المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 128]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
قوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )
قال ابن جرير : يعنيان بذلك ، واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحصني القرشي ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عبد الكريم : ( واجعلنا مسلمين لك ) قال : مخلصين لك ، ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال : مخلصة .
وقال أيضا : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا المقدمي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية ( واجعلنا مسلمين ) قال : كانا مسلمين ، ولكنهما سألاه الثبات .
وقال عكرمة : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) قال الله : قد فعلت . ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال الله : قد فعلت .
وقال السدي : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) يعنيان العرب .
قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم ; لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ]
قلت : وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ; فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ; ولهذا قال بعده : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) الآية ، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود ، لقوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة .
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين ، في قوله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعا ، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ; ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم ، عليه السلام : ( إني جاعلك للناس إماما ) قال : ( ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) وهو قوله : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "
" وأرنا مناسكنا " قال ابن جريج ، عن عطاء ( وأرنا مناسكنا ) أخرجها لنا ، علمناها .
وقال مجاهد ( وأرنا مناسكنا ) مذابحنا . وروي عن عطاء أيضا ، وقتادة نحو ذلك .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم : " أرنا مناسكنا " فأتاه جبرائيل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله . ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؟ . ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه . فكبر ورماه . ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه . فكبر ورماه . فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام . فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات . قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها : ثلاث مرار . قال : نعم .
وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك . وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى ، فقال : مناخ الناس هذا . فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جمعا . فقال : هذا المشعر . ثم أتى به عرفة . فقال : هذه عرفة . فقال له جبريل : أعرفت ؟ .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
ودعوا لأنفسهما, وذريتهما بالإسلام, الذي حقيقته, خضوع القلب, وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح. { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي: علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة, ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا: { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
تفسير البغوي
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك.
{ومن ذريتنا} أي أولادنا.
{أمة} جماعة والأمة أتباع الأنبياء.
{مسلمة لك} خاضعة لك.
{وأرنا} علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء و أبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر و أبو بكر في الاسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء، ومن سكنها قال: ذهبت الهمزة فذهبت حركتها.
{مناسكنا} شرائع ديننا وألام حجنا، وقيل: مواضع حجنا، وقال مجاهد: "مذابحنا، والنسك الذبيحة"، وقيل: متعبداتنا.
وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات.
{وتب علينا} تجاوز عنا.
{إنك أنت التواب الرحيم }.
الإعراب:
(رَبَّنا) تقدم إعرابها في الآية السابقة.
(وَاجْعَلْنا) الواو عاطفة، اجعلنا فعل أمر للدعاء ونا مفعول به والفاعل أنت.
(مُسْلِمَيْنِ) مفعول به ثان منصوب بالياء لأنه مثنى.
(لَكَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للمسلمين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره واجعل من ذريتنا وهذه الجملة معطوفة على جملة اجعلنا.
(أُمَّةً) مفعول به ثان للفعل المحذوف اجعل، والجار والمجرور من ذريتنا في موضع مفعوله الأول.
(مُسْلِمَةً) صفة لأمة.
(لَكَ) متعلقان بمسلمة.
(وَأَرِنا) الواو عاطفة أرنا فعل أمر للدعاء مبني على حذف حرف العلة لأن الفعل معتل الآخر ونا مفعول به والفاعل أنت.
(مَناسِكَنا) مفعول به ثان لأرنا والجملة معطوفة على ما قبلها.
(وَتُبْ) الواو عاطفة تب فعل أمر للدعاء والفاعل أنت.
(عَلَيْنا) متعلقان بالفعل تب والجملة معطوفة.
(إِنَّكَ) إن واسمها.
(أَنْتَ) ضمير منفصل مبتدأ.
(التَّوَّابُ) خبر أول.
(الرَّحِيمُ) خبر ثان والجملة الاسمية خبر إنك.