الفتوحات المكية

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 125]

سورة البقرة
وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَٱتَّخِذُوا۟ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِۦمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﴿125﴾

تفسير الجلالين:

«وإذ جعلنا البيت» الكعبة «مثابة للناس» مرجعا يثبون إليه من كل جانب «وأمنا» مأمنا لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فيه فلا يهيجه «واتخذوا» أيها الناس «من مقام إبراهيم» هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت «مصلى» مكان صلاة بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة بفتح الخاء خبر «وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل» أمرناهما «أن» أي بأن «طهِّرا بيتي» من الأوثان «للطائفين والعاكفين» المقيمين فيه «والركع السجود» جمع راكع وساجد المصلين.

تفسير الشيخ محي الدين:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،

فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .

وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:

إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في

أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.

------------

(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434

تفسير ابن كثير:

قال العوفي ، عن ابن عباس : قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) يقول : لا يقضون منه وطرا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مثابة للناس ) يقول : يثوبون .

رواهما ابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : يثوبون إليه ثم يرجعون . قال : وروي عن أبي العالية ، وسعيد بن جبير في رواية وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وعطية ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، نحو ذلك . وقال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثني الوليد بن مسلم قال : قال أبو عمرو يعني الأوزاعي حدثني عبدة بن أبي لبابة ، في قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .

وحدثني يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .

[ وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى ، أورده القرطبي :

جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ]

وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ( مثابة للناس ) أي : مجمعا .

( وأمنا ) قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمنا للناس .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) يقول : أمنا من العدو ، وأن يحمل فيه السلاح ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم ، وهم آمنون لا يسبون .

وروي عن مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، قالوا : من دخله كان آمنا .

ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية : أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس ، أي : جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرا ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، عليه السلام ، في قوله : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) إلى أن قال : ( ربنا وتقبل دعاء ) [ إبراهيم : 37 - 40 ] ويصفه تعالى بأنه جعله أمنا ، من دخله أمن ، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له ، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) [ المائدة : 97 ] أي : يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء ، كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض ، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن ، كما قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا ) [ الحج : 26 ] وقال تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 96 ، 97 ] .

وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده . فقال : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ؟ فقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمر بن شبة النميري ، حدثنا أبو خلف يعني عبد الله بن عيسى حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قال : مقام إبراهيم : الحرم كله . وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك .

وقال [ أيضا ] حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فقال : سمعت ابن عباس قال : أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا ، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ، ثم قال : و ( مقام إبراهيم ) يعد كثير ، " مقام إبراهيم " الحج كله . ثم فسره لي عطاء فقال : التعريف ، وصلاتان بعرفة ، والمشعر ، ومنى ، ورمي الجمار ، والطواف بين الصفا والمروة . فقلت : أفسره ابن عباس ؟ قال : لا ولكن قال : مقام إبراهيم : الحج كله . قلت : أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع . قال : نعم ، سمعته منه .

وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قال : الحجر مقام إبراهيم نبي الله ، قد جعله الله رحمة ، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة . ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه .

[ وقال السدي : المقام : الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه . حكاه القرطبي ، وضعفه ورجحه غيره ، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن ابن جريج ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله ، عز وجل : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .

وقال عثمان بن أبي شيبة : أخبرنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال : قال عمر : قلت : يا رسول الله ، هذا مقام خليل ربنا ؟ قال : نعم ، قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .

وقال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا غيلان بن عبد الصمد ، حدثنا مسروق بن المرزبان ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال : يا رسول الله ، أليس نقوم مقام خليل ربنا ؟ قال : " بلى " . قال : أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد القزويني ، حدثنا علي بن الحسين الجنيد ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ، قال له عمر : يا رسول الله ، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ؟ قال : " نعم " . قال الوليد : قلت لمالك : هكذا حدثك ( واتخذوا ) قال : نعم . هكذا وقع في هذه الرواية . وهو غريب .

وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه .

وقال البخاري : باب قوله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) مثابة يثوبون يرجعون .

حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقال : وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ، فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، فقالت : يا عمر ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ؟ ! فأنزل الله : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) الآية [ التحريم : 5 ] .

وقال ابن أبي مريم : أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثني حميد ، قال : سمعت أنسا عن عمر ، رضي الله عنهما .

هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري . وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة . وروى عنه الباقون بواسطة ، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث ، وإنما لم يسنده ; لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ، كما قال الإمام أحمد فيه : هو سيئ الحفظ ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت آية الحجاب . واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك . ثم رواه أحمد ، عن يحيى وابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس ، عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره .

وقد رواه البخاري عن عمرو بن عون والترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، كلهم عن هشيم بن بشير ، به . ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد ، عن حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ، والنسائي عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، كلاهما عن حميد ، وهو ابن تيرويه الطويل ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زريع ، عن حميد به . وقال : هذا من صحيح الحديث ، وهو بصري ، ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ، ولفظ آخر ، فقال : حدثنا عقبة بن مكرم ، أخبرنا سعيد بن عامر ، عن جويرية بن أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب ، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم .

وقال أبو حاتم الرازي : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقلت : يا رسول الله لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية الحجاب . والثالثة : لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه . قلت : يا رسول الله ، تصلي على هذا الكافر المنافق ! فقال : " إيها عنك يا ابن الخطاب " فنزلت : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) [ التوبة : 84 ] .

وهذا إسناد صحيح أيضا ، ولا تعارض بين هذا ولا هذا ، بل الكل صحيح ، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه ، والله أعلم .

وقال ابن جريج أخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

وقال ابن جرير : حدثنا يوسف بن سلمان حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .

وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ، من حديث حاتم بن إسماعيل .

وروى البخاري بسنده ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين .

فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام ، يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ، عليه السلام ، به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ، حتى تم جدارات الكعبة ، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت ، من رواية ابن عباس عند البخاري . وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفا تعرفه العرب في جاهليتها ; ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا . وقال عبد الله بن وهب : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب : أن أنس بن مالك حدثهم ، قال : رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام ، وإخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم .

وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى .

قلت : وقد كان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل ، عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ; ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه ، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ وهو ] أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ، الذين أمرنا باتباعهم ، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " . وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ; ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين .

قال عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا : قالوا : أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقال عبد الرزاق أيضا عن معمر عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : أول من أخر المقام إلى موضعه الآن ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي أخبرنا أبو [ الحسين بن ] الفضل القطان ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ، حدثنا أبو ثابت ، حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال : قال سفيان [ يعني ابن عيينة ] وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ، فرده عمر إليه .

وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله . قال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا ؟ .

فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه ، والله أعلم .

وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : قال عمر : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟ فأنزل الله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا . قال مجاهد : قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن .

هذا مرسل عن مجاهد ، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه ، مع اعتضاد هذا بما تقدم ، والله أعلم .

قال الحسن البصري : قوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) قال : أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء .

وقال ابن جريج : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( وعهدنا إلى إبراهيم ) أي : أمرناه . كذا قال . والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى ، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا .

وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله : ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين ) قال : من الأوثان .

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : ( طهرا بيتي للطائفين ) إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن عبيد بن عمير ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء وقتادة : ( أن طهرا بيتي ) أي : بلا إله إلا الله ، من الشرك .

وأما قوله تعالى : ( للطائفين ) فالطواف بالبيت معروف . وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى : ( للطائفين ) يعني : من أتاه من غربة ، ( والعاكفين ) المقيمين فيه . وهكذا روي عن قتادة ، والربيع بن أنس : أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ، كما قال سعيد بن جبير .

وقال يحيى [ بن ] القطان ، عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله : ( والعاكفين ) قال : من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون : أنتم من العاكفين .

وقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا كان جالسا فهو من العاكفين .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون . قال : لا تفعل ، فإن ابن عمر سئل عنهم ، فقال : هم العاكفون .

[ ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ، به ] .

قلت : وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .

وأما قوله تعالى : ( والركع السجود ) فقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ( والركع السجود ) قال : إذا كان مصليا فهو من الركع السجود . وكذا قال عطاء وقتادة .

وقال ابن جرير رحمه الله : فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك . ثم أورد سؤالا فقال : فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه ؟ وأجاب بوجهين : أحدهما : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد : ( أن طهرا بيتي ) قال : من الأصنام التي يعبدون ، التي كان المشركون يعظمونها .

قلت : وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم .

الجواب الثاني : أنه أمرهما أن يخلصا [ في ] بنائه لله وحده لا شريك له ، فيبنياه مطهرا من الشرك والريب ، كما قال جل ثناؤه : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ) [ التوبة : 109 ] قال : فكذلك قوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي ) أي : ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ، كما قال السدي : ( أن طهرا بيتي ) ابنيا بيتي للطائفين .

وملخص هذا الجواب : أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ، والمصلين إليه من الركع السجود ، كما قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) الآيات [ الحج : 26 ] .

[ وقد اختلف الفقهاء : أيما أفضل ، الصلاة عند البيت أو الطواف ؟ فقال مالك : الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده ، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا ، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام ] .

والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته ، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] .

ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له ، إما بطواف أو صلاة ، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة : قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ( سواء العاكف فيه والباد ) وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام ; لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام . وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ; لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته ، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك ، فكيف يكونون مقتدين بالخليل ، وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام ، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ( إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 4 ] .

وتقدير الكلام إذا : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) [ أي : تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ] ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) أي : طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله ، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود . وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية ، ومن قوله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ) [ النور : 36 ] ومن السنة من أحاديث كثيرة ، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ، من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك . ولهذا قال عليه السلام : " إنما بنيت المساجد لما بنيت له " . وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة .

وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ، فقيل : الملائكة قبل آدم ، وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ، ذكره القرطبي وحكى لفظه ، وفيه غرابة ، وقيل : آدم عليه السلام ، رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم : أن آدم بناه من خمسة أجبل : من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي ، وهذا غريب أيضا . وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه : أن أول من بناه شيث ، عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها ، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .


تفسير الطبري :

قوله تعالى{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى{جعلنا} بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم. {البيت} يعني الكعبة. {مثابة} أي مرجعا، يقال : ثاب يثوب مثابا ومثابة وثؤوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة : مثابا لأفناء القبائل كلها ** تخب إليها اليعملات الذوامل وقرأ الأعمش{مثابات} على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك. وقال مجاهد : لا يقضي أحد منه وطرأ، قال الشاعر : جعل البيت مثابا لهم ** ليس منه الدهر يقضون الوطر والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الأخفش. وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة. فإن قيل : ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل : ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى أعلم. الثانية : قوله تعالى{وأمنا} استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى{ومن دخله كان آمنا } [آل عمران:97] كأنه قال : آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة : من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله{وأمنا} تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في [المائدة] إن شاء الله تعالى. قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى{واتخذوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على {جعلنا} أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال : وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرأ جمهور القراء {واتخذوا} بكسر الخاء على جهة الأمر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة. قال المهدوي : يجوز أن يكون معطوفا على {اذكروا نعمتي} كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا. أو على معنى قوله{مثابة} لأن معناه ثوبوا. الثانية : روى ابن عمر قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال : قال عمر : وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال : حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر : وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله : لو صليت خلف المقام؟ فنزلت هذه الآية {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت : يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله{وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب : 53]، ونزلت هذه الآية{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [المؤمنون :12]، فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون :14]، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الآية{عسى ربه إن طلقكن } [التحريم :5]. قلت : ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس. الثالثة : قوله تعالى{من مقام} المقام في اللغة : موضع القدمين. قال النحاس{مقام} من قام يقوم، ويكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير : وفيهم مقامات حسان وجوههم ** وأندية ينتابها القول والفعل فمعناه : فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها - أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبدالله وابن عباس وقتادة وغيرهم. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ {قل هو الله أحد} [الإخلاص] و{قل يا أيها الكافرون} [الكافرون]. وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي. وفي البخاري : أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء : الحج كله. وعن عطاء : عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد. قلت : والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقل : اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (ما هذا)؟ فقال : رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال : (ارجع فقد غفر لصاحبك). قال أبو نعيم : حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبدالرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري ابن سوقه، فذكره. قال أبو نعيم : كذا رواه عبدالرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس. ومعنى {مصلى}. مدعى يدعى فيه، قال مجاهد. وقيل : موضع صلاة يصلى عنده، قال قتادة. وقيل : قبلة يقف الإمام عندها، قال الحسن. قوله تعالى{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فيه ست مسائل : الأول : قوله تعالى{وعهدنا} قيل : معناه أمرنا. وقيل : أوحينا. {أن طهرا} {أن} في موضع نصب على تقدير حذف الخافض. وقال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب. وقال الكوفيون : تكون بمعنى القول. و{طهرا} قيل معناه : من الأوثان، عن مجاهد والزهري. وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير : من الآفات والريب. وقيل : من الكفار. وقال السدي : ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجئ مثل قوله{أسس على التقوى} [التوبة : 108]. وقال يمان : بخراه وخلقاه. {بيتي} أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص{بيتي} بفتح الياء، والآخرون بإسكانها. الثانية : قوله تعالى{للطائفين} ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء. وقال سعيد بن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد. {والعاكفين} المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله{للطائفين}. والعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر : عكف النبيط يلعبون الفنزجا وقال مجاهد : العاكفون المجاورون. ابن عباس : المصلون. وقيل : الجالسون بغير طواف والمعنى متقارب. {والركع السجود} أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله. الثالثة : لما قال الله تعالى {أن طهرا بيتي} دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر، والله أعلم. وفي التنزيل {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور:36] وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال : ما هذا! أتدري أين أنت!؟ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين). الرابعة : استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله : إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك : لا يصلى فيه الفرض ولا السنن، ويصلى فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت. وقال أصبغ : يعيد أبدا. قلت : وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال : (هذه القبلة) وهذا نص. فإن قيل : فقد روى البخاري عن ابن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفيه قال : جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا : هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به. فإن قيل : فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال : فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول : (قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون). فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه : فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبدالله بن صفوان قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال : صلى ركعتين. قلنا : هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى{فولوا وجوهكم شطره} [البقرة : 144] على ما يأتي بيانه، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج : (هذه القبلة) فعينها كما عينها الله تعالى. ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال : (هذه القبلة). وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله. الخامسة : واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه. وقال مالك : من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك : يعيد أبدا. وقال أبو حنيفة : من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه. السادسة : واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك : الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. وفي الخبر : (لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا). وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب السابق واللاحق عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا). لم يذكر فيه (وشيوخ ركع). وفي حديث أبي ذر (الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل). خرجه الآجري. والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى أعلم.

التفسير الميسّر:

واذكر -أيها النبي- حين جعلنا الكعبة مرجعًا للناس، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم، لا يُغِير عليهم عدو فيه. وقلنا: اتخِذوا من مقام إبراهيم مكانًا للصلاة فيه، وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة. وأوحينا إلى إبراهيم وابنه إسماعيل: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس؛ للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة، أو الاعتكاف في المسجد، والصلاة فيه.

تفسير السعدي

ثم ذكر تعالى, نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار. ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما. { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج. فيكون معنى قوله: { مُصَلًّى } أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له. { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنجاسات والأقذار, ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي: المصلين، قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد [الحرام]، ثم الاعتكاف, لأن من شرطه المسجد مطلقا، ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى. وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما, ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه. ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.


تفسير البغوي

قال الله تعالى: {وإذ جعلنا البيت} يعني الكعبة.

{مثابة للناس} مرجعاً لهم، قال مجاهد وسعيد بن جبير: "يأتون إليه من كل جانب ويحجون"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "معاذاً وملجأ"، وقال قتادة وعكرمة: "مجمعاً".

{وأمنا} أي مأمناً يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعال: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [67-العنكبوت].

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر".

قوله تعالى: {واتخذوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر.

{من مقام إبراهيم مصلى} قال ابن يمان: "المسجد كله مقام إبراهيم"، وقال إبراهيم النخعي "الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد. والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بيناً فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: "أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله".

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، أو ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} [5-التحريم]".

ورواه محمد بن إسماعيل أيضاً عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: "وافقت ربي في ثلاث؛ قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}".

وأما بدء قصة المقام: فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أتى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال: لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا -كالمستخفة بشأنه- قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله براً أو شعيراً أو تمراً، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك".

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دومة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد

ثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)".

وفي الخبر: ((الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ماسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب )).

قوله عز وجل: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به.

{أن طهرا بيتي} يعنى الكعبة أضافه إليه تخصيصاً وتفضيلاً أي ابنياه على الطهارة والتوحيد،

وقال سعيد بن جبير وعطاء: "طهراه من الأوثان والريب وقول الزور"، وقيل: بخراه وخلقاه.

قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح.

{للطائفين} الدائرين حوله.

{والعاكفين} المقيمين المجاورين.

{والركع} جمع راكع.

{السجود} جمع ساجد وهم المصلون، قال الكلبي ومقاتل: "الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة"، قال عطاء ومجاهد وعكرمة: "الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل".


الإعراب:

(وَإِذْ) تقدم إعرابها.

(جَعَلْنَا) فعل ماض مبني على السكون ونا فاعل.

(الْبَيْتَ) مفعول به أول.

(مَثابَةً) مفعول به ثان لجعل.

(لِلنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بمثابة أو بصفة له.

(وَأَمْنًا) معطوف على مثابة، والجملة في محل جر بالإضافة.

(وَاتَّخِذُوا) الواو عاطفة اتخذوا فعل أمر مبني على حذف النون لا تصاله بواو الجماعة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل. والجملة في محل نصب مقول القول لفعل محذوف معطوف على جعلنا تقديره وقلنا اتخذوا.

(مِنْ مَقامِ) متعلقان باتخذوا أو بمحذوف حال من مصلى.

(إِبْراهِيمَ) مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

(مُصَلًّى) مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة على الألف للتعذر.

(وَعَهِدْنا) الواو عاطفة، عهدنا فعل ماض وفاعل.

(إِلى إِبْراهِيمَ) متعلقان بالفعل قبلهما.

(وَإِسْماعِيلَ) معطوف على ابراهيم.

(أَنْ) تفسيرية.

(طَهِّرا) فعل أمر مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعل.

(بَيْتِيَ) مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء في محل جر بالإضافة.

(لِلطَّائِفِينَ) اسم مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم والجار والمجرور متعلقان بالفعل.

(وَالْعاكِفِينَ) اسم معطوف.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) اسمان معطوفان عاملهما معاملة الاسم الواحد لأنهما من الصلاة وهي واحدة فحذف حرف العطف. وجملة: (عهدنا) معطوفة على جملة جعلنا، وجملة: (طهرا) تفسيرية لا محل لها من الإعراب.

---

Traslation and Transliteration:

Waith jaAAalna albayta mathabatan lilnnasi waamnan waittakhithoo min maqami ibraheema musallan waAAahidna ila ibraheema waismaAAeela an tahhira baytiya lilttaifeena waalAAakifeena waalrrukkaAAi alssujoodi

بيانات السورة

اسم السورة سورة البقرة (Al-Baqara - The Cow)
ترتيبها 2
عدد آياتها 286
عدد كلماتها 6144
عدد حروفها 25613
معنى اسمها (البَقَرَةُ) مِنْ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الأَنعَامِ، وهِيَ: (الإِبِلُ والبَقَرُ وَالغَنَمُ)
سبب تسميتها انفِرَادُ السُّورَةِ بذِكْرِ قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى المَقصِدِ العَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (البَقَرَةِ)، وتُلقَّبُ بِـ(سَنَامِ القُرْآنِ)، و(فُسْطَاطِ القُرْآنِ)، وَ(الزَّهْرَاءِ)
مقاصدها الاسْتِجَابَةُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَالامْتِثَالُ الكَامِلُ لَهُ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنْقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها بَرَكَةٌ عَجِيبَةٌ لِقَارِئِهَا، قَالَ ﷺ: «اقْرَؤُوا البَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخذَها بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). عِلَاجٌ مِنَ السِّحْرِ وَالْعَينِ وَالحَسَدِ، قَالَ ﷺ: «وَلَا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ؛ أَيِ: السَّحَرَةُ». (رَوَاهُ مُسْلِم). طَارِدَةٌ لِلشَّيَاطِينِ، قَالَ ﷺ: «وَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي تُقرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ لَا يدخُلُهُ شَيطَانٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَن أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ منَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم. (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (البَقَرَةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ﴾ ... الآيَاتِ، وقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ﴾... الآيَاتِ.. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (البَقَرَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الفَاتِحَةِ): لَمَّا قَالَ العَبْدُ فِي خِتَامِ (الفَاتِحَةِ): ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦﴾. قِيلَ لَهُ فِي فَاتِحَةِ (البَقَرَةِ): ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢﴾ هُوَ مَطْلُوبُكَ وَفِيهِ حَاجَتُكَ.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!