الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة مقام الفكر وأسراره |
أنه ما يعطيه إلا بحسب حاله في قوله إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي الحديث فلهذا رجحت الطائفة ذكر لفظة الله وحدها أو ضميرها من غير تقييد فما قصدوا لفظة دون استحضار ما يستحقه المسمى وبهذا المعنى يكون ذكر الحق عبده باسم عام لجميع الفضائل اللائقة به التي تكون في مقابلة ذكر العبد ربه بالاسم الله فالذكر من العبد باستحضار والذكر من الحق بحضور لأنا مشهودون له معلومون وهو لنا معلوم لا مشهود فلهذا كان لنا الاستحضار وله الحضور فالعلماء يستحضرونه في القوة الذاكرة والعامة تستحضره في القوة المتخيلة ومن عباد الله العلماء بالله من يستحضره في القوتين يستحضره في القوة الذاكرة عقلا وشرعا وفي القوة المتخيلة شرعا وكشفا وهذا أتم الذكر لأنه ذكره بكله ومن ذلك الباب يكون ذكر الله له [ما وصف الله بالكثرة شيئا إلا الذكر وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر]ثم إن الله ما وصف بالكثرة شيئا إلا الذكر وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر قال والذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً والذَّاكِراتِ وقال اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً وما أتى الذكر قط إلا بالاسم الله خاصة معرى عن التقييد فقال فَاذْكُرُوا الله وما قال بكذا وقال ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ولم يقل بكذا وقال اذْكُرُوا الله في أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ولم يقل بكذا وقال فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْها ولم يقل بكذا وقال فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ ولم يقل بكذا [ذكر الخاصة من العباد الذين يحفظ الله بهم البلاد]وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا تقوم الساعة حتى لا يبق على وجه الأرض من يقول الله الله فما قيده بأمر زائد على هذا اللفظ لأنه ذكر الخاصة من عباده الذين يحفظ الله بهم عالم الدنيا وكل دار يكونون فيها فإذا لم يبق في الدنيا منهم أحد لم يبق للدنيا سبب حافظ يحفظها الله من أجله فتزول وتخرب وكم من قائل الله باق في ذلك الوقت ولكن ما هو ذاكر بالاستحضار الذي ذكرناه فلهذا لم يعتبر اللفظ دون الاستحضار وإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لأنهم لم يسمعوا بذكر شركائهم واشمأزت قلوبهم هذا مع علمهم بأنهم هم الذين وضعوها آلهة ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ فإنهم إن سموهم قامت الحجة عليهم فلا يسمى الله إلا الله [درجات الذكر عند العارفين والملامية]ودرجات الذكر عند العارفين من أهل الله إحدى وخمسون وتسعمائة درجة وعند الملامية تسع مائة وعشرون درجة (الباب الثالث والأربعون ومائة في معرفة مقام ترك الذكر)لا يترك الذكر إلا من يشاهده *** وليس يشهده من ليس يذكره فقد تحيرت في أمري وفيه فأين *** الحق بينهما عينا فأوثره ما إن ذكرتك إلا قام لي علم *** فحين أبصره في الحين يستره فلا أزال مع الأحوال أشهده *** ولا أزال مع الأنفاس أذكره ولا يزال لدى الأعيان يشهدني *** ولا يزال مع الأسماء يظهر هو [هو الهوية وضمير الغائب]لا يكتب هنا هو إلا بالواو لتعرف الهوية لا أنه ضمير [الإطلاق تقييد ولا فائدة للتقييد إلا التمييز]اعلم وفقك الله أن الذكر أفضل من تركه فإن تركه إنما يكون عن شهود والشهود لا يصح أن يكون مطلقا والذكر له الإطلاق ولكن الذكر الذي ذكرناه لا الذكر بالتسبيح والتهليل وغيره من الذكر المقيد فلو كان ترك الذكر لا عن شهود كنا ننظر هل كان سبب تركه مما يقتضي الإطلاق فتحكم فيه بالتساوي والأحوال مقيدة بلا شك وإن كان الإطلاق تقييدا لأنه قد تميز عن المقيد وسرى في المقيدات كيف ما قلت وبنفس ما تميز فقد تقيد بما نميز به فالإطلاق تقييد وأعظم ما يقال فيه إنه مجهول لا يعرف فما خرج بهذا الوصف عن التقييد لأنه قد تميز عن المعلوم [التقييد حاكم لكنه متفاضل أعلاه تقييد في إطلاق]فعلى كل حال ما ثم إلا مقيد وما ثم في ما لا ثم إلا مقيد فالعدم هو ما لا ثم وهو متميز عن الوجود والوجود متميز عن العدم فما ثم معلوم ولا مجهول إلا وهو متميز فالتقييد له الحكم وما بقي إلا تقييد متفاضل أعلاه تقييد في إطلاق وهو ذكر الله والجهل به والحيرة فيه [فضل الوجود يعطى الذكر وأنس الشهود ينسيه]وترك الذكر أولى بالشهود *** فذكر الله أولى بالوجود فكن إن شئت في جود الشهود *** وكن إن شئت في فضل الوجود (الباب الرابع والأربعون ومائة في معرفة مقام الفكر وأسراره)إن التفكر في الآيات والعبر *** ليس التفكر في الأحكام والقدر إن التفكر حال لست أجهله *** فالله قرره في الآي والسور لو لا التفكر كان الناس في دعة *** وفي نعيم مع الأرواح في سرر الفكر نعت طبيعي وليس له *** حكم على أحد يدري سوى البشر ولو يكون الذي قلناه ما نظرت *** بالغا عيني إلى الأحوال والصور به المؤثر والأسماء قائمة *** تنفذ الأمر في بدو وفي حضر [الفكر بمعنى الاعتبار هو نعت طبيعى خاص بالبشر]اعلم وفقك الله أن الفكر ليس بنعت إلهي إلا إذا كان بمعنى التدبير والتردد في الأولى فحينئذ يكون نعتا إلهيا وأما الفكر بمعنى الاعتبار فهو نعت طبيعي ولا يكون في أحد من المخلوقين سوى هذا الصنف البشري وهو لأهل العبر الناظرين في الموجودات من حيث ما هي دلالات لا من حيث أعيانها ولا من حيث ما تعطي حقائقها قال تعالى ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ فإذا تفكروا أفادهم ذلك التفكر علما لم يكن عندهم فقالوا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ فما عدلوا إلى الاستجارة به من عذاب النار إلا وقد أعطاهم الفكر في خلق السموات والأرض علما أشهدهم النار ذلك العلم فطلبوا من الله أن يحول بينهم وبين عذاب النار وهكذا فائدة كل مفكر فيه إذا أعطى للمفكر علما ما يسأل الله منه بحسب ما يعطيه [أمر الشارع بالتفكر وهو نعت طبيعى ليكون عبادة وهي مقام روحى]فمقام الفكر لا يتعدى النظر في الإله من كونه إلها وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة الألوهية من التعظيم والإجلال والافتقار إليه بالذات وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ليكون عبادة يؤجر عليها فإنه إذا كان عملا مشروعا للعبد أثمر له ما لا يثمر له إذا اتصف به لا من حيث ما هو مشروع [ليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا]وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا فإن الشرع قد منع من التفكر في ذات الله وإلى ذلك الإشارة بقوله ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ أي لا تتفكروا فيها وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات الخلق وأهل الله لما علموا مرتبة الفكر وأنه غاية علماء الرسوم وأهل الاعتبار من الصالحين وأنه يعطي المناسبات بين الأشياء تركوه لأهله وأنفوا منه أن يكون حالا لهم كما سيأتي في باب ترك الفكر [كيف يفوز صاحب الفكر بالصواب مع أن الفكر حال لا يعطى العصمة]والفكر حال لا يعطي العصمة ولهذا مقامه خطر لأن صاحبه لا يدري هل يصيب أو يخطئ لأنه قابل للاصابة والخطاء فإذا أراد صاحبه أن يفوز بالصواب فيه غالبا في العلم بالله فليبحث عن كل آية نزلت في القرآن فيها ذكر التفكر والاعتبار ولا يتعدى ما جاء من ذلك في غير كتاب ولا سنة متواترة فإن الله ما ذكر في القرآن أمرا يتفكر فيه ونص على إيجاده عبرة أو قرن معه التفكر إلا والإصابة معه والحفظ وحصول المقصود منه الذي أراده الله لا بد من ذلك لأن الحق ما نصبه وخصه في هذا الموضع دون غيره إلا وقد مكن العبد من الوصول إلى علم ما قصد به هناك فقد ألقيت بك على الطريق وهكذا وجده أهل الله [التزم الموضوعات التي نصبها الحق ميدانا للفكر ولا تتعد بالأمور مراتبها ولا تعدل بالآيات إلى غير منازلها]فإن تعديت آيات التفكر إلى آيات العقل أو آيات السمع أو آيات العلم أو آيات الايمان واستعملت فيها الفكر لم تصب جملة واحدة فالتزم الآيات التي نصبها الحق لقوم يتفكرون ولا تتعدى بالأمور مراتبها ولا تعدل بالآيات إلى غير منازلها وإذا سلكت على ما قلته لك حمدت مسعاك وشكرتني على ذلك فابحث على كل آية عبرة وتفكر تسعد إن شاء الله تعالى وكذلك الآيات التي فيها النظر من هذا الباب الفكري مثل قوله تعالى أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ومثل قوله أَ ولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والْأَرْضِ وكذلك أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ وقوله أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الآية وكذلك آيات التدبر من هذا الباب مثل قوله أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ واجعل بالك إذا ذكر الله شيئا من ذلك بأي اسم ذكره فلا تتعدى التفكر فيه من حيث ذلك الاسم إن أردت الإصابة للمعنى المقصود لله مثل قوله أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فانظر فيه من حيث ما هو قرآن لا من حيث ما هو كلام الله ولا من حيث ما هو فرقان ولا من حيث ما هو ذكر من قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [كل اسم في القرآن له حكم وتعيينه بالذكر كى يفهم ذلك الحكم من ذلك الاسم]فكل اسم له حكم وما عينه الحق في الذكر إلا حتى يفهمه عباده ويعلمهم كيف ينزلون الأشياء منازلها فتلك الحكمة وصاحبها الحكيم وقد مدح الله من شرفه بالحكمة فقال ويُعَلِّمُهُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وقال وآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخِطابِ وقال ومن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ |