المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة سبإ: [الآية 19]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة سبإ | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
(1) ما : هنا اسم موصول أي الذي .
" قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» وهي أن تقوم من أجل اللّه ، إذا رأيت من فعل اللّه في كونه ما أمرك أن تقوم له فيه ، إما غيرة وإما تعظيم «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى» فقوله في القيام مثنى ، باللّه ورسوله ، فإنه من أطاع الرسول قد أطاع اللّه ، فقمت للّه بكتاب أو سنة ، لا تقوم عن هوى نفس ولا غيرة طبيعية ولا تعظيم كوني «وَفُرادى» إما باللّه خاصة أو لرسوله خاصة ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ لا أرى أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الحديث عني فيقول : أتل به عليّ قرآنا ؛ إنه واللّه لمثل القرآن أو أكثر ]
فقوله صلّى اللّه عليه وسلم [ أو أكثر ] في رفع المنزلة ، فإن القرآن بينه وبين اللّه فيه الروح الأمين ، والحديث من اللّه إليه ، ومعلوم أن القرب في الإسناد أعظم من البعد فيه ، ولو بشخص واحد ينقص في الطريق ، فبهذا كان الحديث أكثر من القرآن ، وغايته أن يكون إذا نزل عن هذه الطبقة مثله ، وما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى الأكثرية إلا والأمر أكثر بلا شك ، فلا ينبغي لواعظ أن يخرج في وعظه عن الكتاب أو السنة
وقد يكون قوله : «مَثْنى» يريد به التعاون في القيام للّه تعالى في ذلك الأمر ، وصورة التعاون أن الشرع في نفس الأمر أنكر هذا الفعل ممن صدر عنه عليه ، فينبغي للعالم المؤمن أن يقوم مع المشرّع في ذلك فيعينه ، فيكون اثنان هو والشرع ، وفرادى أن يكون هذا المنكر لا يعلم أنه معين للشرع في إنكاره ووعظه ، فيقول قد انفردت بهذا الأمر ، وما هو إلا معين للشرع وللملك الذي يقول بلمته للفاعل لا تفعل ، إذ يقول له الشيطان بلمته افعل ، فيكون مع الملك مثنى ، فإن الملك مكلّف بأن ينهى العبد الذي قد ألزمه اللّه به أن ينهاه فيما كلفه اللّه به أن ينهاه عنه ، فيساعده الإنسان على ذلك ، فيكون ممن قام للّه في ذلك مثنى ، ويكون هذا الوعظ مع وعظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثنى «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ولا تكون الفكرة إلا في دليل على صدقه أنه رسول من عند اللّه ، وهذا يعني أنه يوصل إلى معرفة الرسول بالدليل .
[ سورة سبإ (34) : آية 47 ]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
[ "قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» الآية ]
- الوجه الأول - «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» فيما بلغه عن اللّه إليهم «فَهُوَ لَكُمْ» «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» فإنه تعالى هو الذي استخدمه في التبليغ . واعلم أن أجر التبليغ على قدر ما ناله في البلاغ من المشقة من المخالفين له من أمته التي بعث إليها ، ولما قاساه ، ولا يعلم قدر ذلك من كل رسول إلا اللّه ، واعلم أن اللّه تعالى له المنة على عباده بأن هداهم للإيمان برسله ، فوجب شكر اللّه وحلاوة الرسول ، فيضمنها اللّه عنهم بأن جعل أجر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم عليه ، وضم في ذلك الأجر ما يجب على المؤمنين من الحلاوة لما هداهم اللّه به ، وذلك على نوعين : النوع الواحد على قدر معرفتهم بمنزلته ممن أرسله إليهم وهو اللّه ، فإن اللّه تعالى فضّل بعضهم على بعض ، والنوع الثاني على قدر ما جاء به في رسالته ، مما هو بشرى لصاحب تلك الصفة التي من قامت به كان سعيدا عند اللّه ، فما كان ينبغي أن يقابله به ذلك الرجل هو الذي يعطيه الحق ، فإن ساوى حال المؤمن قدر الرسالة كان ، وإن قصر حاله عما تقتضيه تلك الرسالة من التعظيم فإن اللّه يكرمه ، لا ينظر إلى جهل الجاهل بتعظيم قدرها ، فيوفيه الحق تعالى على قدر علمه فيها ، فانظر ما للرسول عليه السلام من الأجور ، فأجر التبليغ أجر استحقاق ، وأما من سأل من الصحابة عن أمر من الأمور ، مما لم ينزل فيه قرآن ، فنزل فيه قرآن من أجل سؤاله ، فإن للرسول على ذلك السائل أجر استحقاق ينوب اللّه عنه فيه ، زائدا على الأجر الذي له من اللّه ، وأما من رد رسالته من أمته التي بعث إليها فإن له عند اللّه أيضا أجر المصيبة ، وللمصاب فيما يحب أجر ، فأجره على اللّه أيضا على عدد من رد ذلك من أمته ، بلغوا ما بلغوا ، وله من أجر المصاب أجر مصائب العصاة ، فإنه نوع من أنواع الرزايا في حقه ، فإنه ما جاء بأمر يطلب العمل به ، إلا والذي يترك العمل به قد عصى ، فللرسول أجر المصيبة والرزية ، وهذا كله على اللّه الوفاء به لكل رسول - الوجه الثاني - «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» فإن اللّه تعالى اختص محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بفضيلة لم ينلها غيره من الرسل ،
فإنه تعالى قال لكل رسول (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)
*وعاد فضل هذه الفضيلة على أمته ، ورجع حكمه صلّى اللّه عليه وسلم إلى حكم الرسل قبله في إبقاء أجره على اللّه ، فأمره الحق أن يأخذ أجره الذي له على رسالته من أمته ، وهو أن يوادوا قرابته ، فبعد أن قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول لأمته (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي على تبليغ ما جئت به إليكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ولم يقل إنّه ليس له أجر على اللّه ولا إنّه
بقي له أجر على اللّه ، وذلك ليجدد له النعم بتعريف ما يسرّ به فقيل له بعد هذا : قل لأمتك أمرا ما قاله رسول لأمته «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» فما أسقط الأجر عن أمته في مودتهم للقربى ، وإنما رد ذلك الأجر بعد تعيينه عليهم ، فعاد ذلك الأجر عليهم الذي كان يستحقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فيعود فضل المودة على أهل المودة ، فما يدري أحد ما لأهل المودة في قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من الأجر إلا اللّه .
------------
(46) الفتوحات ج 3 / 561 ، 563 - ج 2 / 620تفسير ابن كثير:
( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ) ، وقرأ آخرون : " بعد بين أسفارنا " ، وذلك أنهم بطروا هذه النعمة - كما قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وغير واحد - وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في من وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة; ولهذا قال لهم : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ) [ البقرة : 61 ] ، وقال تعالى : ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) [ القصص : 58 ] ، وقال تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) [ النحل : 112 ] . وقال في حق هؤلاء : ( وظلموا أنفسهم ) أي : بكفرهم ، ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) أي : جعلناهم حديثا للناس ، وسمرا يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا; ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : " تفرقوا أيدي سبأ " " وأيادي سبأ " و " تفرقوا شذر مذر " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، سمعت أبي يقول : سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ ، قال : ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان [ عن يمين وشمال ] ) إلى قوله : ( فأرسلنا عليهم سيل العرم ) وكانت فيهم كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء ، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال ، وإنه خبر أن زوال أمرهم قد دنا ، وأن العذاب قد أظلهم . فلم يدر كيف يصنع; لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا - : إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا تناولتك فالطمني . فقال : يا أبت ، لا تفعل ، إن هذا أمر عظيم ، وأمر شديد ، قال : يا بني ، قد حدث أمر لا بد منه . فلم يزل به حتى وافاه على ذلك . فلما أصبحوا واجتمع الناس ، قال : يا بني ، افعل كذا وكذا . فأبى ، فانتهره أبوه ، فأجابه ، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه ، فوثب على أبيه فلطمه ، فقال : ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة . قالوا : وما تصنع بالشفرة ؟ قال : أذبحه . قالوا : تذبح ابنك . الطمه أو اصنع ما بدا لك . قال : فأبى ، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك . فأبى إلا أن يذبحه . قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه . قال : فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي فيه ، اشتروا مني دوري ، اشتروا مني أرضي ، فلم يزل حتى باع دوره وأراضيه وعقاره ، فلما صار الثمن في يده وأحرزه ، قال : أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم دارا جديدا ، وجملا شديدا ، وسفرا بعيدا ، فليلحق بعمان . ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير - وكلمة ، قال إبراهيم : لم أحفظها - فليلحق ببصرى ، ومن أراد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل ، فليلحق بيثرب ذات نخل . فأطاعه قومه فخرج أهل عمان إلى عمان . وخرجت غسان إلى بصرى . وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل . قال : فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان : هذا مكان صالح ، لا نبغي به بدلا . فأقاموا به ، فسموا لذلك خزاعة ، لأنهم انخزعوا من أصحابهم ، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة ، وتوجه أهل عمان إلى عمان ، وتوجهت غسان إلى بصرى .
هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن ، بسبب استشعاره بإرسال العرم فقال : وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري - : أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب ، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم . فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه ، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقالعمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي . وعرض أمواله ، فقال أشراف من أشراف اليمن : اغتنموا غضبة عمرو . فاشتروا منه أمواله ، وانتقل هو في ولده وولد ولده . وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر . فباعوا أموالهم ، وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد " عك " مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم عك ، وكانت حربهم سجالا . ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي :
وعك بن عدنان الذين تلقبوا بغسان ، حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له .
قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد ، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ، ونزلت الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت خزاعة مرا . ونزلت أزد السراة السراة ، ونزلت أزد عمان عمان ، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات .
وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق ، إلا أنه قال : " فأمر ابن أخيه " ، مكان " ابنه " ، إلى قوله : " فباع ماله وارتحل بأهله ، فتفرقوا " . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، أخبرنا [ سلمة ] ، عن ابن إسحاق قال : يزعمون أن عمرو بن عامر - وهو عم القوم - كان كاهنا ، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم . فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ، ومزاد جديد - فليلحق بكاس أو كرود . قال : فكانت وادعة بن عمرو . ومن كان منكم ذا هم مدن ، وأمر دعن ، فليلحق بأرض شن . فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم : بارق . ومن كان منكم يريد عيشا آنيا ، وحرما آمنا ، فليلحق بالأرزين . فكانت خزاعة . ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل . فكانت الأوس والخزرج ، وهما هذان الحيان من الأنصار . ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا ، فليلحق بكوثي وبصرى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام . ومن كان منهم بالعراق . قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، فالله أعلم أي ذلك كان .
وقال سعيد ، عن قتادة ، عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان ، فمزقهم الله كل ممزق . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة - واسمه : ميمون بن قيس :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى : ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) أي : إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب ، شكور على النعم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني ، قالا أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد ، عن أبيه - هو سعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن ، إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شيء ، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته " .
وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث أبي إسحاق السبيعي ، به - وهو حديث عزيز - من رواية عمر بن سعد ، عن أبيه . ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة : " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
قال عبد : حدثنا يونس ، عن شيبان ، عن قتادة ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) قال : كان مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
فلما أصابهم ما أصابهم, تفرقوا وتمزقوا, بعدما كانوا مجتمعين, وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهم, وأسمارا للناس, وكان يضرب بهم المثل فيقال: "تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد يتحدث بما جرى لهم، ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال اللّه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبار على المكاره والشدائد, يتحملها لوجه اللّه, ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها, ويعترف, ويثني على من أولاها, ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم, وما جرى منهم وعليهم, عرف بذلك أن تلك العقوبة, جزاء لكفرهم نعمة اللّه, وأن من فعل مثلهم, فُعِلَ به كما فعل بهم، وأن شكر اللّه تعالى, حافظ للنعمة, دافع للنقمة، وأن رسل اللّه, صادقون فيما أخبروا به، وأن الجزاء حق, كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.
تفسير البغوي
( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ، فعجل الله لهم الإجابة . وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بعد بالتشديد من التبعيد ، وقرأ الآخرون : باعد ، بالألف ، وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : " ربنا " برفع الباء ، " باعد " بفتح العين والدال على الخبر ، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا .
( وظلموا أنفسهم ) بالبطر والطغيان . ( فجعلناهم أحاديث ) عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ( ومزقناهم كل ممزق ) فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومر آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر ، وهو جد الأوس والخزرج .
( إن في ذلك لآيات ) لعبرا ودلالات ( لكل صبار ) عن معاصي الله ) ( شكور ) لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء . قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر .
الإعراب:
(فَقالُوا) الجملة مستأنفة (رَبَّنا) منادى بأداة نداء محذوفة ونا مضاف إليه (باعِدْ) فعل دعاء وفاعله مستتر (بَيْنَ) ظرف مكان متعلق بالفعل قبله (أَسْفارِنا) مضاف إليه ونا مضاف إليه والجملة مقول القول (وَظَلَمُوا) الجملة معطوفة (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به والهاء مضاف إليه (فَجَعَلْناهُمْ) الفاء عاطفة وماض وفاعله ومفعوله (أَحادِيثَ) مفعول به ثان لجعلنا (وَمَزَّقْناهُمْ) الجملة معطوفة مثل سابقتها (كُلَّ) نائب مفعول مطلق (مُمَزَّقٍ) مضاف إليه (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (فِي ذلِكَ) اسم الإشارة مجرور بفي متعلقان بالخبر المقدم المحذوف واللام للبعد والكاف للخطاب (لَآياتٍ) اللام لام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (لِكُلِّ) متعلقان بآيات (صَبَّارٍ شَكُورٍ) صفتان.