الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى الغربة |
ما تتعلق به هذه الهمة فإن تعلقت بمحال لم يقع وعاد وبالها على صاحبها فأثر في نفسه بهمته وإن تعلقت بما ليس بمحال وقع ولا بد وهنا من هذه الطائفة تعلقت بالمحال وهو نفي العلم عن الله ببعض أعمال العباد فعذبهم الله بأعمالهم فظنهم أرداهم وهذه مسألة لا يمكننا أن أو فيها حقها لاتساعها وما يدخل فيها مما لا ينبغي أن يقال ولا يذاع غير أن لها النفوذ حيث وجدت فإذا لم تجتمع ودخلها خلل فليس لها هذا الحكم فلو إن هؤلاء الذين ظنوا بربهم أنه لا يعلم كثيرا مما يعملون يظنون أن الله لا يؤاخذ على الجريمة لما هو عليه من الصفح والتجاوز وتحجبهم جمعيتهم على هذا عن بطشه تعالى وشديد عقابه لم يؤاخذهم فإن ظنهم أنما تعلق بممكن وأما همة الحقيقة التي هي جمع الهمم بصفاء الإلهام فتلك همم الشيوخ الأكابر من أهل الله الذين جمعوا هممهم على الحق وصيروها واحدة لاحدية المتعلق هربا من الكثرة وطلبا لتوحيد الكثرة أو للتوحيد فإن العارفين أنفوا من الكثرة لا من أحديتها في الصفات كانت أو في النسب أو في الأسماء وهم متميزون في ذلك أي هم على طبقات مختلفة وإن الله يعاملهم بحسب ما هم عليه لا يردهم عن ذلك إذ لكل مقام وجه إلى الحق وإنما يفعل ذلك ليتميز الكثير الاختصاص بالله الذي اصطنعه الله لنفسه من عباد الله عن غيره من العبيد فإن الله أنزل العالم بحسب المراتب لتعمير المراتب فلو لم يقع التفاضل في العالم لكان بعض المراتب معطلا غير عامر وما في الوجود شيء معطل بل هو معمور كله فلا بد لكل مرتبة من عامر يكون حكمه بحسب مرتبته ولذلك فضل العالم بعضه بعضا وأصله في الإلهيات الأسماء الإلهية أين إحاطة العالم من إحاطة المريد من إحاطة القادر فتميز العالم عن المريد والمريد عن القادر بمرتبة المتعلق فالعالم أعم إحاطة فقد زاد وفضل على المريد والقادر بشيء لا يكون للمريد ولا للقادر من حيث إنه مريد وقادر فإنه يعلم نفسه تعالى ولا يتصف بالقدرة على نفسه ولا بالإرادة لوجوده إذ من حقيقة الإرادة أن لا تتعلق إلا بمعدوم والله موجود ومن شأن القدرة أن لا تتعلق إلا بممكن أو واجب بالغير وهو واجب الوجود لنفسه فمن هناك ظهر التفاضل في العالم لتفاضل المراتب فلا بد من تفاضل العامرين لها فلا بد من التفاضل في العالم إذ هو العامر لها الظاهر بها وهذا مما لا يدرك كشفا بل إدراكه بصفاء الإلهام فيكشف المكاشف عمارة المراتب بكشفه للعامرين لها ولا يعلم التفاضل إلا بصفاء الإلهام الإلهي فقد نبهناك على معرفة الهمة بكلام مبسوط في إيجاز فافهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الموفي ثلاثين ومائتان في الغربة»تغرب عن الأوطان والحال والحق *** عساك تحوز الأمر في مقعد الصدق وكن نافذا في كل أمر ترومه *** ولا تدهشن إن جاءك الحق بالحق ولو لا وجود الفتق في الأرض والسما *** لما دارت الأفلاك من شدة الرتق كذاك سماوات العقول وأرضها *** وأعني بها الطبع المؤثر في الخلق فدارت بأفلاك القوي ثم أبرزت *** معارفها للسامعين من النطق [أن الغربة عبارة عن مفارقة الوطن في طلب المقصود]اعلم أن الغربة عند الطائفة يطلقونها ويريدون بها مفارقة الوطن في طلب المقصود ويطلقونها في اغتراب الحال فيقولون في الغربة الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه والغربة عن الحق غربة عن المعرفة من الدهش أما غربتهم عن الأوطان بمفارقتهم إياها فهو لما عندهم من الركون إلى المألوفات فيحجبهم ذلك عن مقصودهم الذي طلبوه بالتوبة وأعطتهم اليقظة وهم غير عارفين بوجه الحق في الأشياء فيتخيلون إن مقصودهم لا يحصل لهم إلا بمفارقة الوطن وأن الحق خارج عن أوطانهم كما فعل أبو يزيد البسطامي لما كان في هذا المقام خرج من بسطام في طلب الحق فوقع به رجل من رجال الله في طريقه فقال له با أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك قال طلب الحق قال له الرجل إن الذي تطلبه قد تركته ببسطام فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له فكان منه ما كان فهؤلاء هم السائحون فجعل الله سياحة هذه الأمة الجهاد في سبيل الله واعلم أن هذا الأمر ليس باختيار العبد وإنما صاحب هذا الأمر يطلب وجود قلبه مع ربه في حاله فإذا لم يجده في موضع يقول ربما إن الله تعالى لم يقدر أن يظهر إلى قلبي في هذا الموضع فيرحل عنه رجاء الحصول لما علم إن الله تعالى قد رتب أمورا واقتضى علمه أزلا أنه لا يكون كذا إلا بموضع كذا وبطالع كذا وبسبب كذا فلما حكم عليه هذا الإمكان وفقد قلبه في بعض المواطن عن وجود متقدم أولا عن وجود رحل عن ذلك الموطن رجاء حصول البغية هذا سبب اغترابهم عن الأوطان وأمثاله فإن بعضهم قد يفارق وطنه لما كان فيه من العزة فإذا رأى أنه قد زاد عزا بالزهد والتوبة أو لم يكن مذكورا فاشتهر بالتوبة والخير فأورثه عزا في قلوب الناس فوقع الإقبال عليه بالتعظيم فيفر ويغترب عن وطنه إلى مكان لا يعرف فيه لمعرفته بنفسه مع ربه فإن تعظيم الناس للشخص سم قاتل مؤثر فيه أثرا يؤديه إلى الهلاك وهذا أيضا من الأسباب المؤدية إلى مفارقة الموطن والاغتراب عن الأهل فحيث وجد قلبه مع الله أقام أخبرني شيخي أبو الحسين ابن الصائغ الزاهد المحدث بسبتة قال سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن رزق رحمه الله في سياحة كنا معه فيها اقرأ عليه بعض أجزاء الحديث وكان صاحب رواية يقول مررت في سياحتي بمسجد خراب في فلاة من الأرض فقلت أدخل اركع فيه ركعتين فدخلته فوجدت قلبي فقعدت فيه سنتين فأين زمان ركعتين من سنتين فمطلوبهم بالغربة عن الأوطان وجود القلب مع الله فحيثما وجدوه قاموا في ذلك الموضع قال بعضهم كنت مارا إلى مكة فرأيت في الطريق شابا تحت شجرة وهو يصلي في البرية وحده فقلت له أ لا تمشي إلى مكة فقال لي كنت أسير إلى مكة عام أول فلما مررت بهذه الشجرة وجدت قلبي فلي هنا سنة لا أبرح من هذا الموضع إلا إن فقدت قلبي قال فبعد سنة مررت بذلك الموضع وبتلك الشجرة فلم أجد الشاب فمشيت غير بعيد فإذا بالشاب قائم يصلي فسلمت عليه فعرفني فقلت له رأيتك قد تركت تلك السمرة فقال لي لما فقدت قلبي أخذت في طريقي الذي نويت أولا أريد مكة فانتهيت إلى هذا الموضع فوجدت قلبي فإنا به أيضا مقيم فقلت له من أين طعامك وشرابك قال من عنده يجيئني به في الوقت الذي يريد أن يغذيني قال فتركته وانصرفت وما أدري ما انتهى إليه أمره بعد ذلك فقد يطلبون بالغربة وجود قلوبهم مع الله [غربة العارفين]وأما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم فإن الممكن وطنه الإمكان فيكشف له أنه الحق والحق ليس وطنه الإمكان فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود ولما كان الممكن في وطنه الذي هو العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له كن فسارع إلى الوجود فكان ليرى موجدة فاغترب عن وطنه الذي هو العدم رغبة في شهود من قال له كن فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات ولم يشهد الحق الذي سارع إلى الوجود من أجله وفي هذه الحال قلت إذا ما بدا الكون الغريب لناظري *** حننت إلى الأوطان حن الركائب يقول فأردت الرجوع إلى العدم فإني أقرب إلى الحق في حال اتصافي بالعدم مني إليه في حال اتصافي بالوجود لما في الوجود من الدعوى وطلب حالة الفناء عن الحق للبقاء بالحق هو أن يرجع إلى حالة العدم التي كان عليها فهذه غربة أيضا موجودة واقعة عن وطن بغير اختيار العبد ومن غربة العارفين بالله غربتهم عن صفاتهم عند وجودهم الحق عين صفاتهم وهذه غربة حقيقية فإن الصفة مضافة إليهم بكلام الله وهو الصادق فهم أهل صفة ولكن ما هي تلك الصفة وإلى من تضاف حقيقة فإن العالم يضاف إلى الله بأنه عبد الله كما إن الله مضاف إلى العالم فإنه رب العالمين فإضافة العبد مستندة إلى إضافة الحق فأول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة فكانت الدنيا وطننا واتخذنا فيها أوطانا فاغتربنا عنها بحالة تسمى سفر أو سياحة إلى أن اغتربنا عنها بالكلية إلى موطن يسمى البرزخ فعمرناه مدة الموت فكان وطننا ثم اغتربنا عنه بالبعث إلى أرض الساهرة فمنا من جعلها وطنا أعني القيامة ومنا من لم يجعله وطنا فإنه ظرف زماني والإنسان في تلك الأرض كالماشي في سفره بين المنزلتين ويتخذ بعد ذلك أحد الموطنين إما الجنة وإما النار فلا يخرج بعد ذلك ولا يغترب وهذه هي آخر الأوطان آخر الأوطان التي ينزلها الإنسان ليس بعدها وطن مع البقاء الأبدي وأما قولهم في الغربة إنها الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه فتلك غربة أخرى وذلك أن أصحاب الأحوال لا شك أن لهم النفوذ والتحكم وبها يكون خرق العوائد لهم المشهورة في العالم فإذا اطلعوا على إن الحال لا أثر له فيما ظهر له من الفعل عند قيامه بهم فيما أعطاه الكشف لم يرضوا به فاغتربوا عنه وقالوا الوقوف معه وبال على صاحبه فيرون أن الغربة عنه غاية السعادة وأنه من أعظم |