«يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر» المسكر الذي يخامر العقل «والميسر» القمار «والأنصاب» الأصنام «والأزلام» قداح الاستقسام «رجس» خبيث مستقذر «من عمل الشيطان» الذي يزيّنه «فاجتنبوه» أي الرجس المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه «لعلكم تفلحون».
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119 « (
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» فلا يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ، بل تخاف الناس ولا يخافون ، وتحزن الناس ولا يحزنون . . .
[ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ] «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالرضى منا ومنه - الوجه الأول - رضي اللّه عنهم : بما أعطوه من بذل المجهود ، وغير بذل المجهود «وَرَضُوا عَنْهُ» بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ، لكن العلم والحكمة غالبة - الوجه الثاني - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» : بما أعطاه العبد من نفسه رضي اللّه به ، ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ، فرضي اللّه منك إذا أعطيت ما كلفك حد الاستطاعة التي لا حرج عليك فيها «وَرَضُوا عَنْهُ» رضي العبد من اللّه بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن اللّه في ذلك ، فإن متعلق الرضى القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ، بما أعطيته منك ، وهو يعلم أن الاستطاعة فوق ما أعطيته - الوجه الثالث - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» في يسير العمل «وَرَضُوا عَنْهُ» في يسير الثواب ، لأنه لا يتمكن تحصيل ما لا يتناهى في الوجود ، لأنه لا يتناهى ، فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا والآخرة من الخير والنعم فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه بحصوله ، وما قدم اللّه رضاه عن عبيده ، بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم إلا ليرضوا عنه في يسير الثواب ، لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل إليهم . - الوجه الرابع - أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جلاله ، ثم أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ، فقال تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .
وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه واقع
منهم[ تحقيق الرضا ]
- تحقيق الرضا - اعلم أن اللّه تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإنه إذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقيت الحكم ، فكل شيء بقضاء وقدر ، أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا : يجب الإيمان به أنه شر كما يجب الإيمان بالخير أنه خير ، فنقول : إنه يجب علي الإيمان بالشر أنه شر ، وأنه ليس إلى اللّه من كونه شرا ، لا من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ، فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو إلى اللّه ، ومن كونه شرا ليس إلى اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه : والشر ليس إليك ، فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه .
------------
(119) الفتوحات ج 2 /
222 - ج 4 /
351 ، 432 - ج 2 /
212 - ج 4 /
351 - ج 2 /
212 - ج 4 /
27 ، 18 - ج 2 /
212
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، وهو القمار .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : الشطرنج من الميسر . رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عبيس بن مرحوم ، عن حاتم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان : أو اثنين منهم - قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .
وروي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب وقالا حتى الكعاب ، والجوز ، والبيض التي تلعب بها الصبيان ، وقال موسى بن عقبة ، عن نافع عن ابن عمر قال : الميسر هو القمار .
وقال الضحاك عن ابن عباس قال : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة .
وقال مالك عن داود بن الحصين : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين .
وقال الزهري عن الأعرج قال : الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار .
وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو من الميسر .
رواهن ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر " . حديث غريب .
وكأن المراد بهذا هو النرد ، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم ، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " . وفي موطأ مالك ومسند أحمد ، وسنن أبي داود وابن ماجه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " . وروي موقوفا عن أبي موسى من قوله ، فالله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا الجعيد ، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي ، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول : أخبرني ، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عبد الرحمن : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل الذي يلعب بالنرد ، ثم يقوم فيصلي ، مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي " .
وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : إنه شر من النرد . وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ، ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد ، وكرهه الشافعي ، رحمهم الله تعالى .
وأما الأنصاب ، فقال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن ، وغير واحد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها .
وأما الأزلام فقالوا أيضا : هي قداح كانوا يستقسمون بها .
وقوله : ( رجس من عمل الشيطان ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي سخط من عمل الشيطان . وقال سعيد بن جبير : إثم . وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان .
( فاجتنبوه ) الضمير عائد على الرجس ، أي اتركوه ( لعلكم تفلحون ) وهذا ترغيب .
فيه سبع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيُّ منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية : ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وتقدم اشتقاقها. وأما {الميسر} فقد مضى في البقرة القول فيه. وأما الأنصاب فقيل : هي الأصنام. وقيل : هي النرد والشطرنج؛ ويأتي بيانهما في سورة يونس عند قوله تعالى {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [
يونس : 32]. وأما الأزلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها. ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره. الثانية: تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [
البقرة : 219] أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [
النساء : 43] فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر : انتهينا انتهينا. وقد مضى في البقرة والنساء. وروى أبو داود عن ابن عباس قال {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [
النساء : 43] ، و {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [
البقرة : 219] نسختها التي في المائدة. {إنما الخمر والميسر والأنصاب}. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت فيّ آيات من القرآن؛ وفيه قال : وأتيت على نفر من الأنصار؛ فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا، وذلك قبل أن تحرم الخمر؛ قال : فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال : فأكلت وشربت معهم؛ قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار؛ قال : فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}. الثالثة: هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [
النساء : 43] على ما تقدم. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي عليّ رضي الله عنهما وجبَّ أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر؛ ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا : إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم. الرابعة: قوله تعالى {رجس} قال ابن عباس في هذه الآية : (رجس) سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس. والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير. والرجس يقال للأمرين. ومعنى {من عمل الشيطان} أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل : هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها. الخامسة: قوله تعالى {فاجتنبوه} يريد أبعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى {قل لا أجد} وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك؛ يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك. ثم علق {لعلكم تفلحون} فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم. السادسة: فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم. فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؛ فكم من محرم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا : قوله تعالى {رجس} يدل على نجاستها؛ فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة. وسيأتي في سورة الحج ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى. السابعة: قوله {فاجتنبوه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هل علمت أن الله حرمها) قال : لا، قال : فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بم ساررته) ؟ قال : أمرته ببيعها؛ فقال : (إن الذي حرم شربها حرم بيعها) ، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) الحديث. الثامنة: أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك. التاسعة: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال : (لا) ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون : لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن مسعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة : إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال : لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده. قال أبو عمر : احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول : دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت. وروى أشهب عن مالك قال : إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ابن عبدالحكم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها. العاشرة: لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب، وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه. الحادية عشرة: ذكر ابن خويز منداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها. وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله. الثانية عشرة: هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} الآية. ثم قال {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل : إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى؛ قيل له : قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة؛ ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر، ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر؛ فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة. والله أعلم. الثالثة عشرة: مُهدي الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، بل بين له الحكم؛ ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء؛ إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدم في سورة البقرة والحمد لله؛ وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر. وقد مضى في صدر هذه السورة القول، في الأنصاب والأزلام. والحمد لله. الرابعة عشرة: قوله تعالى {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها. روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن؛ فأنزل الله {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} الآية. الخامسة عشرة: قوله تعالى {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} يقول : إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي : بعبدالرحمن كما تقدم في النساء. وقال عبيدالله بن عمر : سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال : كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد : تأول قوله تعالى {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}. السادسة عشرة: قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال : انتهينا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت؛ فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكاك المدينة. السابعة عشرة: قوله تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف {وأطيعوا الله} لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا. وكرر {وأطيعوا} في ذكر الرسول تأكيدا. ثم حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة؛ فقال {فإن توليتم} أي خالفتم {فإنما على رسولنا البلاغ المبين} في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يُعصى أو يُطاع.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إنما الخمر: وهي كل مسكر يغطي العقل، والميسر: وهو القمار، وذلك يشمل المراهنات ونحوها، مما فيه عوض من الجانبين، وصدٌّ عن ذكر الله، والأنصاب: وهي الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيمًا لها، وما ينصب للعبادة تقربًا إليه، والأزلام: وهي القِداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء، أو الإحجام عنه، إن ذلك كله إثمٌ مِن تزيين الشيطان، فابتعدوا عن هذه الآثام، لعلكم تفوزون بالجنة.
تفسير الآيتين 90 و 91 : يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. { فَاجْتَنِبُوهُ } أي: اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره، والميسر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين، كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها. فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا. والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها. ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان. ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها. ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له. ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسر، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء. فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء. ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو. فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟" فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟" ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ.
وله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) أي : القمار ) ( والأنصاب ) يعني : الأوثان ، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ، واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد ، ونصب بضم النون مخففا ومثقلا ) ( والأزلام ) يعني : الأقداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زلم ) ( رجس ) خبيث مستقذر ، ( من عمل الشيطان ) من تزيينه ، ) ( فاجتنبوه ) رد الكناية إلى الرجس ( لعلكم تفلحون )
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) سبق إعرابها (إِنَّمَا) كافة ومكفوفة.
(الْخَمْرُ) مبتدأ.
(وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) معطوفة.
(رِجْسٌ) خبر المبتدأ.
(مِنْ عَمَلِ) متعلقان بمحذوف صفة الرجس.
(الشَّيْطانِ) مضاف إليه.
(فَاجْتَنِبُوهُ): الفاء رابطة لجواب الشرط المقدر: إذا كان الخمر من عمل الشيطان فاجتنبوه والجملة لا محل لها جواب شرط غير جازم.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): كقوله تعالى في الآية السابقة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
Traslation and Transliteration:
Ya ayyuha allatheena amanoo innama alkhamru waalmaysiru waalansabu waalazlamu rijsun min AAamali alshshaytani faijtaniboohu laAAallakum tuflihoona
O ye who believe! Strong drink and games of chance and idols and divining arrows are only an infamy of Satan's handiwork. Leave it aside in order that ye may succeed.
Ey inananlar, şarap, kumar, tapınmak için dikilmiş olan taşlar, fal için kullanılan oklar, ancak Şeytan'ın işlerindendir ve birer pisliktir bunlar. Bunlardan kaçının da muradına erenlerden olun.
O les croyants! Le vin, le jeu de hasard, les pierres dressées, les flèches de divination ne sont qu'une abomination, œuvre du Diable. Ecartez-vous en, afin que vous réussissiez.
Ihr, die den Iman verinnerlicht habt! Khamr, Glücksspiel, Opfersteine und Alazlam sind doch nur Unreinheiten aus dem Werke des Satans, so meidet sie, damit ihr erfolgreich werdet.