المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 133]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ، وعلى الكفار من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : ( ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه .
قال النحاس : والعرب تسمي العم أبا ، نقله القرطبي ; وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبا وحجب به الإخوة ، كما هو قول الصديق . حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ، ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف ; وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة ; وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ولتقريرها موضع آخر .
وقوله : ( إلها واحدا ) أي : نوحده بالألوهية ، ولا نشرك به شيئا غيره ( ونحن له مسلمون ) أي : مطيعون خاضعون كما قال تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) [ آل عمران : 83 ] وسلم والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] . والآيات في هذا كثيرة والأحاديث ، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } أي: حضورا { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي: مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا: { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } فلا نشرك به شيئا, ولا نعدل به أحدا، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.
تفسير البغوي
{أم كنتم شهداء} يعني أكنتم شهداء، يريد ما كنتم شهداء حضوراً.
{إذ حضر يعقوب الموت} أي حين قرب يعقوب من الموت، قيل: نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فعلى هذا القول يكون الخطاب لليهود، وقال الكلبي: "لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك".
فقال عز وجل: {إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} قال عطاء: {إن الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الحياة والموت فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم، ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق".
وكان إسماعيل عماً لهم والعرب تسمى العم أباً كما تسمى الخالة أماً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عم الرجل صنو أبيه"، وقال في عمه العباس: "ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعرة بن مسعود" وذلك أنهم قتلوه.
{إلهاً واحداً} نصب على البدل في قوله إلهك وقيل نعرفه إلهاً واحداً.
{ونحن له مسلمون}.
الإعراب:
(أَمْ) عاطفة متصلة أو بمعنى بل فتكون منقطعة.
(كُنْتُمْ) كان واسمها.
(شُهَداءَ) خبرها.
(إِذْ) ظرف لما مضى من الزمن متعلق بشهداء في محل نصب.
(حَضَرَ) فعل ماض.
(يَعْقُوبَ) مفعول به مقدم.
(الْمَوْتُ) فاعل مؤخر والجملة في محل جر بالإضافة.
(إِذْ) ظرف بدل من إذ الأولى.
(قالَ) فعل ماض والفاعل هو والجملة في محل جر بالإضافة.
(لِبَنِيهِ) اللام حرف جر، بني اسم مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم متعلقان بالفعل قال.
(ما تَعْبُدُونَ) ما اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، تعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل.
(مِنْ بَعْدِي) بعدي اسم مجرور بالكسرة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم والياء في محل جر بالإضافة ومتعلقان بتعبدون وجملة (ما تَعْبُدُونَ) مقول القول في محل نصب مفعول به.
(قالُوا) فعل وفاعل والجملة استئنافية.
(نَعْبُدُ) فعل مضارع.
(إِلهَكَ) مفعول به.
(وَإِلهَ) معطوفة.
(آبائِكَ) مضاف إليه.
(إِبْراهِيمَ) بدل من آبائك مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
(وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) معطوفان على ابراهيم.
(إِلهًا) بدل من إله آبائك منصوب.
(واحِدًا) صفة إله وجملة (نَعْبُدُ إِلهَكَ) مفعول به لقالوا.
(وَنَحْنُ) الواو حالية نحن مبتدأ.
(لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمسلمون.
(مُسْلِمُونَ) خبر مرفوع بالواو الجملة حالية.