى أن الحكم في ذلك أن تجلد الغاسلة حد الفرية فإن كانت افترت فإن يدها تنطلق فجلدت الغاسلة حد الفرية فانطلقت يدها فتعجب الفقهاء من ذلك ونظروا مالكا من ذلك الوقت بعين التعظيم وألحقوه بالشيوخ كما كان عمر بن الخطاب يلحق عبد الله بن عباس بأهل بدر في التعظيم لعظم قدره في العلم ولما علمت أنا بما ألقى الله في نفسي أن الله غار على تلك الورقة أن لا يطلع عليها أحد من خلق الله وأن ذلك سر خص الله به تلك المرأة قلت لها ما قلت فانفتحت يدها وابتلعت تلك الورقة ويحوي هذا المنزل على علم الجنان والنار وعلم مواقف القيامة وعلم الأحوال الأخروية وعلم الشرائع وعلم ما السبب الموجب الذي لأجله عرفت الرسل مقاديرها مع علو منزلتهم عند الله والفرق بين منزلتهم عند الله ومنزلتهم عند الناس المؤمنين بهم وبأي عين ينظر إليهم الحق وبأي اسم يخاطبهم وعلم التنزيه والتقديس والعظمة وما حضرة الربوبية من حضرات بقية الأسماء المقيدة والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب السادس عشر وثلاثمائة في معرفة منزل الصفات القائمة المنقوشة بالقلم الإلهي في اللوح المحفوظ الإنساني من الحضرة الإجمالية الموسوية والمحمدية وهما من أسنى الحضرات»سر الدواة والقلم *** علم الحدوث والقدم وذاك مخصوص بمن *** نودي بعبدي فقدم لحضرة من ذاته *** كان له فيها قدم وكان من قولهم له *** في رتبة العلم قدم وجاء يسعى راكبا *** وماشيا على قدم وكان قد مازجهم *** مزاج لحم مع دم وألحق الكون إذا *** أشهده الحق العدم فسره في كونه *** كمثله حين عدم ولم يكن في وقته *** صاحب أقدام تذم فشرط كل تائب *** عزم صحيح وندم لما أتى حضرته *** جاء بذل وخدم وعند ما أبصره *** عينا على العرش حزم فجادت العين له *** إذ كان من بعض الخدم وعند ما يخرج من *** مقامه ذاك خدم [أسرى رسول الله بجسمه]اعلم أيدك الله أيها الولي الحميم والصفي الكريم نور الله بصيرتك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لما كان خلقه القرآن وتخلق بالأسماء وكان الله سبحانه ذكر في كتابه العزيز أنه تعالى اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ على طريق التمدح والثناء على نفسه إذ كان العرش أعظم الأجسام فجعل لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من هذا الاستواء نسبة على طريق التمدح والثناء عليه به حيث كان أعلى مقام ينتهي إليه من أسرى به من الرسل وذلك يدل أنه أسرى به صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بجسمه ولو كان الإسراء به رؤيا لما كان الإسراء ولا الوصول إلى هذا المقام تمدحا ولا وقع من الإعراب في حقه إنكار على ذلك لأن الرؤيا يصل الإنسان فيها إلى مرتبة رؤية الله تعالى وهي أشرف الحالات وفي الرؤيا ما لها ذلك الموقع من النفوس إذ كل إنسان بل الحيوان له قوة الرؤيا فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن نفسه على طريق التمدح لكونه جاء بحرف الغاية وهو حتى فذكر أنه أسرى به حتى ظهر لمستوي يسمع فيه صريف الأقلام وهو قوله تعالى لِنُرِيَهُ من آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فالضمير في أنه هو يعود على محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإنه أسرى به فرأى الآيات وسمع صريف الأقلام فكان يرى الآيات ويسمع منها ما حظه السماع وهو الصوت فإنه عبر عنه بالصريف والصريف الصوت قال النابغة له صريف صريف القعو بالمسد فدل أنه بقي له من الملكوت قوة ما لم يصل إليه بجسمه من حيث هو راء ولكن من حيث هو سميع فوصل إلى سماع أصوات الأقلام وهي تجري بما يحدث الله في العالم من الأحكام وهذه الأقلام رتبتها دون رتبة القلم الأعلى ودون اللوح المحفوظ فإن الذي كتبه القلم الأعلى لا يتبدل وسمي اللوح بالمحفوظ من المحو فلا يمحي ما كتب فيه وهذه الأقلام تكتب في ألواح المحو والإثبات وهو قوله تعالى يَمْحُوا الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ومن هذه الألواح تتنزل الشرائع والصحف والكتب على الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ولهذا يدخل في الشرائع النسخ ويدخل في الشرع الواحد النسخ في الحكم وهو عبارة عن انتهاء مدة الحكم لا على البدا فإن ذلك يستحيل على الله وإلى هنا كان يتردد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في شأن الصلوات الخمسين بين موسى وبين ربه إلى هذا الحد كان منتهاه فيمحو الله عن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما شاء من تلك الصلوات التي كتبها في هذه الألواح إلى أن أثبت منها هذه الخمسة وأثبت لمصليها أجر الخمسين وأوحى إليه أنه لا يبدل القول لديه فما رجع بعد ذلك من موسى في شأن هذا الأمر ومن هذه الكتابة ثُمَّ قَضى أَجَلًا وأَجَلٌ مُسَمًّى ومن هذه الألواح وصف نفسه سبحانه بأنه تعالى يتردد في نفسه في قبضه نسمة المؤمن بالموت وهو قد قضى عليه ومن هذه الحقيقة الإلهية التي كني عنها بالتردد الإلهي يكون سريانها في التردد الكوني في الأمور والحيرة فيها وهو إذا وجد الإنسان أن نفسه تتردد في فعل أمر ما هل يفعله أو لا يفعله وما تزال على تلك الحال حتى يكون أحد الأمور التي ترددت فيها فيكون ويقع ذلك الأمر الواحد ويزول التردد فذلك الأمر الواقع هو الذي ثبتت في اللوح من تلك الأمور المتردد فيها وذلك أن القلم الكاتب في لوح المحو يكتب أمرا ما وهو زمان الخاطر الذي يخطر للعبد فيه فعل ذلك الأمر ثم تمحى تلك الكتابة يمحوها الله فيزول ذلك الخاطر من ذلك الشخص لأنه ما ثم رقيقة من هذا اللوح تمتد إلى نفس هذا الشخص في عالم الغيب فإن الرقائق إلى النفوس من هذه الألواح تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع بمحوها فإذا أبصر القلم موضعها من اللوح ممحوا كتب غيرها مما يتعلق بذلك الأمر من الفعل أو الترك فيمتد من تلك الكتابة رقيقة إلى نفس ذلك الشخص الذي كتب هذا من أجله فيخطر لهذا الشخص ذلك الخاطر الذي هو نقيض الأول فإن أراد الحق إثباته لم يمحه فإذا ثبت بقيت رقيقة متعلقة بقلب هذا الشخص وثبتت فيفعل ذلك الشخص ذلك الأمر أو يتركه بحسب ما ثبت في اللوح فإذا فعله أو ثبت على تركه وانقضى فعله محاه الحق من كونه محكوما بفعله وأثبته صورة عمل حسن أو قبيح على قدر ما يكون ثم إن القلم يكتب أمرا آخر هكذا الأمر دائما وهذه الأقلام هذه مرتبتها والموكل بالمحو ملك كريم على الله تعالى هو الذي يمحو على حسب ما يأمره به الحق تعالى والإملاء على ذلك الملك والأقلام من الصفة الإلهية التي كنى عنها في الوحي المنزل على رسوله بالتردد ولو لا هذه الحقيقة الإلهية ما اختلف أمران في العالم ولا حار أحد في أمر ولا تردد فيه وكانت الأمور كلها حتما مقضيا كما إن هذا التردد الذي يجده الناس في نفوسهم حتم مقضي وجوده فيهم إذ كان العالم محفوظا بالحقائق وعدد هذه الأقلام التي يجري على حكم كتابتها الليل والنهار ثلاثمائة قلم وستون قلما على عدد درج الفلك فكل قلم له من الله علم خاص ليس لغيره ومن ذلك القلم ينزل العلم إلى درجة معينة من درجات الفلك فإذا نزل في تلك الدرجة ما نزل من الكواكب التي تقطعها بالسير من الثمانية الأفلاك تأخذ من تلك الدرجة من العلم المودع من ذلك القلم بقدر ما تعطيه قوة روحانية ذلك الكوكب فتحرك بذلك فلكها فيبلغ الأثر إلى الأركان فتقبل من ذلك الأثر بحسب استعداد ذلك الركن ثم يسرى ذلك الأثر من الأركان في المولدات فيحدث فيها ما شاء الله بحسب ما قبلته من الزيادة والنقصان في جسم ذلك المولد أو في قواه وفي روحه وفي علمه وجهله ونسيانه وغفلته وحضوره وتذكره ويقظته كل ذلك بتقدير العزيز العليم وتحدث الأيام بحركة الفلك الكبير ويتعين الليل والنهار في اليوم بحكم الحركة الكبيرة اليومية على حركة فلك الشمس فإنها تحت حوطته وجعل الأرض كثيفة لا تنفذها أنوار الشمس لوجود الليل الذي هو ظل الأرض ولهذا يكبر النهار في أماكن ويصغر وكذلك يكبر الليل ويصغر وبه تقع الزيادة عندنا بالليل والنهار وبهذا الليل والنهار الموجودين في المعمور من الأرض بهما تعد أيام الأفلاك وأيام الرب وكل يوم ذكر وهو قوله تعالى وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني من أيامنا هذه المعلومة ونحن نعلم قطعا إن الأماكن التي يكون فيها النهار من ستة أشهر والليل كذلك إن ذلك يوم واحد في حق ذلك الموضع فيوم ذلك الموضع ثلاثمائة يوم وستون يوما مما نعده فقد أنبأتك بمكانة هذه الأقلام التي سمع صوت كتابتها رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من العلم الإلهي ومن يمدها وإلى أي حقيقة إلهية مستندها وما أثرها في العالم العلوي من الأملاك والكواكب والأفلاك وما أثرها في العناصر والمولدات وهو كشف عجيب يحوي على أسرار غريبة من أحكام هذه الأقلام تكون جميع التأثيرات في العالم دائما ولا بد لها أن تكتب وتثبت انتثار الكواكب وانحلال هذه الأجرام الفلكية وخراب هذه الدار الدنياوية وانتقال العمارة في حق السعداء إلى الجنان العلية التي أرضها سطح الفلك الثامن وجهنم إلى أسفل سافلين وهي دار الأشقياء وقد ذكرنا ذلك في هذا الكتاب في باب الجنة وفي باب النار وأما القلم الأعلى فأثبت في اللوح المحفوظ كل شيء يجري من هذه الأقلام من محو وإثبات ففي اللوح المحفوظ إثبات المحو في هذه الألواح وإثبات الإثبات ومحو الإثبات عند وقوع الحكم وإنشاء أمر آخر فهو لوح مقدس عن المحو فهو الذي يمده القلم الإلهي باختلاف الأمور وعواقبها مفصلة مسطرة بتقدير العزيز العليم ولقلوب الأولياء من طريق الكشف الإلهي الحقيقي في التمثيل من هذه الأقلام كشف صحيح كما مثلت الجنة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في عرض الحائط وإنما قلنا إن ذلك الممثل حقيقة مع كونه ممثلا لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أ رأيتمونى حين تقدمت أردت أن أقطف منها قطفا لو أخرجته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ولما مثلت له النار تأخر عن قبلته لئلا يصيبه من لهبها ورأى فيها ابن لحي وصاحب المحجن وصاحبة الهرة وكان ذلك في صلاة كسوف الشمس وقد قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله في قبلة المصلي وقد رأى الجنة والنار في قبلته كما إن الحائط في قبلته [أن لله تعالى أسماء تختص بالجنة وأهلها]واعلم أن لله تعالى أسماء تختص بالجنة وأهلها وأن لله تعالى أسماء تختص بالنار وأهلها وأن الحق يناجيه المصلي من حيث أسماؤه لا من حيث ذاته إذ كانت ذاته تتعالى عن الحد والمقدار والتقييد فاعلم بما نبهتك عليه إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما زال الحق يناجيه في قبلته وفي صلاته وما أخرجه مشاهدة الجنان والنار ومن فيها وحركته بالتقدم والتأخر عن كونه مصليا ظاهرا وباطنا وإنما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بهذا كله في حال الصلاة أعلاما لنا بما يخطر لنا في صلاتنا من مشاهدة أمورنا من بيع وشراء وأخذ وعطاء وتصريف خواطر المصلي في الأكوان المتجلية له في باطنه في حال صلاته وقد قال عمر عن نفسه إنه كان يجهز الجيش وهو في صلاته فكان خبر النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لنا بما شاهده في صلاته إن ذلك لا يقدح في الصلاة المشروعة لنا كما يعتقده بعض عامة الفقهاء ممن لا علم له بالأمور وربما بعض الصالحين يتخيلون أن هذا كله مما يبطل الصلاة ويخرج الإنسان عن الحضور مع الحق ما الأمر على ذلك بل كل ما يشاهده المصلي في صلاته من الأكوان هو حق وهو من الصلاة لمن عقل ما المراد بالصلاة وكما لم يقدح في صلاته ما تشاهده عينه من المحسوسات التي في قبلته التي ظهرت لبصره بوجودها وذواتها من العوالم وحركاتهم ولا يخرجه ذلك عن كونه مصليا بلا خلاف ويكره للمصلي أن يغمض عينيه في صلاته فكذلك أيضا ما يتجلى لعين بصيرته وقلبه من مثل الخواطر وصور الأمور التي تعرض له في باطنه وهي من عند الله وعين بصيرته مفتوح مثل عين حسه فكل صورة ممثلة تجلى له الحق بها في باطنه كما تجلى له في المحسوسات في ظاهره فلا بد أن يدركها بعين بصيرته وقلبه كما أدرك صور المحسوسات ببصره وكما أنه لم يخرجه ذلك عن كونه مصليا على حد ما شرع له مع استقباله القبلة بوجهه كذلك لا يخرجه ما شاهده في باطنه من صور الأكوان عن كونه مصليا على حد ما شرع له مع استقباله ربه وذلك الاستقبال هو المعبر عنه بالنية المطلوبة منه عند الشروع في تلك العبادة فمن لا علم له بالأمور يقدح هذا عنده فإن احتج أحد بقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الركعتين اللتين يصليهما العبد عقيب الوضوء لا يحدث نفسه فيهما بشيء فليس بحجة وما فهم ما أراده رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما حقق نظره في لفظه بما ذا قيده صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فإنه قيده بالحديث مع نفسه وهذه الصور التي يرى المصلي نفسه فيها إنما يشاهدها بعين قلبه وما تعرض الشارع إلا لمن يحدث لا لمن يبصر لأنه ليس في قوته إن يغمض عين قلبه عما تجلى له الحق من الصور ثم قيد الحديث منه مع نفسه فإن تحدث مع ربه أو مع الصورة التي تتجلى له في صلاته فإن ذلك لا يقدح في صلاته وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في صلاته إذا مر في تلاوته بآية استغفار استغفر وبآية رغبة سأل الله في نيل ما تدل عليه وما أخرجه شيء من ذلك عن كونه مصليا ولا حدثت له نية أخرى تخرجه عن صلاته كما لم يتحول في ظاهره إلى جهة أخرى غير جهة قبلته فما دام المصلي لم يتحول عن قبلته بوجهه ولا أحدث نية خروج عن صلاته فصلاته صحيحة مقبولة ذلك من فضل الله على عباده ورحمته بهم وما كل إنسان يعلم خطاب الحق عباده وما أراده منهم وأما الحديث المروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما يقبل من الصلاة عشرها إلى أن وصل إلى نصفها إلى ما عقل منها فلم يصح ولو صح لما قدح فيما ذكرناه [علم الإجمال وعلم التفصيل]واعلم أن هذا المنزل منزل عظيم جليل القدر له بالنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم اختصاص عظيم وهذا القدر الذي ذكرنا منه فيه غنية لمن نظر واستبصر فلنذكر ما يحوي عليه من العلوم فإن أبواب الكتاب كثيرة ويطول الكلام فيها مع كثرتها فيتعذر تحصيله على من يريده فاعلم أنه يحوي على علم الإجمال وهل في علم الله إجمال أو لا يعلم الأشياء إلا على التفصيل وهي غير متناهية ويحوي على علم التفصيل ويحوي على العلم الذي بين الإجمال والتفصيل وهو علم غريب لا يعرفه القليل من العلماء بالله فكيف الكثير وفيه علم الدواوين وترتيبها وفيه علم الأجور والمستحقين لها مع كونهم عبيدا ولم سمي العبد أجيرا فإنه مشعر بأن له نسبة إلى نسبة الفعل الصادر منه إليه فتكون الإجارة من تلك النسبة ومنها طلب العون على خدمة سيده ومن أية جهة تعين الفرض عليه ابتداء قبل الأجرة والأجير لا يفترض عليه إلا حتى يؤجر نفسه والعبد فرض عليه طاعة سيده والإنسان هنا مع الحق على حالين حالة عبودية وحالة إجارة فمن كونه عبدا يكون مكلفا بالفرض كالصلاة المفروضة والزكاة وجميع الفرائض ولا أجر له عليها جملة واحدة في أداء فرضه بل له ما يمتن به عليه سيده من النعم التي هي أفضل من الأجور لا على جهة الأجر ثم إن الله تعالى ندبه إلى عبادته في أمور ليست عليه فرضا فعلى تلك الأعمال المندوب إليها فرضت الأجور فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته عليها وإن لم يتقرب لم يطلب بها ولا عوتب عليها فمن هنا كان العبد حكمه حكم الأجنبي في الإجارة فالفرض له الجزاء الذي يقابله فإنه العهد الذي بين الله وعباده والنوافل لها الأجور وهي قوله تعالى ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا الحديث فالنافلة أنتجت له المحبة الإلهية ليكون الحق سمعه وبصره والمحبة الإلهية هي التي أنزلته من الحق منزلة أن يكون الحق سمعه وبصره والعلة في ذلك أن المتنفل عبد اختيار كالأجير فإذا اختار الإنسان أن يكون عبد الله لا عبد هواه فقد آثر الله على هواه وهو في الفرائض عبد اضطرار لا عبد اختيار فتلك العبودية أوجبت عليه خدمة سيده فيما افترضه عليه فبين الإنسان في عبوديته الاضطرارية وبين عبوديته الاختيار ما بين الأجير والعبد المملوك فالعبد الأصلي ما له على سيده استحقاق إلا ما لا بد منه يأكل من سيده ويلبس من سيده ويقوم بواجبات مقامه فلا يزال في دار سيده ليلا ونهارا لا يبرح إلا إذا وجهه في شغله فهو في الدنيا مع الله وفي القيامة مع الله وفي الجنة مع الله فإنها جميعها ملك سيده فيتصرف فيها تصرف الملاك والأجير ماله سوى ما عين له من الأجرة منها نفقته وكسوته وماله دخول على حرم سيده ومؤجره ولا الاطلاع على أسراره ولا تصرف في ملكه إلا بقدر ما استوجر عليه فإذا انقضت مدة إجارته وأخذ أجرته فارق مؤجره واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقيقة ولا نسبة تطلب من استأجره إلا أن يمن عليه رب المال بأن يبعث خلفه ويجالسه ويخلع عليه فذلك من باب المنة وقد ارتفعت عنه في الدار الآخرة عبودية الاختيار فإن تفطنت فقد نبهتك على مقام جليل تعرف منه من أي مقام قالت الأنبياء مع كونهم عبيدا مخلصين له لم يملكهم هوى أنفسهم ولا أحد من خلق الله ومع هذا قالوا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله فيعلم إن ذلك راجع إلى دخولهم تحت حكم الأسماء الإلهية فمن هناك وقعت الإجارة فهم في الاضطرار والحقيقة عبيد الذات وهم لها ملك وصارت الأسماء الإلهية تطلبهم لظهور آثارها فيهم فلهم الاختيار في الدخول تحت أي اسم إلهي شاءوا وقد علمت الأسماء الإلهية ذلك فعينت لهم الأسماء الإلهية الأجور يطلب كل اسم إلهي من هذا العبد الذاتي أن يؤثره على غيره من الأسماء الإلهية بخدمته فيقول له ادخل تحت أمري وأنا أعطيك كذا وكذا فلا يزال في خدمة ذلك الاسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية الذات فيترك كل اسم إلهي ويقوم لدعوة سيده فإذا فعل ما أمره به حينئذ رجع إلى أي اسم شاء ولهذا يتنفل الإنسان ويتعبد بما شاء حتى يسمع إقامة الصلاة المفروضة فتحرم عليه كل نافلة ويبادر إلى أداء فرض سيده ومالكه فإذا فرغ دخل في أي نافلة شاء فهو في التشبيه في هذه المسألة كعبد لسيده أولاد كثيرة فهو مع سيده بحكم عبودية الاضطرار إذا أمره سيده لم يشتغل بغير أمره وإذا فرغ من أداء ذلك طلب أولاد سيده منه أن يسخروه فلا بد أن يعينوا له ما يرغبه في خدمتهم وكل ولد يحب أن يأخذه لخدمته في وقت فراغه من شغل سيده فيتنافسون في أجره ليستخلصوه إليهم فهو مخير مع أي ولد يخدم في ذلك الوقت فالإنسان هو العبد والسيد هو الله والأولاد سائر الأسماء الإلهية فإذا رأى هذا العبد ملهوفا فأغاثه فيعلم أنه تحت تسخير الاسم المغيث فيكون له من المغيث ما عين له في ذلك من الأجر وإذا رأى ضعيفا في نفسه فتلطف به كان تحت تسخير الاسم اللطيف وكذلك ما بقي من الأسماء فتحقق يا ولي كيف تخدم ربك وسيدك وكن على علم صحيح في نفسك وفي سيدك تكن من العلماء الراسخين في العلم الحكماء الإلهيين وتفز بالدرجة القصوى والمكانة العليا مع الرسل والأنبياء ويحوي أيضا هذا المنزل على علم التخلق بالأسماء الإلهية كلها وأعني بالكل ما وصل إلينا العلم بها وعلم التمييز وأين يناله العبد وتقدير الزمان الذي بينه وبين الوصول إليه وعلم التفاضل الإلهي بين الله وبين عباده في مثل قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ما الوجه الذي جمعهم حتى كان الحق في ذلك الوجه أكمل ولا مفاضلة بين الله وخلقه إذ كان السيد هو الذي لا يكاثر ولا يفاضل والكل عبيد له ولا مفاضلة بين السيد وعبده من حيث هو عبد بل السيد له الفضل أجمعه وعلم مراتب أهل التصديق أهل التكذيب من مراتب أهل الكفر والشرك وغيرهم وعلم التمني أي اسم إلهي يطلبه وعلم الصفات التي يكرهها السيد من العبد وما السبب الموجب للعبد حتى يدخل فيما يكرهه سيده هل من حقيقة هو عليها تطلب ذلك أو هو راجع إلى القضاء والقدر خاصة وعلم القلوب وعلم العلامات وعلم الإصرار وبما يتعلق وقد بيناه في كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن في قوله تعالى في آل عمران ولَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا فانظره هناك وعلم الجزاء الدنياوي والأخراوي وقد بيناه في التفسير لنا في فاتحة الكتاب في قوله تعالى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وعلم التقوى وعلم الفرقان وعلم القرآن وعلم الشدائد والأهوال ولما ذا ترجع وكون أيام الدجال من سنة وشهر وجمعة وسائر أيامه كالأيام المعهودة هل ذلك راجع إلى شدة الفجاة فإن الهم بولد كبير أو بصغر كلما دام واستصحبه الإنسان هان عليه ما يجد حتى إن المعاقب بالضرب ما يحس به إلا في أول ما يقع به مقدارا قليلا ثم لما يتخدر موضع الضرب فلا يحس به وعلم الانفراد بالحق لأهل الشقاء ما فائدته ولما ذا يرجع وعلم المكر والخداع والكيد والاستدراج والفرق بين هذه المراتب وأصحابها وعلم الصبر وعلم عقوبة من لم يصبر ومتى يكون صابرا وعلم العناية وعلم الاجتباء وعلم منازل الصالحين وهو علم غريب شريف ما رأيت من العارفين من |


