«ثم جعلناه» أي الإنسان نسل آدم «نطفةّ» منياً «في قرار مكين» هو الرحم.
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
[ «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» ]
فأمر نبيه أن يقول «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ» هذه الفرق التي وفّت النظر استطاعتها التي آتيتها ، فلم تصل إلا إلى التعطيل أو الشرك «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» فإنهم ما تعدوا ما آتاهم اللّه ، فيشفع هنا فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من حيث لا يشعرون ، فإذا نالتهم السعادة بالخروج من النار ، وقد غفر لهم اللّه بسؤال الرسول فيهم إذ قال «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ» حين أمره اللّه بذلك ، وما أمره بهذا الدعاء إلا ليجيبه ، فأجابه في ذلك ، فعرفوا قدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عند ذلك إذا دخلوا الجنة ، فينتمون إليه فيها لأنه السيد الأكبر ، وهذا الدعاء يعم كل من هو بهذه المثابة من وقت آدم إلى نفخة الصعق ، لأنه ما خصص في دعوته إلا من هذه صفته ، ومن ينبغي أن يرحم ويغفر له ، فكل موحد للّه ولو بدليله وإن لم يكن مؤمنا ففي الجنة ، يدخله اللّه خاصة لا غيره ، ويشفع المؤمنون والأنبياء في أهل الكبائر من أهل الإيمان ، لأن الأنبياء بعثت بالخير وهو الإيمان ، والموحدون الذين لم يؤمنوا لكونهم ما بعث إليهم رسول ، أو كانوا في فترة ، فهم الذين يحشر كل واحد منهم أمة وحده ، فإن بعث في أمة - هو فيهم - رسول فلم يؤمن به مع علمه بأحدية خالقه دخل النار ، فما يخرج منها إلا بإخراج خالقه ، لأن الخلود في النار لا يكون بالنص لأهل التوحيد بأي وجه حصل لهم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم [ من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ]
ولم يقل يقول ولا يؤمن ، وإنما ذكر العلم خاصة ، فلا يبقى في النار إلا مشرك أو معطل لا عن شبهة ولا عن نظر مستوف في النظر قوته ، فلم يبق في النار إلا المقلدة الذين كان في قوتهم واستعدادهم أن ينظروا فما نظرو
- مسئلة -قوله تعالى : «خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» من باب المفاضلة ، فمعلوم أنه ما يرحم أحد من المخلوقين أحدا إلا بالرحمة التي أوجدها الرحمن فيه ، فهي رحمته تعالى ، لا رحمتهم ، ظهرت
في صورة مخلوق ، كما قال في [ سمع اللّه لمن حمده ] أن ذلك القول هو قول اللّه على لسان عبده ، فقوله تعالى الذي سمعه موسى أتم في الشرف من قوله تعالى على لسان قائل ، فوقع التفاضل بالمحل الذي سمع منه القول المعلوم أنه قول اللّه ،
وكذلك أيضا رحمته من حيث ظهورها من مخلوق أدنى من رحمته بعبده في غير صورة مخلوق ، فتعيّن التفاضل والأفضلية بالمحال ، إلا أن رحمة اللّه بعبده في صورة المخلوق تكون عظيمة ، فإنه يرحم عن ذوق ، فيزيل برحمته ما يجده الراحم من الألم في نفسه من هذا المرحوم ، والحق ليس كذلك ، فرحمته خالصة لا يعود عليه منها إزالة ألم ، فهو خير الراحمين ، فرحمة المخلوق عن شفقة ورحمة اللّه مطلقة .
(24) سورة النّور مدنيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(118) الفتوحات ج 3 /
285 ، 553
( ثم جعلناه نطفة ) : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان ، كما قال في الآية الأخرى : ( وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 7 ، 8 ] أي : ضعيف ، كما قال : ( ألم نخلقكم من ماء مهين . فجعلناه في قرار مكين ) ، يعني : الرحم معد لذلك مهيأ له ، ( إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ) [ المرسلات : 22 ، 23 ] ، أي : [ إلى ] مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال ، وصفة إلى صفة
فيه خمس مسائل: الأولى: قوله {ولقد خلقنا الإنسان} الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام؛ قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله {ثم جعلناه} عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك {حتى توارت بالحجاب } [ص- 32] . وقيل : المراد بالسلالة ابن آدم؛ قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المني. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء؛ يقال : سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل؛ ومنه قوله : فسلي ثيابي من ثيابك تنسل فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر : فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ** سلالة فرج كان غير حصين وقال آخر : وما هند إلا مهرة عربية ** سليلة أفراس تجللها بغل وقوله {من طين} أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت : أي من طين خالص؛ فأما ولده فهو من طين ومني، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام. وقال الكلبي : السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة. الثانية: قوله تعالى:{نطفة} قد مضى القول فيالنطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الاحكام في أول الحج، والحمد لله على ذلك. الثالثة:قوله تعالى:{ثم أنشأناه خلقا آخر} اختلف الناس في الخلق الآخر؛ فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا. وعن ابن عباس : خروج إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره. الضحاك : خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد : كمال شبابه؛ وروي عن ابن عمر : والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. الرابعة: قوله {فتبارك الله أحسن الخالقين} يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله {خلقا آخر} قال فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت)."" وفي مسند الطيالسي"" : ونزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية؛ فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين؛ فنزلت {تبارك الله أحسن الخالقين}. ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل. وروي أن قائل ذلك عبدالله بن أبي سرح، وبهذا السبب ارتد وقال : أتي بمثل ما يأتي محمد؛ وفيه نزل {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [الانعام- 93]على ما تقدم بيانه في -الأنعام-. وقوله {فتبارك} تفاعل من البركة. {أحسن الخالقين} أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه؛ ومنه قول الشاعر : ولأنت تقري ما خلقت وبعـ ** ـض القوم يخلق ثم لا يفري وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى. وقال ابن جريج : إنما قال {أحسن الخالقين} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم. مسألة : من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا : الله أعلم؛ فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس؟ فقال : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس -خلق ابن آدم من سبع- بهذه الآية، وبقوله -وجعل رزقه في سبع- قوله {فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا} [عبس 27 : 31] الآية. السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء؛ هذا قول. وقيل : القضب البقول لأنها تقضب؛ فهي رزق ابن آدم. وقيل : القضب والأب للأنعام، والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للأنعام؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
ثم خلقنا بنيه متناسلين مِن نطفة: هي مني الرجال تخرج من أصلابهم، فتستقر متمكنة في أرحام النساء.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ } أي: جنس الآدميين { نُطْفَةً } تخرج من بين الصلب والترائب، فتستقر { فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } وهو الرحم، محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك.
( ثم جعلناه نطفة ) يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة ، ( في قرار مكين ) حريز ، وهو الرحم ، ومكن . [ أي : قد هيئ ] لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها .
(ثُمَّ) حرف عطف (جَعَلْناهُ) ماض وفاعله ومفعول به أول (نُطْفَةً) مفعول به ثان (فِي قَرارٍ) متعلقان بمحذوف صفة (مَكِينٍ) صفة قرار
Traslation and Transliteration:
Thumma jaAAalnahu nutfatan fee qararin makeenin
Then placed him as a drop (of seed) in a safe lodging;
Sonra onu, sağlam bir karar yurdunda bir katre su kıldık.
puis Nous en fîmes une goutte de sperme dans un reposoir solide.
Dann machten WIR ihn als Nutfa in einem gefestigten Aufenthaltsort.
![](/images/arrowtop.jpg) |
بيانات السورة |
اسم السورة |
سورة المؤمنون (Al-Muminun - The Believers) |
ترتيبها |
23 |
عدد آياتها |
118 |
عدد كلماتها |
1051 |
عدد حروفها |
4354 |
معنى اسمها |
(المُؤْمِنُونَ): جَمْعُ (مُؤْمِنٍ)، وَهُوَ مَنِ اتَّصَفَ بِالإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: قَولٌ باللِسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالجَنَانِ؛ أَيِ: الْقَلْبُ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ |
سبب تسميتها |
صِفَاتُ المُؤْمِنِينَ هِيَ المَوضُوعُ البَارِزُ في السُّورَةِ؛ لِذَا بِهَا افْتُتِحَتْ؛ وَبِهَا سُمِّيَتْ |
أسماؤها الأخرى |
اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (المُؤْمِنُونَ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (قَدْ أَفلَحَ)، وَسُورَةَ (الْفَلاحِ) |
مقاصدها |
التَّرْكِيزُ عَلَى مَسَائِلِ الإِيمَانِ، وَبَيَانُ صِفَاتِ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَذِكْرُ مَنْ خَالَفَهُمْ، وبَيَانُ مَصِيرِهِمْ |
أسباب نزولها |
سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ |
فضلها |
خَصَّهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّلَوَاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ ﷺ قَرَأَهَا فِي صَلاةِ الصُّبْحِ. (رَوَاهُ مُسْلِم) |
مناسبتها |
مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (المُؤْمِنُونَ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ فَلاحِ المُؤْمِنِينَ وَخَسَارَةِ الْكَافِرِينَ، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١﴾، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ١١٧﴾.
مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (المُؤْمِنُونَ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الحَجِّ): لَمَّا اخْتُتِمَتِ (الحَجُّ) بِإِرْشَادِ المُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْمَالِ الفَلَاحِ بِقَولِهِ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧﴾ افْتَتَحَ (المُؤْمِنُونَ) بِذِكْرِ الْفَلَاحِ فَقَالَ: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١﴾. |