الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

(البديع حضرة الإبداع)

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[98] - (البديع حضرة الإبداع)

حضرة الإبداع لا مثل لها *** فتعالت حيث عزت إن تنال‏

كلما قلت لها هادي مني *** فاحذر الرمي بها قبل الزوال‏

فأجابتني جوابا شافيا *** ليس هذا من مقالات الرجال‏

إنما الله إله واحد *** ذو كمال لجمال وجلال‏

كلما نطقني الذكر به *** قلت ما ذا قال لي السحر الحلال‏

[الإبداع ما هو]

يدعى صاحبها عبد البديع قال تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وهو ما علا وما سفل وأنت المميز للعالي والسافل لأنك صاحب الجهات فهو بديع كل شي‏ء وليس الإبداع سوى الوجه الخاص الذي له في كل شي‏ء وبه يمتاز عن سائر الأشياء فهو على غير مثال وجودي إلا أنه على مثال نفسه وعينه من حيث إنه ما ظهر عينه في الوجود إلا بحكم عينه في الثبوت من غير زيادة ولا نقصان فمن جعل العلم تصور المعلوم فلا بد للمعلوم من صورة في نفس العالم‏

[إن العلم تصور المعلوم‏]

وأما نحن فلا نقول إن العلم تصور المعلوم على ما قاله صاحب هذا النظر وإنما العلم درك ذات المطلوب على ما هي عليه في نفسه وجودا كان أو عدما ونفيا أو إثباتا وإحالة أو جواز أو وجوبا ليس غير ذلك وإنما يتصور العالم المعلوم إذا كان العالم ممن له خيال وتخيل وما كل عالم يتصور ولا كل معلوم يتصور إلا إن الخيال له قوة وسلطان فيعم جميع المعلومات وبحكم عليها ويجسدها كلها وهو من الضعف بحيث لا يستطيع أن ينقل المحسوس إلى المعنى كما ينقل المعنى إلى الصورة الحسية ومن ضعفه أنه لا يستقل بنفسه فلا بد أن يكون حكمه بين اثنين بين متخيل اسم مفعول ومتخيل اسم فاعل معا فالابتداع على الحقيقة إنشاء ما لا مثل له بالمجموع وبهذا قال الله تعالى ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها فمجموع ما ابتدعوه من العبادة ما كان الحق شرع ذلك لهم فلا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل وقد يبتدع المعاني ولا بد أن تنزل في صورة مادية وهي الألفاظ التي بها يعبر عنها فيقال قد اخترع فلان معنى لم يسبق إليه وكذلك أرباب الهندسة لهم في الإبداع اليد الطولى ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير كل واحد منهم قد اخترع ذلك الأمر في نفسه ثم أظهره فهو مبتدع بلا شك وإن كان له مثل ولكن عند هذا الذي ابتدعه لا سبيل إلا ابتداع الحق تعالى فإنه قال عن نفسه إنه بديع أي خلق ما لا مثل له في مرتبة من مراتب الوجود لأنه عالم بطريق الإحاطة بكل ما دخل في كل مرتبة من مراتب الوجود ولذلك قال في خلقة الإنسان لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً لأن الذكر له تعالى وهو للمذكور منا مرتبة من مراتب الوجود بخلاف المعلوم ومراتب الوجود أربعة عيني وذهني ورقمى ولفظي فالعيني معلوم واللفظي راجع إلى قول القائل في ذكره ما ذكره فللشي‏ء وجود في ذكر من ذكره فلم يكن الإنسان شيئا مذكورا فحدث الإنسان لما حدث ذكره مثل قوله ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فوصف الذكر بالحدوث وإن كان كلامه قديما ولكن الذكر هنا هو التكلم به لا عين الكلام فالكلام موصوف بالقدم لأنه راجع إلى ذات المتكلم إذا أردت كلام الله والمتكلم به ما هو عين الكلام وقد يكون المتكلم به معنى وقد يكون غير معنى ثم إنه ذلك المعنى قد يكون قديما وقد يكون حادثا فالمتكلم به أيضا لا يلزم قدمه ولا حدوثه إلا من حيث إسماع المخاطب فإنه سمع أمرا لم يكن سمعه قبل ذلك فقد حدث عنده كما حدث الضيف عند صاحب المنزل وإن كان موجودا قبل ذلك ولكن في مثل هذا تجوز وهو قولك حدث عندنا اليوم ضيف وأنت تريد عين الشخص وما حدث الشخص وإنما حدث كونه ضيفا عندك وضيفيته عندك لا شك أنها حدثت لأنها لم تكن قبل قدومه عليك فعلى الحقيقة إتيان الذكر على من أتى عليه هو حادث بلا شك لأن ذلك الإتيان الخاص لم يكن موصوفا بالوجود وإن كان الآتي أقدم من إتيانه لا من حيث إتيانه بل من حيث عينه فأصل كل ما سوى الله مبتدع والله هو الذي ابتدعه ولكن من الأشياء ما لها أمثال ومنها ما ليس لها أمثال أعني وجودية هكذا بحكم العين لا الوجود في نفسه فما في الوجود إلا مبتدع وفي الشهود أمثال والعلم يقتضي الوجه الخاص في كل موجود ومعلوم حتى يتميز به عن غيره فكله مبتدع وإن‏

وقع الاشتراك في التعبير عنه كما تقول في الحركة تقول إنها حركة في كل متحرك فيتخيل أنها أمثال وليست على الحقيقة أمثال لأن الحركة من حيث عينها واحدة أي حقيقة واحدة حكمها في كل متحرك فهي عينها في كل متحرك بذاتها فلا مثل لها فهي مبتدعة مهما ظهر حكمها وهكذا جميع المعاني التي توجب الأحكام من أكوان وألوان فافهم فإن لم تعرف كون الحق بديعا على ما ذكرته لك فما هو بديع من جميع الوجوه لأن الجوهر القابل جوهر واحد من حيث حده وحقيقته ولا تتعدد حقيقته بالكثرة والمعنى الموجب لها حكما ما لا يتعدد من حيث حقيقته فهو بحقيقته في كل محكوم عليه بحكمه فما ثم مثل فالبياض في كل أبيض والحركة في كل متحرك فافهم ذلك فكل ما في الوجود مبتدع لله فهو البديع وانظر في قوله تعالى تجده ينبه على هذا الحكم أعني حكم الابتداع ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ من باب الإشارة أي لا يعلم له مثال وما ثم إلا العالم وهو المخاطب بهذا وهو كل ما سوى الله فعلمنا إن الله ينشئ كل منشئ فيما لا يعلم إلا إن أعلمه الله ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ أنها كانت على غير مثال سبق كما هو الأمر في نفسه وكذلك قوله كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وبدأنا على غير مثال فيعيدنا على غير مثال فإن الصورة لا تشبه الصورة ولا المزاج المزاج وقد وردت الأخبار الإلهية بذلك على ألسنة الأنبياء عليه السلام وهم الرسل‏

[إن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق‏]

وهذا يدلك على إن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا كما تحدث صورة المرئي في المرآة ينظر الناظر فيها فهو بذلك النظر كأنه أبدعها مع كونه لا تعمل له في أسبابها ولا يدري ما يحدث فيها ولكن بمجرد النظر في المرآة ظهرت صور هذا أعطاه الحال فما لك في ذلك من التعمل إلا قصدك النظر في المرآة ونظرك فيها مثل قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ وهو قصدك النظر أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وهو بمنزلة النظر فَيَكُونُ وهو بمنزلة الصورة التي تدركها عند نظرك في المرآة ثم إن تلك الصورة ما هي عينك لحكم صفة المرآة فيها من الكبر والصغر والطول والعرض ولا حكم لصورة المرآة فيك فما هي عينك ولا عين ما ظهر ممن ليست أنت من الموجودات الموازية لنظرك في المرآة ولا تلك الصورة غيرك لما لك فيها من الحكم فإنك لا تشك إنك رأيت وجهك ورأيت كل ما في وجهك ظهر لك بنظرك في المرآة من حيث عين ذلك لا من حيث ما طرأ عليه من صفة المرآة فما هو المرئي غيرك ولا عينك كذلك الأمر في وجود العالم والحق أي شي‏ء جعلت مرآة أعني حضرة الأعيان الثابتة أو وجود الحق فأما أن تكون الأعيان الثابتة لله مظاهر فهو حكم المرآة في صورة الرائي فهو عينه وهو الموصوف بحكم المرآة فهو الظاهر في المظاهر بصورة المظاهر أو يكون الوجود الحق هو عين المرآة فترى الأعيان الثابتة من وجود الحق ما يقابلها منه فترى صورتها في تلك المرآة ويتراءى بعضها لبعض ولا ترى ما ترى من حيث ما هي المرآة عليه وإنما ترى ما ترى من حيث ما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان كما لا يشك الناظر وجهه في المرآة إن وجهه رأى وبما للمرآة في ذلك من الحكم يعلم أن وجهه ما رأى فهكذا الأمر فانسب بعد ذلك ما شئت كيف شئت‏

فالكل مبتدع في عين موجدة *** والحق مبتدع لما بدا فظهر

فالعين ثابتة والذات ثابتة *** وكون إبداعه لما أتى فنظر

فما بدت صور إلا لها صور *** منها ومنه فبالمجموع كان أثر


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!